التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6417 [ ص: 120 ] [ ص: 121 ] كتاب المحاربين

من أهل الكفر والردة

[ ص: 122 ] [ ص: 123 ] بسم الله الرحمن الرحيم

15 - كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة

وقول الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية .

6802 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة الجرمي ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من عكل ، فأسلموا فاجتووا المدينة ، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا ، فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا ، فبعث في آثارهم فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا . [ انظر : 233 - مسلم : 1671 - فتح 12 \ 109 ] .


[ ص: 124 ] ثم ساق حديث أنس في قصة العرنيين السالفة في الطهارة ، وكأن البخاري ذهب في هذا الحديث - والله أعلم - إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة ، ولم يبن ذلك في الحديث .

وقد بين عبد الرزاق في روايته فقال : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس فذكره ، وفي آخره قال قتادة : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنما جزاء [ المائدة : 33 ] الآية كلها ، وذكر مثله عن أبي هريرة .

وممن قال : إن هذه الآية نزلت في أهل الشرك : الحسن ، والضحاك ، وعطاء ، والزهري .

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والكوفيين والشافعي وأبي ثور ، إلا أن بعض هؤلاء يقولون : إن حد المحارب على قدر ذنبه ، على ما في تفسيره .

قال ابن القصار : وقيل : نزلت في أهل الذمة الذين نقضوا العهد ، وقيل في المرتدين ، وكله خطأ ، وليس قول من قال : إن الآية وإن كانت نزلت في المسلمين مناف في المعنى لقول من قال بأنها نزلت في أهل الردة والمشركين ؛ لأن الآية وإن كانت نزلت في المرتدين بأعيانهم فلفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد في الأرض .

[ ص: 125 ] ألا ترى أن الله جعل قصر الصلاة في السفر بشرط الخوف ، ثم ثبت القصر للمسافرين وإن لم يكن خوف ؛ لما يجمعهما في المعنى وظاهر القرآن ، وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن هذه الحدود نزلت في المسلمين ، كما قاله القاضي إسماعيل ؛ لأن الله تعالى قال : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب [ محمد : 4 ] وقال : وقاتلوا المشركين كافة [ التوبة : 36 ] فلم يذكر فيهم إلا القتل والقتال ؛ لأنهم إنما يقاتلون على الديانة ، لا على الأعمال التي يعملونها من سرقة أو قطع طريق أو غيره .

وإذا ذكرت الحدود التي تجب على الناس من الحرابة والفساد في الأرض أو السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين ؛ لأنها إنما وجبت من طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات ، ولو كان حد المحارب في الكافر خاصة لكانت الحرابة قد نفعته في أمور دنياه ؛ لأنا نقتله بالكفر ، فإن كان إذا أحدث الحرابة مع الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله من خلاف ، أو ننفيه من الأرض أو نقتله ، فقد خفف عنه العقوبة .

واحتج أبو ثور على أن من زعم أنها نزلت في أهل الشرك بقوله تعالى : إلا الذين تابوا [ البقرة : 160 ] الآية ، قال : ولا أعلم خلافا بين العلماء في المشركين لو ظهر عليهم ، وقد قتلوا وأخذوا الأموال ، فلما صاروا في أيدي المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشيء ، أنهم لا يحل قتلهم ، فلو كان الأمر على ما قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم من الآية ( لازما ) وإن أسلموا ، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس فيهم .

[ ص: 126 ] قال إسماعيل : وإنما يسقط عنهم القتل ، وكل ما فعلوه بقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ الأنفال : 38 ] والذي عليه قول شيوخ أهل العلم أن المعني بهذا المسلمون ، وإنهم إذا حاربوا فتابوا من قبل أن يقدر عليهم فإن الحدود تسقط عنهم ؛ لأنها لله ، وأما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم ( ويقتص منهم من النفس والجراح ) وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا ، فهذا قول مالك والكوفيين والشافعي وأبي ثور فيما حكاه ابن المنذر .

وأما ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت في المسلمين في حد المحارب المسلم ، فقال مالك : إذا أشهر السلاح وأخاف السبيل ولم يقتل ، ولا أخذ مالا كان الإمام مخيرا فيه ، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله من خلاف أو ينفيه من الأرض فعل ذلك .

وقال الكوفيون والشافعي : إذا لم يقتل ولا أخذ مالا لم يكن عليه إلا التعزير ، وإنما يقتله الإمام إن قتل ، ويقطعه إن سرق ، ويصلبه إذا قتل وأخذ المال ، وينفيه إذا لم يفعل شيئا من ذلك ، ولا يكون الإمام مخيرا فيه .

قال إسماعيل : فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل غير المحارب ، ولم توجب المحاربة عندهم شيئا ، وقد ركب ما ركب من الفساد في الأرض ، وقد قال تعالى : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [ المائدة : 32 ] فجعل الفساد بمنزلة القتل ، والمعنى - والله أعلم - من قتل نفسا بغير نفس ، أو بغير فساد في الأرض ، فلم يحتج إلى أن تعاد ( غير ) وعطف الكلام على

[ ص: 127 ] ما قبله ، فجعل الفساد عدلا للقتل ، وإذا كان الشيء بمنزلة الشيء فهو مثله ، فكأن الفساد في الأرض بمنزلة القتل ، هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبي سلمة ، قال إسماعيل : والذي يعرف من الناس من الكلام في كل ما أمر به فقيل افعلوا كذا وكذا ، فإن صاحبه مخير .

