التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6406 [ ص: 57 ] 12 - باب: كراهية الشفاعة في الحد ، إذا رفع إلى السلطان

6788 - حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - ، أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ . فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقال :" أتشفع في حد من حدود الله ؟!" . ثم قام فخطب قال :" يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " . [ انظر : 2648 - مسلم : 1688 - فتح 12 \ 87 ] .


ذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة المخزومية التي سرقت المذكور قبل ، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحد إذا بلغ الإمام أنه يجب عليه إقامته ؛ لأنه قد تعلق بذلك حق الله تعالى ، فلا تجوز الشفاعة فيه ؛ لإنكاره ذلك على أسامة ، وذلك من أبلغ النهي ، ثم قام - عليه السلام - خطيبا فحذر أمته من الشفاعة في الحدود إذا بلغت إلى الإمام ، فإن قلت فقد قال مالك وأبو يوسف والشافعي : إن القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إذا أراد سترا . قيل له : إن هذه شبهة يجوز بها درأ الحد ؛ لأنه إن ذهب الإمام إلى حد القاذف حتى يأتي بالبينة على صدق ما قال فيسقط الحد عنه ، وربما وجب على المقذوف ، بفوت السنة في ذلك ، وقد قال مالك في القطع في " المدونة " : يجوز وإن بلغ الإمام وإن لم يرد سترا ، وقال مرة أيضا : إنه لا يجوز عفوه إذا بلغ الإمام .

[ ص: 58 ] وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي : وهو أشبه بظاهر الحديث ، وأجاز أكثر أهل العلم الشفاعة في الحدود قبل وصولها إلى ( الإمام ) ، روي ذلك عن الزبير بن العوام ، وابن عباس ، وعمار ، ومن التابعين سعيد بن جبير والزهري ، وهو قول الأوزاعي ، قالوا : وليس على الإمام التجسس على ما لم يبلغه ، وكره ذلك طائفة فقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه .

وفرق مالك بين من لم يعرف منه أذى للناس ، فقال : لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأما من عرف بشر وفساد في الأرض فلا أحب أن يشفع له أحد ، ولكن يترك حتى يقام عليه الحد .

والذي في " المدونة " : أن هذا في التعزير والنكال إذا كان من أهل المروءة والعفاف ، وإذا طلبوه تجافى السلطان عن عقوبته ، وإن كان عرف بالبطش والأذى ضربه النكال بخلاف الحدود .

قال الشيخ أبو إسحاق : إذا كان ذلك في حق من حقوق الله ، وأما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا برضا صاحبها ، ولكن في " المدونة " : وقد تكون منه الزلة وهو معروف بالصلاح والفضل ، وأن الإمام ينظر فإن كان شيخا فاحشا أدبه قدر ما يؤدب مثله في فعله ، وإن كان خفيفا فيتجافى السلطان عن الزلة التي تكون من ذوي المروءات . وهذا رد على الشيخ أبي إسحاق .

[ ص: 59 ] قال ابن المنذر : واحتج من رأى الشفاعة مباحة قبل الوصول بحديث الباب ؛ لأنه - عليه السلام - إنما أنكر شفاعة أسامة في حد قد وصل إليه وعلمه .

فصل :

وفي هذا الحديث بيان رواية معمر ، عن الزهري أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده ، فأمر - عليه السلام - بقطع يدها ، وقد تعلق به قوم فقالوا : من استعار ما يجب القطع فيه ، فجحده فعليه القطع ، هذا قول أحمد وإسحاق .

قال أحمد : ولا أعلم شيئا ( يخالفه ) .

وخالفهم المدنيون والكوفيون والشافعي وجمهور العلماء فقالوا : لا قطع عليه ، حجتهم رواية الكتاب التي سرقت ، فدل أنها لم تقطع على العارية ، يوضحه قوله - عليه السلام -" لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .

فوضح بذلك لو لم يذكر الليث في رواية البخاري أنها سرقت .

قال ابن المنذر : وقد يجوز أن تستعير المتاع وتجحده ، ثم سرقت فوجب القطع للسرقة .

وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد ، وأيوب بن موسى ، عن الزهري كرواية الليث عند الشيخين .

[ ص: 60 ] وفي رواية أيوب أيضا ، عند النسائي : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطعه ، فقالوا : ما كنا نرى أن يبلغ به هذا فقال :" لو كانت فاطمة لقطعت يدها " . وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر ، ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله ، وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير ، وروى النسائي : فأمر بلالا فأخذ بيدها فقطعها فكانت تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده ، وفي لفظ :" لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله ، وترد ما تأخذ على القوم " .

وفي رواية : استعارت على ألسنة أناس يعرفون وهي لا تعرف حليا فباعته وأخذت ثمنه ، وفي " المصنف " : عن ابن نمير ، ثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن ركانة ، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود [ عن أبيها ] قال : لما سرقت المرأة القرشية تلك القطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمنا ذلك ، فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكلمه فقلنا : نحن نفديها بأربعين أوقية ، قال :" تطهر خير لها " فلما سمعنا قوله أتينا أسامة فقلنا : كلم لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم . . الحديث .

وفي النسائي من حديث أبي الزبير ، عن جابر أن امرأة سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أسامة .

[ ص: 61 ] ورواه كذلك من طرق عن الزهري ، عن عروة عنها .

وروى أبو قرة في " سننه " من حديث سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مغفل أنه - عليه السلام - أتي بامرأة سرقت حليا فقطعها . ورواه أبو الشيخ في كتاب " القطع والسرقة " من حديث الزهري ، عن عروة ، عنها أنه - عليه السلام - أتي بسارق أو سارقة فأمر بها فقطعت وقال :" لو كانت فاطمة لأقمت عليها الحد " ومن حديث أبي هاشم ، عن زاذان ، عن عائشة أنه - عليه السلام - قطع امرأة سرقت ، فقال الحديث .

ومما يزيد ذلك وضوحا قوله لأسامة :" أتشفع في حد من حدود الله ؟" وليس في الكتاب والسنة حد من حدود الله فيمن استعار وجحد .

فصل :

هذه المرأة هي فاطمة بنت أبي الأسد - أو أبي الأسود - ابن أخي عبد الله بن عبد الأسد زوج أم سلمة .

رويناه عن أبي زكريا يحيى بن عبد الرحيم ، عن عبد الغني بن سعيد الحافظ ، ثم ساقه بإسناده إلى شقيق ، قال : سرقت فاطمة بنت أبي الأسد بنت أخي أبي سلمة زوج أم سلمة ، فأشفقت قريش أن يقطعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكلموا أسامة . . الحديث .

وفي كتاب " المثالب " عن ( الهيثم ) بن عدي : هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد وأمها ابنة عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر من بني عامر بن لؤي بن غالب ، خرجت تحت الليل فوقعت

[ ص: 62 ] بركب بجانب المدينة فأصابت عيبة لبعضهم فأخذت ، فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاذت تحوي أم سلمة ، فأمر بها فقطعت يدها عند أم سلمة ، فلما قطعت خرجت ويدها تقطر دما ، حتى دخلت على امرأة أسيد بن حضير فرحمتها وصنعت لها طعاما ، فجاء أسيد فقال لامرأته قبل أن يدخل : يا فلانة هل علمت ما أصاب أم عمرو بنت سفيان ، فقالت : ها هي ذه عندي ، فرجع أدراجه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :" رحمتها رحمها الله " فلما رجعت إلى أبيها سفيان ، فقال : اذهبوا بها إلى حويطب بن عبد العزى أخوالها فإنها أشبهتهم ، فقال خنيس بن يعلى بن أمية حليف بني نوفل :

يا رب بنت لابن سلمى جعدة سراقة لحقائب الركبان     باتت تحوس عيابهم بأكفها
حتى أقرت غير ذات بنان     وكان سفيان أبوها ينا
دي على طعام ابن جدعان



قال أمية :

له داع بمكة مشمعل     وآخر فوق دارته ينادي



قال ( الكلبي ) : المشمعل : هو سفيان بن عبد الأسد . وروى أبو موسى المديني في " الصحابة " من حديث عمار ، عن شقيق قال : سمعت فاطمة بنت أبي الأسود بنت أخي أبي سلمة أنها قالت : سرقت امرأة من قريش فأراد أن يقطعها ، فكلموا أسامة أن يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الحديث .

قال أبو موسى : وكان الأول يعني ما ذكرناه من عند عبد الغني أصح ؛ لأن أبا بكر بن ثابت ذكره أيضا كذلك .

[ ص: 63 ] قلت : ويجوز أن تكون في الثانية عبرت عن نفسها ولم تفصح ، ومثله ما نقله أبو سعيد الخدري لما روى حديث الرقية وهو الراقي ، قال فيه : فقال رجل : أنا أرقي . وسماها أبو عمر فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد . وقال ابن قتيبة في " معارفه " : هي أول امرأة قطعت يدها في السرقة ، وسمى أباها سفيان بن عبد الأسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية