التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6397 6779 - حدثنا مكي بن إبراهيم ، عن الجعيد ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب بن يزيد قال : كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين . [ فتح: 12 \ 66 ] .


[ ص: 19 ] ذكر فيه حديث عقبة أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران فشق عليه ، وأمر من في البيت أن يضربوه . قال : فضربوه بالجريد والنعال ، فكنت فيمن ضربه .

وحديث أنس السالف .

وحديث أبي هريرة قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب ، قال :" اضربوه " . وقال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه ، فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله . قال :" لا تقولوا هكذا ، لا تعينوا عليه الشيطان " .

وحديث ( عمير ) بن سعيد النخعي - كذا رواه أبو علي بن السكن ، وأحمد وهو الصواب ، وقاله أبو زيد : سعد بغير ياء . وهو أبو يحيى النخعي ، روى له البخاري ومسلم أيضا ، مات سنة خمس عشرة ومائة - : سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي ، إلا شارب الخمر ، فإنه لو مات وديته ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه

وحديث السائب بن يزيد قال : كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا ( جلد ) ثمانين .

الشرح :

في مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - : فلما كان زمن عمر - رضي الله عنه - دنا الناس من

[ ص: 20 ] الريف والقرى ، قال : ما ترون في جلد الخمر ؟ فقال فيه عبد الرحمن بن عوف : أرى أن ( يجلد ) كأخف الحدود ، قال : فجلد عمر ثمانين .

وفي رواية : أنه - عليه السلام - كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين ، وللبيهقي : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد سكر ، فأمر عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالنعال والجريد .

وفي رواية لأبي داود في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، فقال - عليه السلام - :" بكتوه " فأقبلوا عليه يقولون له : أما اتقيت الله ، أما خشيت الله ، أما استحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي رواية :" ولكن قولوا اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه " .

وفي لفظ البخاري في حديث علي أن عثمان دعا عليا فأمره أن يجلده ثمانين .

ولمسلم : لما جلد عبد الله بن جعفر الوليد بن عقبة ، وعلي يعد حتى بلغ أربعين ، فقال : أمسك ، جلد رسول الله أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي .

[ ص: 21 ] وللبيهقي : لما أرسل خالد إلى عمر : إن الناس قد انهمكوا في الخمر ، ( وتحاقروا ) العقوبة ، فقال علي : نراه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون ، ( قال ) : فأمر بها عمر . قال : وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين . قال : وجلده عثمان أيضا ثمانين وأربعين ، ذكره من حديث الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن ابن وبرة الكلبي ، وكان رسول خالد إلى عمر بهذا . وفي رواية قال علي : هو شيء ضيعناه .

وفي " سنن أبي قرة " : ذكر ابن جريج ، عن زهير ، ( عن رجل ) ، عن عمير بن سعيد ، عن علي أنه قال : من مات في حد من حدود الله فلا دية له إلا في حد الخمر ، فديته في بيت مال المسلمين .

وفي البخاري ، في الباب الذي بعد هذا من حديث عمر : فأمر به فجلد . ويأتي .

وروى الشافعي ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن أزهر قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشارب ، فقال :" اضربوه " فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب ، وحثوا عليه التراب ، وقال - عليه السلام -" بكتوه " ( فبكتوه ) ثم أرسله ، قال : فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب ، فقومه أربعين ، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين حياته ،

[ ص: 22 ] حتى تتابع الناس في الخمر ، ضرب ثمانين ،
ورواه الترمذي عن سعيد بن يحيى ، ثنا أبي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ( أزهر ) به .

وقال أنس بن عياض ، عن يزيد بن الهادي ، ( عن ) محمد عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسألت محمدا عن هذا الحديث ، فقال : اختلفوا فيه ، وحديث أزهر ما أراه بمحفوظ ، وحديث أنس - رضي الله عنه - في هذا الباب حسن ، وقال أبو حاتم وأبو زرعة : لم يسمعه الزهري من ابن أزهر ، يدخل بينهما عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر ، ذكره ابن أبي حاتم عنهما .

وروى أحمد بن حنبل في كتاب " الأشربة " له عن محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، سمعت أبا إسحاق ، سمعت رجلا من أهل نجران : ( سألت ) ابن عمر - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل وعن الزبيب والتمر فقال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل ( نشوان ) قد شرب زبيبا وتمرا فجلده الحد . . الحديث .

وروى النسائي من حديث ابن جريج قال : قلت لعطاء : أخبرني محمد بن علي بن ركانة ، عن عكرمة ، عن مولاه أنه - عليه السلام - لم يؤقت

[ ص: 23 ] في الخمر حدا ، قال : وقال ابن عباس : شرب رجل فسكر فلقي في فج يميل ، فانطلق به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما حاذوا دار ابن عباس أفلت ، فدخل على عباس [ فالتزمه ] من ورائه ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ، وقال :" قد فعلها ؟" ولم يأمر فيه بشيء
.

فصل :

وروى الدارقطني من حديث يحيى بن فليح ، عن ( محمد بن يزيد ) ، عن عكرمة ، عن مولاه أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي ، فكان في خلافة أبي بكر فجلدهم أربعين ، ثم عمر كذلك إلى أن جاء رجلان من المهاجرين فاحتج بقوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا [ المائدة : 93 ] وأنه شهد بدرا والمشاهد .

فقال ابن عباس : إن هذه الآيات نزلت عذرا للماضين وحجة على الناس ؛ لأن الله تعالى قال إنما الخمر والميسر والأنصاب الآية [ المائدة : 90 ] ، فإن كان من الذين آمنوا فإن الله قد نهاه عن شربها ، فقال عمر : صدقت ، ماذا ترون ؟ فقال علي : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة . فأمر عمر فجلده ثمانين
. ورواه الطحاوي في " أحكامه " : عن فهد بن سليمان ، ثنا سعيد بن عفير ، ثنا محمد بن فليح ، عن ثور ، عن عكرمة .

[ ص: 24 ] فصل :

روى ابن عمر ونفر من الصحابة مرفوعا " من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه " وعند أبي داود : القتل في الخامسة .

قال ابن حزم : لا يصح وإنما الصحيح في الرابعة ، وذكر الخامسة من حديث ابن عمر من حديث حميد بن يزيد ، قال ابن القطان : مجهول ، ولابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة ، عن أبي سليمان مولى أم سلمة ، عن أبي اليزيد البلوي : أن رجلا شرب الخمر أربع مرات ، فأمر به - عليه السلام - فضربت عنقه . رواه الترمذي في " علله " من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعا " إذا شرب الخمر فاجلدوه " وقال في الرابعة :" فاقتلوه " ثم ساقه من حديث أبي هريرة قال : وحديث معاوية أشبه وأصح .

قلت : حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد بلفظ : ثم قال في الرابعة :" فإن عاد فاضربوا عنقه " ، وسلف في الأشربة حديث أبي موسى - رضي الله عنه - في القتل أيضا ، وحديث معاوية أخرجه الطبراني أيضا ،

[ ص: 25 ] وأخرجه الدارمي من حديث عمرو بن الشريد ، عن أبيه مرفوعا في الخامسة " فإن عاد فاقتلوه " .

قال ابن أبي حاتم في " علله " : وسئل أبي عن حديث جرير بن عبد الله البجلي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" من شرب الخمر فاجلدوه " . فقال : حديث ابن طهمان أصح ؛ لأنه زاد فيه رجلا . أي : وهو محمد بن حرب ، عن خالد بن جرير ، عن جرير .

قال ابن حزم : وقد روى هذا أيضا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرحبيل بن أوس وعبد الله بن عمرو وأبو غطيف الكندي ، وهو قولنا ولم يثبت النسخ ، وسيأتي له زيادة بعد .

فصل :

اختلف العلماء في حد الخمر كم هو ؟ فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والكوفيون وجمهور العلماء إلى أن حد الخمر ثمانون جلدة .

وقال الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر ، ونقله ابن عبد البر عن أكثر أهل الظاهر : حده أربعون . وعن أحمد روايتان كالمذهبين ، وما نقلناه عن الجمهور هو ما ذكره ابن بطال وابن التين ، وقال أبو عمر أيضا : إنه قول الجمهور من علماء السلف والخلف .

قال : وهو أحد قولي الشافعي ، وهو قول الأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والحسن بن حي وإسحاق وأحمد ، واحتجوا بما سلف .

[ ص: 26 ] وروى مسدد ، ثنا يحيى ، ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن الداناج ، عن حضين بن المنذر الرقاشي أبي ساسان ، عن علي - رضي الله عنه - قال : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وكملها عمر ثمانين ، وكل سنة .

وروي ( عن ) عبد العزيز بن المختار ، عن الداناج ، عن حضين بن المنذر قال : شهدت عثمان - رضي الله عنه - وقد أتي بالوليد بن عتبة ، وقد صلى بأهل الكوفة فشهد عليه حمران ، ورجل آخر شهد أحدهما أنه رآه يشربها ، وشهد الآخر أنه رآه يقيئها ، فقال عثمان : لم يقئها حتى شربها ، فقال عثمان لعلي : أقم عليه الحد . فأمر عبد الله بن جعفر فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين ، ثم قال : أمسك ، ثم قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين ، ( وأبو بكر أربعين ) وعمر ثمانين وكل سنة ، وهذا أحب إلي .

واحتج عليهم أهل المقالة الأولى ، فقالوا : حديث الداناج غير صحيح ، وأنكروا أن يكون ( علي ) قال من ذلك شيئا ؛ لأنه قد روي عنه ما يخالف ذلك ويدفعه ، وبحديث البخاري في الباب ، وذلك أنه - عليه السلام - لم يسنه ، أي لم يسن فيه شيئا إنما قلناه نحن .

قال الطحاوي : فهذا علي يخبر بأنه - عليه السلام - لم يكن سن في شرب الخمر حدا ، ( ثم الرواية عن علي في حد الخمر على خلاف ) حديث الداناج من اختيار الأربعين على الثمانين .

[ ص: 27 ] روى سفيان عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبيه قال : أتي علي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين ، ثم أمر به إلى السجن ، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ، وقال : هذه لانتهاك حرمة رمضان وجرأتك على الله .

وروي عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن أن رجلا من كلب يقال له ابن وبرة بعثه خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب ، فوجد عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، فقال له : إن الناس قد انهمكوا في الخمر ، فقال عمر لمن حوله : ما ترون ؟ قال علي : يا أمير المؤمنين ، ( إنه ) إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون ، وتابعه أصحابه .

أفلا ترى عليا لما سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هي ؟ ثم استخرج منها حدا برأيه فجعله كحد المفتري ، ولو كان عنده في ذلك شيء مؤقت عن رسول الله لأغناه عن ذلك ، ولو كان عند أصحابه في ذلك أيضا عن رسول الله شيء ، لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب الأمثال ، فكيف يجوز أن ينقل عن علي ما يخالف هذا ، وقد قال : إنه - عليه السلام - لم يسن في الخمر شيئا . ودل حديث عقبة بن الحارث ، وحديث أنس ، وحديث أبي هريرة أنه عليه السلام - لم يقصد في حد الخمر إلى عدد من الضرب يكون حدا ، وإنما أمر - عليه السلام - أصحابه أن يضربوه بما ذكروا ، وإنما ضرب الصديق بعده أربعين بعد التحري منه

[ ص: 28 ] لضربه - عليه السلام - إذ لم يوقفهم على حد ( في ذلك ) ، فثبت بهذا كله أن التوقيف في حد الخمر على ثمانين إنما كان في زمن عمر ، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك منهم عثمان ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وكان ذلك بمحضر من طلحة ، والزبير ، وابن عوف فلا يجوز مخالفتهم لعصمتهم من الخطأ ، كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا بما عداه ، فانعقد الإجماع بذلك ولزمت الحجة به ، وقد قال تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية [ النساء : 115 ] .

وقال ابن مسعود : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ؛ لأن إجماعهم معصوم .

وكذا قال ابن عبد البر : ( اتفق ) إجماع الصحابة في زمن عمر على الثمانين في حد الخمر ، ولا مخالف لهم منهم ، وعلى ذلك جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين ، قال : والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور وبنحوه ذكره الطحاوي فمن بعده .

فصل :

وفيه حجة لمالك ومن وافقه في جواز أخذ الحدود قياسا ، خلافا لأهل العراق وبعض الشافعية في منعهم ذلك ، واستدلوا بأن الحدود والكفارات وضعت على حسب المصالح ، وقد تشترك أشياء مختلفة في الحدود والكفارات ، وتختلف أشياء متقاربة ، ولا سبيل إلى علم

[ ص: 29 ] ذلك إلا بالنص .

فيقال لهم : أجمع الصحابة على حد شارب الخمر ، ثم نصوا على المعنى الذي من أجله أجمعوا ، وهو قول علي وعبد الرحمن إذا شرب سكر . إلى آخره ، ففيه دليل على أخذ الحدود قياسا ، وعلى أصل للقياس انعقد الإجماع عليه ، وفي قياسهم حد الخمر على حد الفرية حجة لمالك في قطع الذرائع ، ومن قال بقوله وجعلها أصلا وتحصينا لحدود الله أن تنتهك ؛ لأن عليا لما قال لعمر : إذا شرب سكر . إلى آخره . وتابعه الصحابة على ذلك ولم يخالف فيه ، فكان ذلك حجة واضحة لذلك ؛ لا أنه قد يجوز أن يشربها من لا يبلغ بها إلى الهذي والفرية ، ولما كان ذلك غير معلوم لاختلاف الناس في التقليل من شربها والتكثير ، وفي غلبة سورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعض ، وكان الحد لازما لكل شارب ، اتضح القول لذلك فيما يخاف الإقدام فيه على المحرمات ، وهو أصل من أصول الدين بما أجمع عليه الصحابة .

فصل :

وفي قوله : ( ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد منه في نفسي ) . حجة لابن الماجشون ومن وافقه أن الحاكم لا قود عليه إذا أخطأ في اجتهاده ، ويؤيد هذا أن أسامة قتل رجلا قال : لا إله إلا الله ، ثم أتى الشارع فأخبره بذلك ، فلم يزد على أن وبخه ولم يأمره بالدية ، ولم يأخذها منه لاجتهاده وتأويله في قتله ، وسيأتي اختلاف العلماء في المسألة في كتاب : الأحكام في باب : إذا قضى القاضي بجور خالف فيه أهل العلم فهو مردود .

[ ص: 30 ] فصل :

في حديث النعمان حجة على أن الحد يقام في حال السكر ، ولا يؤخر للصحو ؛ لأنه - عليه السلام - أمر من في البيت أن يضربوه ولم يؤخره إلى أن يصحو ، وجمهور العلماء على خلاف هذا يؤخر إلى الصحو ، وهو قول مالك والشافعي والثوري والكوفيين قالوا : لأن الحد إنما وضعه الله للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع ، والسكران لا يعقل ذلك ، فغير جائز أن يقام على من لا يحس به ولا يعقل .

فصل :

النعيمان تصغير نعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم ( بن مالك ) بن النجار ، شهد العقبة مع السبعين وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وأتي به في شرب الخمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلده ، ثم أتي به فجلده ، ثم أتي به فجلده أربعا أو خمسا ، فقال رجل : اللهم العنه ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يجلد ، فقال - عليه السلام -" لا تلعنه ؛ فإنه يحب الله ورسوله " .

وفي لفظ :" لا تقولوا للنعيمان إلا خيرا ؛ فإنه يحب الله ورسوله " وكان صاحب مزاح .

[ ص: 31 ] قال ابن الكلبي : كان - عليه السلام - إذا نظر إلى نعيمان لا يتماسك نفسه أن يضحك ، واشترى نعيمان يوما بعيرا فنحره ولم يعط ثمنه ، فجاء صاحبه ليشكوه إلى رسول الله ، فقال - عليه السلام - :" اذهبوا بنا نطلبه " فوجده ، فقال - عليه السلام - :" هذا نعيمان " لصاحب البعير ، فقال نعيمان : لا جرم ، لا يغرم البعير غيرك ، ( فغرمه - عليه السلام - عنه ، مات في خلافة معاوية ) وليس له عقب ، قاله محمد بن عمر .

فصل :

قوله : ( إذا عتوا وفسقوا جلدوا ثمانين ) ، يريد كثر شربهم الخمر كما سلف عن رواية مسلم .

فصل :

لما ذكر البيهقي حديث حضين بن المنذر ، عن علي في جلد الوليد قال : قال الترمذي ، عن البخاري إنه حديث حسن .

وقال ابن عبد البر : هو أثبت شيء في هذا الباب .

قال البيهقي : وهو حديث صحيح مخرج في مسانيد أهل الحديث ، ومخرجات أكثرهم في السنن ، والذي يدعي تشويه الأخبار على مذهبه لم يمكنه صرف هذا الحديث إلى ما وقته صاحبه ، فأنكر الحديث أصلا ، واستدل على فساده بما جرى من الصحابة ، وأن عليا قال :

[ ص: 32 ] إن مات شارب الخمر وديناه ؛ لأنه شيء صنعناه .