وقال عطاء ومجاهد والضحاك : كل شيء في القرآن ( أو ) ( أو ) فهو خيار ، واحتج من أسقط التخيير بقوله - عليه السلام - :" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " الحديث .

فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأن ظاهره يدل أن المحارب غير داخل فيه ؛ لأن قاتل النفس في غير المحاربة إنما أمره القتل أو الترك إلى ولي المقتول ، وأمر المحارب إلى السلطان ؛ لأن فساده في الأرض لا يلتفت فيه إلى عفو المقتول ، فعلمنا بهذا أن المحارب لا يدخل في هذا الحديث ، وإنما يدخل فيه القاتل الذي أمره إلى ولي المقتول إذا قتل فيه ، أو قتل نفسا بغير نفس ، فكأنه على مجرى القصاص ، ولو كان على العموم لوجب أن يقتل كل قاتل قتل مسلما عمدا .

وقد رأينا مسلما قتل مسلما عمدا لم يجب عليه القتل في قول جماعة المسلمين ، وذلك أنهم أجمعوا في قتلى الجمل وصفين أنهم لا تقاص بينهم إذ كان القاتل المسلم إنما قتل بتأويل لم يقتله لثائرة بينه وبينه ، ولا قصد له في نفسه ، وإنما قصد في قتله للديانة عنده فسقط القتل عنه لذلك ، وكذلك أمر المحارب إنما كان قصده قتل المسلم لقطع

[ ص: 128 ] الطريق وأخذ الأموال والفساد في الأرض ، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ، فكما خرج قتلىصفين والجمل من معنى هذا الحديث ، كذلك خرج المحاربة من معناه ، ويشهد لما قلنا ما رواه الأعمش ، عن عبد الله بن مرة قال : قال مسروق : قال عبد الله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث : قتل النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والمفارق لدينه المفارق للجماعة " .

فمفارقة الجماعة دالة على الفساد في الأرض نحو الخوارج والمحاربين ، فإذا كان الخوارج يحل قتلهم وليسوا بمرتدين لفسادهم في الأرض ، كذلك يحل قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا ، ولا ارتدوا ؛ لفسادهم في الأرض .

واختلف في صفة نفي المحارب ، فعند مالك : أنه ينفيه إلى غير بلده ، وعنه : يحبسه فيه حتى تظهر توبته ، وقال أبو حنيفة : يحبسهم في بلدهم ، وقال الشافعي : ينفيهم ، إذا هربوا بعث الإمام خلفهم ، وطلبهم ليأخذهم ويقيم عليهم الحد .

وقال أبو ثور : قال بعضهم : ينفى من البلد التي هو فيها إلى بلدة غيرها ، كما يفعل بالزاني ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقال الشعبي : ينفى من عمله ، حكاه ابن المنذر .

وقال أبو الزناد : كانوا ينفون إلى دهلك وتلك الناحية .

وقال الحسن : ينفى حتى لا يقدر عليه ، قال ابن القصار والنفي بعينه أشبه بظاهر القرآن ؛ ولقوله تعالى : أو ينفوا من الأرض [ المائدة : 33 ] وهذا يقتضي أن ينفيهم الإمام ، كما يقتلهم أو يصلبهم ، وما قاله أبو حنيفة من الحبس في بلدهم ، فالنفي ضد الحبس ، وليس

[ ص: 129 ] يعقل من النفي حبس الإنسان في بلده ، وإنما يعقل منه إخراجه من وطنه وهو أبلغ في ردعه ، ثم يحبس في المكان الذي يخرج إليه حتى تظهر توبته ، هذا حقيقة النفي وهو أشد في الردع والزجر ، وقد قرن الله تعالى مفارقة الوطن بالقتل فقال ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم الآية [ النساء : 66 ] .

فصل :

نقل ابن التين عن بعض المتأخرين أنه إذا أخذ المحارب بحضرة خروجه ولم يقع منه حرب عوقب ، ولا يجري عليه شيء من أحكام المحاربة ؛ لأنه لم يحارب ، وفي " المدونة " : ليس كل المحاربين سواء ، منهم من يخرج بعصا ويوجد على تلك الحال ، ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل ، قال مالك : فأمره أن يجلد وينفى ، ويسجن في الموضع الذي نفي إليه .

وعند محمد في رواية أشهب لمالك : أن للإمام أن يقتله إذا شاء ، أو يقطعه من خلاف ، وحكى ابن شعبان : أنه ينفى ولا يضرب وأن ضربه ظلم ؛ لأن الله لم يذكر الضرب مع النفي .

فصل :

ومشهور مذهب مالك أنه لا بد من قتل المحارب ، وفيه خلاف منتشر .

فصل :

ومعنى ( اجتووا المدينة ) : كرهوا المقام بها .

[ ص: 130 ] ومعنى ( سمل أعينهم ) : فقأها . ومعنى ( لم يحسمهم ) : لم يكوهم بالنار لينقطع الدم ، وقال الداودي : لم يدخل ما قطع منهم في زيت ، وإنما لم يحسمهم ؛ لأن قتلهم كان واجبا بالردة ، فمحال أن يحسم به من يطلب نفسه ، وأما من يتوجب قطع يده في حد من حدود الله ، فالعلماء مجمعون على أنها لا بد من حسمها ؛ لأنه أقرب ( إلى الله ) وأبعد من التلف كما سأذكره في الباب بعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية