التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 317 ] 3 - باب: قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص إلى قوله : عذاب أليم [ البقرة : 178 ]


قال قتادة : كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيهم عزة ومنعة ، فقتل لهم عبد ، قتله عبد قوم آخرين ، قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة ؛ قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا . فنهاهم الله عن البغي ، وأخبر أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله تعالى : النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] فجعل تعالى الأحرار في القصاص سواء في النفس وما دونها ، وجعل العبيد متساوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دونها ، رجالهم ونساؤهم .

قال أبو عبيد : فذهب ابن عباس - فيما يرى - إلى أن هذه الآية التي في المائدة : النفس بالنفس ليست بناسخة للتي في البقرة : الحر بالحر والعبد بالعبد ولا هي خلافها ، ولكنهما جميعا محكمتان ، إلا أنه رأى أن آية المائدة مفسرة للتي في البقرة ، وتأول قوله : النفس بالنفس إنما هو على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكورا كانوا أو إناثا ، وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم ، وأنه لا قصاص للمماليك على الأحرار .

[ ص: 318 ] وذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى : الحر بالحر نسخت النفس بالنفس وقالوا : ليس بين الأحرار والعبيد قصاص في النفس خاصة ، ولا فرق فيما دون ذلك بينهم قصاص ، واضطرب قولهم ؛ لأن التنزيل إنما هو على نسق واحد ، فأخذوا ( بأول ) الآية .

وذكر عن الشعبي الحر بالحر نزلت في حيين من قبائل العرب كان بينهم قتال ، كان لأحدهما فضل على الآخر ، فقالوا : نقتل بالعبد منا الحر منكم ، وبالمرأة الرجل . فنزلت ، ثم أنزلت بعد في المائدة : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فبهذا يحتجون ، قالوا : وليس في قوله : الحر بالحر نفي لغيره .

وقال إسماعيل بن إسحاق : قد قال قوم : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، هذا قول الثوري والكوفيين ، قال أبو حنيفة : يقاد المسلم بالذمي في العمد وعليه في قتله الخطأ الدية والكفارة ، ولا يقتل بالمعاهد وإن تعمد قتله .

وقال أحمد : دية الكتابي إذا قتله مسلم عمدا مثل دية المسلم ، واحتجوا بآية النفس بالنفس .

وفي الدارقطني من حديث ليث ، عن الحكم قال : قال علي وابن مسعود : إذا قتل الحر العبد متعمدا فهو قود . ولا تقوم به حجة لوقفه . وفيه من حديث حجاج عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن

[ ص: 319 ] جده أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد ، وسيأتي عن علي أنه السنة .

وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا يقتل حر بعبد ، هذا مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - .

وفي الدارقطني من حديث جويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - رفعه :" لا يقتل حر بعبد " ومن حديث جابر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال علي : من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ، ولا حر بعبد .

قال إسماعيل : وغلط الكوفيون في التأويل ؛ لأن معنى الآية إنما هي النفس المكافئة للأخرى في حرمتها وحدودها ؛ لأن القتل حد من الحدود ، ولو قذف حر عبدا لما كان عليه حد القذف ، وكذلك الذمي ، والحدود في الحر يقتل باليهودي والنصراني ، وروي عن الشعبي مثله ، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي والحسن بن حي . زاد ابن أبي عاصم : وأبان بن عثمان وعبد الله بن مسعود ، وأحد قولي أبي يوسف ، وقد اختلف عن عمر بن عبد العزيز في ذلك .

كما روينا عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سماك بن الفضل قاضي اليمن ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز في زياد بن مسلم - وكان قد قتل ذميا عندنا باليمن - : أن غرمه خمسمائة ولا تقده .

[ ص: 320 ] وقول آخر : روينا عن عمر بن الخطاب في المسلم يقتل الذمي إن كان ذلك منه خلقا أو عادة أو كان لصا عاديا ، فأقده به . وروي : فاضرب عنقه ، وإن كان ذلك في عصبية وشبهها ، فأغرمه الدية ، وروي : فأغرمه أربعة آلاف ، ولا يصح عن عمر ؛ لأنه من طريق عبد الله بن محرر - وهو هالك - عن أبي المليح بن أسامة ، عنه ، وهو مرسل ، أو من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز في كتابة لأبيه ، أن عمر . أو من طريق حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن القاسم بن أبي بزة أن عمر ، وهو مرسل ، ومن طريق عمرو بن دينار ، عنه ، وهو مرسل .

وروى ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن هشام قال : قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز : أن دية اليهودي والنصراني على الثلث من دية المسلم . وعن وكيع ، عن سفيان ، عن أبي الزناد ، عن عمر بن عبد العزيز قال : دية المعاهد على النصف من دية المسلم .

وروى ابن حزم من طريق عبد الرزاق ، أنبا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : أن رجلا مسلما قتل رجلا من أهل الذمة عمدا فرفع إلى عثمان بن عفان ، فلم يقتله به وغلظ عليه الدية كدية المسلم . قال الزهري : وقتل خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد رجلا ذميا في زمن معاوية فلم يقتله به ، وغلظ عليه الدية ألف دينار .

قال ابن حزم : هذا في غاية الصحة عن عثمان ، ولا يصح في هذا شيء غير هذا عن أحد من الصحابة ، إلا ما روينا عن عمر من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة أن رجلا مسلما

[ ص: 321 ] قتل رجلا من أهل الحيرة ، فكتب عمر أن يقاد به ، ثم كتب عمر كتابا بعده ، لا تقتلوه ، ولكن اعقلوه .

قال أبو عمر : بلغ عمر أن القاتل من فرسان المسلمين ، فكتب أن لا تقيدوه ، فجاء الكتاب وقد قتل ، وروي أنه شاور ، فقال له - إما علي وإما غيره - : إنه لا يجب عليه قتل ، فكتب أن لا يقتل ، قال أبو عمر : في كتاب عمر : ( أن لا يقتل ) ، دليل على أن القتل كان عليه غير واجب ؛ لأن الشريف والوضيع ، ومن فيه غناء ومن ليس فيه غناء ، في الحق سواء .

وروى ابن حزم أيضا من طريق عبد الرزاق ، حدثنا رباح بن عبد الله ابن عمر ، أنا حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك يحدث أن يهوديا قتل غيلة ، فقضى فيه عمر بن الخطاب باثني عشر ألف درهم . قال ابن حزم : واحتجوا أيضا بما روينا من طريق عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن البيلماني مرفوعا : أنه أقاد مسلما قتل يهوديا ، وقال :" أنا أحق من أوفى بذمته " .

وروى الدارقطني حديثه هذا عن ابن عمر مرفوعا من رواية إبراهيم بن أبي يحيى ، وقال : لم يسنده غيره ، وهو متروك الحديث ، والصواب مرسل .

وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب " اختلاف العلماء " : هو منقطع ، ولا يصح .

[ ص: 322 ] قال ابن حزم : ورواه بعض الناس ( عن يحيى بن سلام ) ، عن محمد بن أبي حميد ، عن محمد بن المنكدر ، أنه - عليه السلام - أقاد مسلما قتل ذميا ، قال : وذكروا ما ادعوا فيه الإجماع ، وهو قول أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قتل أبوه قتل الهرمزان وكان مسلما ، وجفينة وكان نصرانيا ، وقتل بنية صغيرة لأبي لؤلؤة كانت تدعي الإسلام ، فأشار المهاجرون على عثمان بقتله .

قال : وظاهر الأمر أنهم أشاروا عليه بقتله بهم ثلاثتهم ، قال : ولا خلاف في أن المسلم يقطع إن سرق من مال الذمي والمستأمن ، فقتله بهما أولى ؛ لأن الدم أعظم حرمة من المال ، وقالوا لنا خاصة : أنتم تحدون المسلم إن قذف الذمي والمستأمن وتمنعون قتله بقتله ، واحتجوا على الشافعي بقولهم : إن قتل ذمي ذميا ثم أسلم فإنه يقتل به عندكم ، ولا فرق بين قتلكم مسلما بكافر وبين قتلكم كافرا بمسلم .

ونقل ابن عبد البر قول أبي حنيفة عن جماعة من الصحابة والتابعين .

وفي الدارقطني من حديث أبي الجنوب - وهو ضعيف - قال : قال علي : من كانت له ذمتنا فدمه كدمائنا ، ومن حديث عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، أنبأنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود قال : في ذمة كل معاهد مجوسي أو غيره ، الدية وافية ، وفي حديث معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عنه : دية المعاهد مثل دية المسلم ، قال : وقال ذلك علي أيضا ، ورواه ابن أبي عاصم عن علقمة : دية المعاهد

[ ص: 323 ] دية المسلم ، وفي حديث أبي شريح أنه - عليه السلام - قال :" يا خزاعة ، إنكم قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله ، فمن قتل له قتيل بعد هذا فأهله بين خيرين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية " .

قال ابن أبي عاصم : وهذا المقتول كان كافرا ولم يقل دية دون دية ، ولا مقتول بمسلم دون كافر له دية ، ولا شك أن أذى المعاهد حرام .

وفي حديث أخرجه البزار في " مسنده " من حديث أبي بكرة :" من قتل نفسا معاهدة لم يرح رائحة الجنة " وفي لفظ :" من قتل معاهدا بغير حقه حرم الله عليه الجنة ، وأن يشم ريحها " .

قال المهلب : وفيه دلالة أن المسلم لا يقتل بالذمي ؛ لأن الشارع إنما رتب الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه في الآخرة ، ولم يذكر فيهما قصاصا في الدنيا .

وروي من حديث ابن إسحاق قال : سألت الزهري قلت : حدثني عن دية الذمي كم كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد اختلف علينا فيها ؟ فقال : ما بقي أحد بين المشرق والمغرب أعلم بذلك مني ، كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف دينار ، وأبو بكر وعمر وعثمان ، حتى كان معاوية أعطى أهل القتيل خمسمائة ووضع في بيت المال خمسمائة دينار ، وقد سلف ذلك أيضا ، وروي عن عثمان بن عفان : مثل دية المسلم ، وابن مسعود : مثل دية المسلم ، وعن عطاء ومجاهد وإبراهيم والشعبي كذلك .

[ ص: 324 ] وفي " المعرفة " للبيهقي عن الشافعي : حدثنا محمد بن الحسن ، ثنا محمد بن يزيد ، ثنا سفيان بن حسين ، عن الزهري أن ابن شاس الجذامي قتل رجلا من أنباط الشام ، فأمر عثمان بقتله ، فكلمه الزبير وناس من الصحابة ونهوه عن قتله ، فجعل ديته ألف دينار .

وأسندنا عن الزهري ، عن ابن المسيب أنه قال : دية كل معاهد في عهده ألف دينار .

قال الطحاوي : واحتج بعضهم بما روي أن عثمان قضى في دية المعاهد ( بأربعة آلاف ، قيل له : قد روي عنه أنه قد قضى في دية المعاهد ) بدية مسلم ، قال : وهذا أولى بما في الحديث الأول عنه ؛ لأن ما في الحديث الأول رواه عنه سعيد بن المسيب ، وسعيد يقول بخلافه : أن دية المعاهد ألف دينار .

قال ابن عبد البر : قال الزهري : فلم يقض لي أن أذاكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية قد كانت ثابتة لأهل الذمة ، قال معمر : فقلت للزهري : إن ابن المسيب قال : ديته أربعة آلاف ، فقال لي : إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله : فدية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] وروى ابن جريج ، عن يعقوب بن عتبة ؛ وإسماعيل ابن محمد ؛ وصالح قالوا : عقل كل معاهد ومعاهدة كعقل المسلمين ذكرانهم كذكرانهم وإناثهم كإناثهم ، جرت بذلك السنة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 325 ] فصل :

احتج الشافعي ومن قال بقوله ، بحديث أبي جحيفة عن علي - رضي الله عنه - الآتي في باب لا يقتل المسلم بالكافر مطولا ، وفي آخره :" ولا يقتل مسلم بكافر " .

وأخرجه الدارقطني من حديث حجاج ، عن قتادة ، عن مسلم الأجرد ، عن مالك الأشتر بزيادة :" ولا ذو عهد في عهده " .

وقال في " علله " : رواه حجاج بن حجاج ، عن قتادة ، ( عن أبي حسان الأعرج ، عن الأشتر ، ورواه حجاج بن أرطأة ، عنه ) كما سلف ، ومسلم الأجرد هو أبو حسان الأعرج ، ورواه همام وعثمان بن مقسم ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن علي - لم يذكر الأشتر - ورواه ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال : انطلقت أنا والأشتر إلى علي - رضي الله عنه - ، وقول سعيد بن أبي عروبة أشبهها بالصواب .

واعترض معترض كما قال ابن حزم . بأنه قال مرة : عن قتادة ، عن الحسن ، ومرة : رواه عن أبي حسان الأعرج ( مرسلا ) ، وهذه علة في حديث علي ، فكان ماذا ؟ ما جعل مثل هذا علة إلا ذو علة ، ولا ندري لماذا أعله به ، وقالوا أيضا : قد روي من طريق وكيع ، ثنا أبو بكر الهذلي ، عن سعيد بن جبير أنه قال : إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يقتل

[ ص: 326 ] مسلم بكافر
" ، إن أهل الجاهلية كانوا يتطالبون بالدماء فلما جاء الإسلام قال - عليه السلام - :" لا يقتل رجل من المسلمين بدم كافر أصابه في الجاهلية " . وهذا عجيب جدا ، الهذلي كذاب مشهور ، ولو صح أنه - عليه السلام - قاله لكان هذا خبرا قائما بنفسه لوضعه دماء الجاهلية في حجة الوداع ، وكان ما في صحيفة علي خبرا آخر قائما بنفسه لا يحل تخصيصه بذلك الخبر ؛ لأنه دعوى بلا دليل .

وأما قول علي : من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر . فهو عند الدارقطني من حديث جابر الجعفي ، عن عامر ، عنه .

وروى في " السنن " أيضا حديث مالك بن محمد بن عبد الرحمن ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : وجد في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين " .

وروى ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا :" لا يقتل مؤمن بكافر " .

وزاد في " المحلى " :" فمن قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية " قال ابن حزم : وهذا دليل لنا ؛ لأنه قال : يقتل مؤمن بكافر ؟ قال : نعم ، ثم ذكر حكما آخر ، فلو دخل في هذه القضية : المؤمن يقتل الذمي عمدا لكانت مخالفة للحكم الذي قبلها ، وهذا باطل ولو صحت لكانت بلا شك في المؤمن يقتل المؤمن عمدا لا فيما قد أبطله قتل ، وقالوا : معناه : لا يقتل مؤمن بكافر

[ ص: 327 ] حربي ، وكيف يجوز هذا ونحن مندوبون إلى قتل الحربي ؟ وقالوا : إذا قتله خطأ ، وهذا بما لا يعقل .

وقال ابن عبد البر : فإن قيل : فقد روي :" ولا ذو عهد في عهده " يعني : بكافر ، والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي ، قالوا : لا يجوز أن يحمل الحديث على أن العهد يحرم به دم من له عهد لارتفاع الفائدة في ذلك ؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم ، والعهد يحقن الدم . قيل له : بهذا الخبر علمنا أن المعاهد يحرم دمه ولا يحل قتله ، وهي فائدة الخبر ، ويستحيل أن الله تعالى يأمر بقتال الكفار حيث وجدوا وثقفوا وهم أهل الحرب ، ثم لا يقول : يقتل مؤمن بكافر ثم يقتله رفقا له ، ووعدكم الله الجزيل ( من الثواب ) على جهاده ، هذا ما لا يظنه ذو لب ، فكيف يخفى مثله على ذي علم ؟ قال أبو عمر : وقد أجمعوا على أنه لا يقاد للكافر من المسلم ( فيما ) دون النفس من الجوارح فالنفس بذلك أحرى وأولى .

وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم :" أن في النفس مائة من الإبل " ، أخرجه بطوله ابن حبان والحاكم في صحيحيهما .

فصل :

وأما قول مالك والليث : أن المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلة قتل به ،

[ ص: 328 ] فمعنى ذلك أن قتل الغيلة إنما هو من أجل المال ، والمحارب والمغتال إنما يقتلان لطلب المال ، لا لعداوة بينهما ، فقتل العداوة والثائرة خاص ، وقتل المغتال عام فضرره أعظم ؛ لأنه من أهل الفساد في الأرض ، وقد أباح الله تعالى قتل الذين يسعون في الأرض فسادا سواء قتل أو لم يقتل ، فإذا قتل فقد تناهى فساده ، وسواء قتل مسلما أو كافرا أو حرا أو عبدا ، وما قاله مالك قابله طائفة من أهل المدينة ، وجعلوه من باب المحاربة وقطع السبيل كما قلنا .

قال ابن حزم : قالوا : الشعبي هو أحد رواة حديث علي ، وهو يرى قتل المؤمن بالكافر ، قلنا : لم يصح هذا عن الشعبي ؛ لأنه لم يروه عنه إلا ابن أبي ليلى ، وهو سيئ الحفظ ، وداود بن يزيد الزعافري ، وهو ساقط ، ثم لو صح ذلك عنه لكان الواجب رفض رأيه وإطراح قوله ، والأخذ بروايته ، وأما احتجاج الحنفيين بمرسل ربيعة عن ابن البيلماني ، وبمرسل ابن المنكدر ، قلنا لهم : لا حجة في مرسل ؛ فإن لجوا ؛ قلنا : دونكم مرسل مثلهما ، ثم ساق عن عمرو بن دينار ، حدثني سعيد ، أنه - عليه السلام - فرض على كل مسلم قتل رجلا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم ، وأن ينفى من أرضه إلى غيرها . وذكر أن عمر بن عبد العزيز قضى بذلك ، وأما احتجاجهم بأنه كما يجب قطع يد المسلم إذا سرق مال ذمي فكذلك يجب قتله به ، فغير جيد ؛ لأن القود والقصاص للمسلم من الذمي لم يجعلها الله للكافر على المسلم ، وليس كذلك القطع في السرقة ليس هو من حقوق المسروق منه المال ، وليس له العفو عنه ، وإنما هو حق لله تعالى أمر به ، شاء المسروق منه أو أبى ، فلا سبيل فيه للذمي على المسلم أصلا ، وكذلك القذف ، وأما احتجاجهم إذا قتل ذمي ذميا ثم أسلم القاتل فالقود عليه باق فقد أخطأ

[ ص: 329 ] هذا القائل ، بل قد سقط عنه القود والقصاص ؛ لأنه قتل مؤمن بكافر ، وقد حرم الله تعالى على لسان رسوله ذلك .

قال : فإن احتجوا بما رويناه من طريق البزار من حديث يعقوب بن عبد الله بن نجيد ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل ، فقال - عليه السلام - :" لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلته ، فأخرجوا عقله " ، قلنا : يعقوب وأبوه وجده مجهولون .

قلت : نجيد معروف ، ذكره ابن حبان في " ثقاته " ، وقال : روى عن أبيه ، وعنه ابناه : عبيد الله ومحمد ، ابنا نجيد ، عداده في أهل المدينة . وذكر أيضا في " ثقاته " ولده عبد الله ، ثم اعلم أن البخاري ترجم بعد : باب لا يقتل مسلم بكافر ، وذكر هناك حديث علي - رضي الله عنه - ، وكان من حقه أن نذكره هناك ؛ لكنا تعجلناه استباقا للخيرات .

التالي السابق


الخدمات العلمية