وفي رواية : أنه - عليه السلام - لم يسن فيها شيئا ، وبأن عمر وعليا جلدا ثمانين ، وأنهم أجمعوا على الثمانين ، فصار الحد مؤقتا بها في الخمر ، وقيل : ذلك لم يكن مؤقتا وهذا الذي ذكر من إنكار الحديث وفساده غير مقبول منه ، فصحة الحديث إنما تعرف بفقه رجاله ومعرفتهم بما يوجب قبول خبرهم ، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوا حديثهم ، كيف وقد ثبت عن عثمان وعلي في هذه القصة من وجه لا أشك في صحته جلد أربعين ، ولئن كانت العمل بالثمانين حدا معلوما بتوقيت الصحابة في أيام عمر ، فلم يصر الأربعون حدا معلوما بتوقيت الصحابة في أيام أبي بكر ، وتحريمهم في ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه بين يديه ، بل هذا أولى أن يكون حدا مؤقتا بتوقيتهم ، فلم يعدل عنه أبو بكر حياته .

وقد روينا عن عمر - رضي الله عنه - أنه بعد توقيتهم كان إذا أتي بالضعيف ضربه أربعين ، وجلد عثمان ثمانين ، وجلد أربعين ، وكل هذا يدل على أن الحد المؤقت في الخمر أربعون ، وأنهم لم يوقتوه بالثمانين حدا ، وأن الزيادة التي زادوها إنما هي على وجه التعزير ، وقد أشار علي إلى علة التعزير فيما أشار به إلى عمر .

قلت : وقول ابن القصار أن قوله سنة محمول على الرفع يبعده ذلك ، وإنما المراد هنا ما سنه عمر - رضي الله عنه - .

وفي قول علي فيمن مات في حد الخمر : وديناه ، دليل بين على أنهم لم يجتمعوا على الثمانين حدا ، إذ لو كانوا وقتوه بها لم تجب

[ ص: 33 ] فيمن مات منه دية ، وإنما أرادوا - والله أعلم - عندنا إذا مات في الأربعين الزائدة .

وقوله : ( إنه لم يسنه ) ، يعني : لم يسن فوق الأربعين أو لم يسن ضربه بالسياط ، وقد سنه بالجريد والنعال وأطراف الثياب ، ونحن هكذا نقول ، لا نخالف منه شيئا - بتوفيق الله - والذي يحتج به في إبطال حديث حضين لا نقول به ، ولا يرى فيمن مات دية ، وهذا دأبه فيما لا يقول به من الأحاديث الصحيحة يجتهد بإبطاله بحديث آخر ، فإذا نظرنا في ذلك الحديث الآخر وجدناه لا يقول به أيضا ، فكيف يحتج به في إبطال غيره ؟ فإن قال : روي عن علي أنه جلد الوليد بسوط له طرفان أربعين ، فيكون ذلك ثمانين ، قلنا : هذه الرواية منقطعة ؛ لأن راويها علي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، وقد روينا في الحديث الثابت أنه أمر به فجلد أربعين جلدة ، وهذا أشبه أن لا يخالفه أن يكون جلده بكل طرف عشرين ، فيكون الجميع أربعين ، وهذا هو المراد فيما روى شعبة عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو الأربعين ، أي صار العدد أربعين ، وذلك بين في رواية همام عن قتادة ، ولا خلاف بينه وبين ما أشار به عبد الرحمن بن عوف على ( علي ) ، ولو كان المراد بالأول ثمانين لم يكن بينهما مخالفة ، وكذلك علي لما جلد الوليد بهذا السوط إن كان ثابتا أربعين ، فقد قال في الحديث الثابت : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

[ ص: 34 ] أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين وكل سنة . وقال في رواية عبد العزيز : وهذا أحب إلي . فلولا أنه اقتصر على الأربعين لما قال : وهذا أحب إلي .

فصل :

روى ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن هارون ، ثنا المسعودي عن زيد العمي ، عن أبي بصرة ، عن أبي سعيد الخدري أنه - عليه السلام - ضرب في الخمر بنعلين أربعين ، فجعل عمر مكان كل نعل سوطا ، وفيه ترشيح لرواية محمد بن علي ، عن أبيه .

وروى وكيع عن مسعر ، عن زيد العمي ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضرب في الخمر أربعين ، قال أبو عمر : الحديث لأبي الصديق ومسعر أحفظ عندهم وأثبت من المسعودي ، وزيد العمي ليس بالقوي .

وأما الترمذي فقال : حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح .

والعمل على حديث أنس عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حد السكران ثمانون .

قلت : وقد قال علي - رضي الله عنه - فيما رواه الحارث عنه - : في قليل الخمر وكثيرها ثمانون ، وفي لفظ : حد النبيذ ثمانون . وعن ابن عباس

[ ص: 35 ] والحسن : في السكر من النبيذ ثمانون ، وكذلك قاله شقيق الضبي ، وعند الدارقطني : جلد عثمان الحدين جميعا ، ثم أثبت معاوية الجلد ثمانين .

فصل :

ينعطف على قتل الشارب في الرابعة أو الخامسة ، ذكر الحازمي في " ناسخه " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قتله في الرابعة قال : فحدثت به ابن المنكدر فقال : قد ترك ذلك ، أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن النعيمان فجلده ثلاثا ، ثم أتي به الرابعة فجلده ، ولم يزد .

قلت : وقول الصحابي ما أكثر ما يؤتى به يقتضي العدد ، وأخرج النسائي من حديث زياد البكالي ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، وذكر حديث في الرابعة " فاضربوا عنقه " فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النعيمان أربع مرات ، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع ، وأن القتل قد ارتفع .

ثم ساق الحازمي من حديث الشافعي : أن ابن عيينة ، عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" إن شرب فاجلدوه " وفي الرابعة :" فإن شرب فاقتلوه " قال : فأتي برجل فجلده ، تم أتي به في الثانية فجلده ، ثم أتي به في الرابعة فجلده ووضع القتل ، وكانت رخصة ، ثم قال الزهري لمنصور بن المعتمر : ويحول

[ ص: 36 ] كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث . قال الشافعي : والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره ، وهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من أهل العلم علمته .

وقال الطحاوي : ثبت بهذا أن القتل منسوخ ، وقال الخطابي : قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل ، وإنما يقصد به الردع والتحذير ، كقوله - عليه السلام -" من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه " وهو لو قتل عبده أو جدعه لم يقتل به ، ولم يجدع بالاتفاق .

قلت : حكى ابن المنذر أن النخعي قال : يقتل السيد بعبده ، واختلف واختلف على سفيان في ذلك ، قال الخطابي : وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ، ثم نسخ بحصول الإجماع من الآية أنه لا يقتل .

قال الترمذي في آخر " جامعه " : وجميع ما في هذا الكتاب معمول به ، وقد أخذه بعض أهل العلم ما خلا حديثين ، حديث ابن عباس : أنه - عليه السلام - جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ، وحديث :" إذا شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه " وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ ، كذا روى ابن إسحاق عن ابن المنكدر ، عن جابر قال : والعمل على هذا عند ( عامة ) أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك في

[ ص: 37 ] القديم والحديث ، ومما يقوي هذا حديث :" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " . الحديث .

وقال ابن المنذر : أزيل القتل في الرابعة عنه بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع عوام أهل العلم ( من أهل الحجاز والعراق والشام وكل من يحفظ عنه من أهل العلم ) ، إلا شاذا من الناس لا يعد خلافا .

قلت : حكي عن بعض التابعين ، وفي " المحلى " : أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ائتوني برجل أقيم عليه الحد في الخمر ، فإن لم أقتله فأنا كذاب .

فصل :

أجمعوا على أن ما سلف من كون الحد ثمانين أو أربعين هو في الحر ، والعبد على نصفه ، وقال ابن عبد البر عن أبي ثور وداود وأكثر أهل الظاهر : أربعون على الحر والعبد ، قال : وقال الشافعي : أربعون على الحر وعلى العبد نصفها .

فصل :

اختلف إذا مات من ضربه على أقوال : لا ضمان على الإمام والحق قتله ، قاله مالك وأحمد . وعن الشافعي : لا ضمان قطعا وإن كان ضربه بالسوط ضمن ، وفي صفة ما يضمن وجهان ، أحدهما : جميع الدية . والثاني : لا يضمن الإمام إلا ما زاد على ألم النعال .

[ ص: 38 ] وعنه أيضا : إن ضرب بالنعال وأطراف الثياب ضربا يحيط العلم أنه لا يبلغ أربعين أو يبلغها ولا يتجاوزها ، فمات فالحق قتله ، فإن كان كذلك فلا عقل ولا قود ولا كفارة على الإمام ، وإن ضربه أربعين سوطا فمات فديته على عاقلة الإمام دون بيت المال .

فصل :

لو أقر بشرب الخمر ولم يوجد منه ريح ، فقال أبو حنيفة : لا يحد . وقال الباقون : يحد ، فإن وجد منه ريح ولم يقر فلا حد خلافا لمالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية