التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6341 6720 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن هشام بن حجير، عن طاوس، سمع أبا هريرة قال: " قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كل تلد غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه -قال سفيان يعني الملك- قل: إن شاء الله. فنسي، فطاف بهن فلم تأت امرأة منهن بولد، إلا واحدة بشق غلام". فقال أبو هريرة يرويه: قال: "لو قال إن شاء الله، لم يحنث وكان دركا في حاجته". وقال مرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لو استثنى". وحدثنا أبو الزناد عن الأعرج مثل حديث أبي هريرة. [انظر: 2819 - مسلم: 1654 - فتح: 11 \ 602]


ذكر فيه حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهط من الأشعريين أستحمله، فقال: "والله لا أحملكم" الحديث، وفيه: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين" الحديث.

[ ص: 425 ] وحديث سفيان ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس ، سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال سليمان : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كل تلد غلاما.. " الحديث، وقد سلف فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "لو قال إن شاء الله، لم يحنث وكان دركا في حاجته" . وقال مرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استثنى". وحدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج مثل حديث أبي هريرة .

الشرح:

قوله في حديث أبي موسى : (فأتي بإبل) وفي رواية: بشائل. وعليها اقتصر ابن بطال، ووقع في رواية أبي رشد بشائل مكان قوله: (بإبل) وانحدر بشوائل إن صحت الرواية.

قال أبو عبيد ، عن الأصمعي : إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهي حينئذ شائل، وجمعها شوائل.

وفي كتاب "العين": ناقة شائلة، ونوق شول: التي جف لبنها، وشولت الإبل لحقت بطونها بظهورها. وبخط الدمياطي : الشائل بلا هاء: الناقة التي تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلا، والجمع شول، مثل راكع وركع، والشائلة ماءها: هي التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر، وقال ابن التين : جاء بلفظ الواحد والمراد به الجمع كالسامر والنادي، وذكر ما أسلفته إلى قوله: راكع. وقال الخطابي : يقال: ناقة شائل إذا قل لبنها، وأصله قولك: شال الشيء إذا ارتفع كالميزان ونحوه، يعني: ندرت برضاع [ ص: 426 ] ألبانها، يقال: شائل وشول كصاحب وصحب، وراكب وركب. وجاء في غير هذه الرواية: فأتي بشوائل، وهي جمع شائل.

قال أبو الحسن : جمع شائلة، الشوائل: القطيع من الإبل.

فصل:

وقوله: (فأمر لنا بثلاث ذود) وفي نسخة: بثلاثة. وأورده ابن التين بثلاث، وقال: كذا وقع هنا، وصوابه (بثلاثة) لأن الذود مؤنث.

فصل:

قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "وكان دركا لحاجته" أي: إدراك له وبلوغ إبل، تقول: مشيت حتى أدركته. وهو بفتح الدال والراء.

وقوله: ("لو استثنى") هو موافق لترجمة الباب، وأما ابن التين فقال: ليس هذا الاستثناء الذي يوضح حكم اليمين ويحيل عقده، وإنما هذا استثناء بمعنى الإقرار لله تعالى، والتسليم، وهو نحو قوله تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [الكهف: 23 - 24] وإنما وقع حكم اليمين إذا نوى الاستثناء في اليمين.

فصل:

اختلف العلماء في الوقت الذي إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفارة ، فقال إبراهيم والحسن والثوري ومالك والكوفيون والأوزاعي والليث والشافعي وأبو عبيد وجمهور العلماء: الثنيا لصاحبها في اليمين ما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا، ولم يقطع كلامه قطعا يشغل عن الاستثناء ما لم يقم من محله أو يسكت وقطع كلامه فلا ثنيا له.

[ ص: 427 ] وفيه قول ثان: وقال الحسن البصري -في رواية- وطاوس : للحالف الاستثناء ما لم يقم من محله، وقال غيره: أو يتكلم.

وفيه قول ثالث: قال أحمد : يكون له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وكذلك قال إسحاق إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى ذلك الأمر.

وقول رابع: عن عطاء رواية أخرى: أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة.

وقول خامس: قال سعيد بن جبير : له ذلك بعد أربعة أشهر.

وسادس: قال مجاهد : له ذاك بعد سنتين.

وسابع: قال ابن عباس : يصح ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة، وقيل: أبدا. حكاه ابن القصار .

وروي عن وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: ليستثن في يمينه متى ذكر . واحتج بقوله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت [الكهف: 24] واحتج من أجاز الاستثناء نظير السكوت بما روى مسعر عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - قال: "والله لأغزون قريشا " ثلاثا، ثم سكت فقال: "إن شاء الله تعالى" أخرجه ابن حبان في "صحيحه".

وروى أبو داود عن قتيبة ، ثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة مرسلا، وقال: أسنده غير واحد عن عكرمة من حديث ابن عباس .

قال أبو داود : قال الوليد بن مسلم ، عن شريك : ثم لم يغزهم.

[ ص: 428 ] ورده ابن القصار بالإرسال، وقال: رواه شريك ، عن سماك عن عكرمة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث مرسل.

قال: ولو صح عن ابن عباس لم يرد به إسقاط الحنث وإنما أراد به -والله أعلم- أن الله تعالى أوجب الاستثناء على كل قائل أنه يفعل شيئا; للآية السالفة. يقول: فإذا نسي (إن شاء الله) فليقله، أي: وقت ذكره ولو بعد سنة حتى تخرج قولك عن المخالفة، لا أنه يجوز هذا في اليمين.

ولو صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أن يكون فيه توكلا للاستثناء; إذ سكوته ليتذكر شيئا أراده في اليمين حتى إذا تممه استثنى. ويجوز أن يكون لانقطاع نفس، أو بشيء شغله عن اتصال الاستثناء حتى يتمكن منه.

ومن حجة أهل المقالة الأولى قوله - عليه السلام -: "من حلف على يمين فرأى غيرها..." الحديث.

ولو أمكنه أن يخرج من هذه اليمين بقوله: إن شاء الله لما أوجب كفارة، ولبطل معنى قوله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم: 2] وكذلك معنى حديث سليمان - عليه السلام - إن كان حلف بالله ليطوفن على نسائه، فإن الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت مخرجة من الحنث لو كان كما زعم من خالف أئمة الفتوى.

وقد قيل: أن قوله: "لأطوفن" لم يكن يمينا على ما يأتي بيانه.

قال المهلب : وإنما جعل الله الاستثناء في اليمين رفقا منه بعباده في أموالهم; ليوفر بذلك الكفارة عليهم؛ إذ ردوا المشيئة إلى الله تعالى.

[ ص: 429 ] فصل:

واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق ، فقال مالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي : لا يجوز فيه استثناء، وروي مثله عن ابن عباس وابن المسيب والشعبي وعطاء والحسن ومكحول وقتادة والزهري .

وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعي والحسن ، ورواية عن عطاء ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وإسحاق ، واحتج لهم بحديث سليمان "لو قال إن شاء الله لم يحنث" فإن قول الحالف: إن شاء الله عامل في جميع الأيمان; لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحلف في الطلاق والعتق وجميع الأيمان، وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما أنه لا يكون إلا في اليمين بالله، وبذلك ورد الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله فلا حنث عليه" أسنده أيوب السختياني وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره مالك في "الموطأ" عن نافع ، عن ابن عمر من قوله.

قال الأبهري : فكان ذكره الاستثناء إنما هو في اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدي ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان [ ص: 430 ] الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التي هي العتق والإطعام والكسوة، وهي أقوى فعلا وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذي هو القول - لم يحله القول; فإن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث سليمان ; لأن ظاهر قوله: "لأطوفن" لم يكن معه يمين، وإنما كان قولا جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله بالحرمان، كما قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تقولن لشيء الآية [الكهف: 23].

وأدب عباده بذلك ليتبرءوا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يمينا بالله يوجب عليه الكفارة فتسقط عنه بالاستثناء.

فإن قلت:

قوله ("لو قال: إن شاء الله لم يحنث") يدل أنه كان يمينا، قيل: معنى قوله: "لم يحنث" لم يأثم على تركه استثناء المشيئة، فلما أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بحرمانه وحنثه، فكأنه يحنث بقوله.

والحنث في لسان العرب: الإثم، ومن لم يرد المشيئة إلى الله في جميع أموره فقد أثم وحرج، والحنث أيضا: أن لا يبر ولا يصدق.

وعبارة أبي عمر بن عبد البر في "استذكاره": أجمعوا أن الاستثناء جائز في اليمين بالله تعالى، واختلفوا في غيرها كما أجمعوا على أن اللغو في اليمين بالله.

وقال الشافعي : له الاستثناء إذا كان موصولا بكلامه، والوصل أن يكون كلامه نسقا، وإن كان بينهما سكتة كسكوت الرجل للتذكر أو التنفس أو القيء، أو انقطاع الصوت فهو استثناء، والقطع أن يأخذ في كلام ليس من اليمين، أو سكت السكوت الذي يبين منه أنه قطع كلامه.

[ ص: 431 ] قال أبو عمر : وعلى نحو هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وأكثر العلماء، وكان قوم من التابعين يرون له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه منهم طاوس والحسن ، وسيأتي بقية ذلك.

فصل:

أنبئونا عن أبي العباس الظاهري ، عن الشيخة أم محمد حبيبة بنت حمد بن نصر الحرانية ، عن الحافظ أبي موسى المديني في كتابه "التبيين لاستثناء اليمين" قال: لا أعلم حديثا في الصحاح أكثر اختلافا في العدد المذكور منه، يعني حديث سليمان هذا، ففي تعليق البخاري : مائة امرأة أو تسعا وتسعين امرأة، قال أبو عبد الله : وتسعين أصح، وفي رواية عنده: "سبعين امرأة"

ولمسلم : "ستون امرأة" وأوله موقوف. قال أبو هريرة : "كان لسليمان ستون امرأة". الحديث، وفي آخره: "أما إنه لو كان استثنى" وفي بعض نسخ مسلم عقب هذه الأحاديث قال مسلم : هذا الاختلاف ليس من قوله - عليه السلام - ولكن من الناقلين على قدر ما كان علمهم يحيط به.

[ ص: 432 ] فصل:

قال: وإنما أخرجه الشيخان مستنبطين منه أن الاستثناء في اليمين رافع للحنث، لا أن سليمان حنث في يمينه، لكنه يدفع الخلاف كما قال: "لكان دركا لحاجته". قال: ولمسلم عن أبي هريرة رفعه: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" .

قلت: ليس هذا في مسلم أصلا، وإنما هو في الترمذي والنسائي وأبي دواد ، وقال الترمذي : إنه خطأ، إنما هو حديث الباب "لأطوفن" إلى آخره، ولأبي دواد من حديث سفيان عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا: "إذا حلف الرجل فقال إن شاء الله فقد استثنى" رواه الأربعة، وحسنه الترمذي ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد.

قال أبو موسى : وسفيان هذا هو ابن عيينة ، وقد كان هذا الحديث أيضا عند الثوري ، وأيوب هذا هو السختياني ، وقد كان هذا الحديث أيضا عند ابن عيينة عن أيوب بن موسى ، ورواه الثوري وعمرو بن الحارث ، عن أيوب بن موسى أيضا، ورواه عن السختياني سوى من ذكرناه مالك بن أنس وموسى بن عقبة وابن علية وعبد الرزاق وحماد بن زيد وعبيد الله بن عمر وعباس بن حميد وكثير بن فرقد ، غير أن بعضهم وثقه.

ثم ساق عن أبي بكر بن خلاد قال: قال حماد بن زيد : كان أيوب يرفع هذا الحديث ثم تركه، وذكر الترمذي أنه لم يرفعه غير أيوب ، قال:

[ ص: 433 ] وكذلك رواه سالم عن ابن عمر موقوفا. قلت: قد رواه هو من حديث موسى بن عقبة ، عن نافع ، عنه مرفوعا: "من حلف على يمين فاستثنى (على أثره) ثم لم يفعل ما قال فلم يحنث" وقال أبو عمر : أوقفه مالك على ابن عمر لم يتجاوزه به، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن عبد الله (موقوفا، ورواه أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا، ورواه السختياني ، عن نافع ، عن عبد الله موقوفا) فمرة يرفعه ومرة لا يرفعه، ومرة قال: لا أعلمه إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه ابن أبي عاصم من حديث حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع يرفعه. وفي "موطأ مالك " عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يقول: من قال: والله ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف لم يحنث .

فصل:

قال مالك : أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبه ما لم يقطع كلامه، وما كان من ذلك تبعا يتبع بعضه بعضا، فإذا سكت وقطع كلامه، فلا ثنيا له.

قال الباجي في "منتقاه": قوله: ما لم يقطع كلامه: يريد أن الاستثناء لا يجوز إفراده بالنطق; لأنه لا يفيد شيئا فلم يجز أن يتراخى عما يتعلق به [ ص: 434 ] كالشرط، وخبر الابتداء، ولا يكون الاستثناء إلا نطقا، فإن نواه من غير نطق لم ينعقد، رواه ابن القاسم وأشهب عن مالك .

وعن مالك أنه كان يقول: من حلف ثم قال: إن شاء الله، ثم أتى الذي حلف عليه أراها له ثنيا، إن كان أراد بها الثنيا، وإن كان إنما قالها لا يريد بها الثنيا إلا لقول الله تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [الكهف: 24] ثم حنث، فإني أرى أن يكفر.

فصل:

قد أسلفنا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "والله لأغزون قريشا " بما فيه.

وقال ابن عدي: أسنده عبد الواحد بن صفوان ، وهو ضعيف عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وفيه: فقال بعد الثالثة: ثم سكت ساعة، ثم قال: "إن شاء الله" والصحيح مرسل.

وقال أبو موسى : هذا الحديث يروى من غير وجه عن مسعر ، عن سماك ، وقال ابن وارة: هو مرسل من غير ذكر ابن عباس ، وهو الأشبه، ورواه أبو مسعود الرازي عن أبي نعيم ، عن مسعر مرسلا، ولو ثبت لم يكن فيه حجة؛ إذ ليس فيه أكثر من أنه سكت، ثم قال: "إن شاء الله" فإنه غزاهم ثم غزاهم، قلت: قد سلف عن شريك أنه لم يغزهم، وقد يؤول في ذلك العام أو الوقت المعين، وإلا فقد غزاهم.

[ ص: 435 ] فصل:

روى ابن أبي عاصم من حديث ضمرة بن حبيب ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه دعاء، وأمره أن يتعاهده: "اللهم ما قلت من قول، أو حلفت من حلف، أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير" .

قال ابن حزم : وذكره من قول أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - موقوفا عليه: كان له استثناؤه يمينه بقية يومه ذلك، ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، أو إلا أن لا يشاء، أو إلا أن أشاء، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي، أو إلا أن يبدو لي، أو إلا أن يشاء فلان، أو إن شاء فلان، فهو استثناء صحيح، وقد سقطت اليمين عنه بذلك، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه، فإن لم يصل الاستثناء، لكن قطع قطع ترك الكلام، ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع بذلك، وقد لزمته اليمين، فإن حنث بها فعليه الكفارة، ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ، وأما نيته دون لفظه فلا ; لقوله - عليه السلام -: "فقال: إن شاء الله". والقول لا يكون إلا باللسان.

قال النخعي : إن استثنى في نفسه فليس بشيء حتى يظهره بلسانه . وقال حماد : وليس بشيء حتى يسمع نفسه . وقال الحسن : إذا حرك لسانه أجزأ عنه في الاستثناء .

قال ابن حزم : وبهذا نقول; لأنه قول صحيح، يعني: حركة اللسان، وأما وصل الاستثناء باليمين فإن أبا ثور قال: لا يكون مستثنيا إلا حتى ينوي الاستثناء في حين نطقه باليمين [ ص: 436 ] لا بعد تمامها; لأنه إذا أتم اليمين ولم ينو فيها الاستثناء كان قد عقد يمينه فلزمته.

فصل:

قال أبو موسى : هذا مع اختلاف ألفاظ حديث أبي هريرة واضطراب إسناد حديث ابن عمر قد أجمع العلماء والفقهاء على القول به، قال: ثم اختلفوا في كيفية الاستثناء ووقته، فأكثرهم على أنه إنما ينفع إذا كان عقب اليمين متصلا به.

وقال أبو عبيد لما ذكر حديث ابن عمر : عليه جماعات العلماء، أن قوله: إن شاء الله، استثناء في يمينه، وإنه لا يكون مع اتصالها حنث في شيء بها إذا كان يريد به الثنيا في الرجوع على ما حلف عليه.

قال أبو موسى : وهذا شرط صحيح; لأن الإنسان قد يقول ذلك تأكيدا لها، وتماما لنجاح ما حلف عليه؛ لما ذكرنا في قصة سليمان ، ولما روينا في حديث أبي موسى الأشعري ، وأنه - عليه السلام - قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين" الحديث.

وليس في كل الروايات لفظة: "إن شاء الله" لأنه ليس بعقد يمين، وإنما هو إخبار عن فعله - عليه السلام - وإن ذكر المشيئة إنما هو تأكيد للخبر وتمام لينجح فعله.

[ ص: 437 ] وقد روينا عن أبي هريرة أنه - عليه السلام - قال: "إن من تمام الإيمان أن يستثني الرجل في كل حديثه" .

قال أبو موسى : وهذا الإسناد وإن لم يكن يصلح أن يحتج به، فحديث أبي موسى الذي تقدم يقويه ويبينه.

فصل:

أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يرى الاستثناء، وإن كان بعد سنة، وتأول قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت [الكهف: 24] هو مروي من حديث الأعمش عن مجاهد عنه، قيل للأعمش : سمعته من مجاهد ؟ قال: لا، حدثني به ليث عنه.

وقال الطبراني : لم يروه عنه عن الأعمش إلا أبو معاوية ، تفرد به يحيى بن سليمان الحنفي .

[ ص: 438 ] وقال أبو موسى : هو حديث غير متصل ولا ثابت، فإن الأعمش قد سمع من مجاهد ولم يسمع هذا منه، ولما رواه عيسى بن يونس عن الأعمش قال: سألته أسمعته من مجاهد ؟ قال: لا، وفي هذا رد على قول الطبراني السالف: لم يروه عن الأعمش إلا أبو معاوية ، ورواه أيضا علي بن مسهر عنه، وذكر الخطيب أن ابن المديني قال: حديث الأعمش عن مجاهد عامتها عن حكيم بن جبير وأولئك - يريد الضعفاء - وقال يحيى بن سعيد : (كتبت) عن الأعمش ، عن مجاهد أحاديث كلها ملزقة لم يسمعها.

وقال وكيع : كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد ، فإذا هي سبعة أو ثمانية ثم حدثناها، وقال أبو معاوية : كنت أحدث الأعمش عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد فيجيئوني بالعشي، فيقولون: ثنا الأعمش عن مجاهد ، فأقول: أنا حدثته، وفي لفظ عن ابن عباس : إنما نزلت هذه الآية في هذا واذكر ربك الآية [الكهف: 24] .

فصل:

روى أبو موسى من حديث يحيى بن سعيد - قرشي كان بفارس - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - صلى الله عليه وسلم - حلف على يمين فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله تعالى ولا تقولن لشيء الآية [الكهف: 23] فاستثنى بعد أربعين ليلة ، ثم قال: هذا لا يثبت عن ابن عباس ; لأن يحيى بن سعيد هذا غير محتج به، وقال فيه الدارقطني : متروك، ولو ثبت هذا عن ابن عباس فيحتمل أن يكون قد رجع عنه، [ ص: 439 ] أو علم أنه كان خاصا بالشارع كما في حديث الوليد بن مسلم ، عن عبد العزيز بن الحصين ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله واذكر ربك إذا نسيت [الكهف: 24] قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت، قال: هي لرسول الله خاصة، وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين .

وقال ابن جريج في هذه الآية، أي: استثن إذا ذكرت، قال: هي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الناس ، ومما يدل على نفي ثبوته عن ابن عباس اختلاف الروايات عنه، ثم اختلاف أصحابه كعطاء ومجاهد وغيرهما، فعطاء روى عنه: أربعين ليلة، وفي رواية: قدر حلب ناقة، وعن طاوس : ما دام في مجلسه، وقال عمرو بن دينار : متى ما ذكر، فلو كان عطاء سمع ذلك من ابن عباس لم يكن يخالفه، ولذلك اختلفت الرواية عن مجاهد ، فروى سالم الأفطس عنه في الآية، قال: هو الاستثناء بعد شهر ، وقد اختلف عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، فقال عكرمة : إذا غضب، أو قال: غضبت ، وعن الضحاك قال: إذا غضبت . قال أبو مسعود بعد ذكره الاختلاف عن التابعين وغيرهم فيه: إنما معنى هذه الأحاديث: إن شاء الله، يقول له: ثنياه (إذا نسي) أن يستثني فيقول: إن شاء الله; لأن الله تعالى قال: ولا تقولن لشيء الآية، فيزول عنه المأثم فأما الكفارة فلا تزول، فهذا كما ترى قد اختلفت الروايات عن عبد الله وأصحابه، وبقي أن الاستثناء هو المتصل باليمين دون المنقطع.

[ ص: 440 ] قال أبو موسى : من قال بجوازه إلى سنة أو سنتين يؤدي إلى إبطال حكم قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته [المائدة: 89] وإبطال حكم ما ورد في الكفارة من الأخبار الصحاح والآثار، وإبطال الكتب المصنفة فيها؛ لأنه إذا جوز إلى سنة أو سنتين (يؤدي إلى إبطال حكم قوله:) جوز إلى ثلاث أو أربع، وما فوق ذلك في السنة أو السنتين نص يقتصر عليه، فيؤدي ذلك إلى أنه متى أراد الاستثناء استثنى، ولا يحتاج إلى كفارة أبدا، وهذا لا يقول به أحد; لأن في ذلك إبطال حكم الكتاب والسنة.

قال ابن عبد البر : كان ابن عباس يرى له الاستثناء أبدا (متى) ذكر، وهو قول ابن جبير ومجاهد .

وقال ابن حزم : صح هذا عن ابن جبير ، وقال أبو العالية وطائفة في ذلك: بمهلة غير محدودة، وقال ابن مسعود : من حلف ثم قال إن شاء الله فهو بالخيار .

(فرع) :

يمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته بصوت أو إشارة ، والرجال والنساء والعبيد والمشركون في ذلك أيضا سواء; لأن الله تعالى قال: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [المائدة: 89] ولم يأت نص بتخصيص عبد من حر، ولا ذات زوج من أيم، ولا بكر من ثيب وما كان ربك نسيا [مريم: 64].

[ ص: 441 ] فرع:

في "الإشراف" لابن هبيرة : اختلفوا هل يجوز العدول إلى الكفارة مع القدرة على الوفاء ، قال أبو حنيفة وأحمد : لا يجوز، وقال الشافعي : الأولى أن لا يعدل، فإن عدل جاز ولزمته الكفارة، وعن مالك روايتان كالمذهبين.

التالي السابق


الخدمات العلمية