التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 357 ] 11 - باب: قول الله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إلى قوله : عليما حكيما [ النساء : 92 ] .


هذه الآية أصل في الديات فذكر فيها ديتين وثلاث كفارات ، ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام ، وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ، فقال : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان كناية عن المؤمن السالف ، وقوله : من قوم معناه عند الشافعي : في قوم فعبر بـ ( من ) عن ( في ) إبدالا لحروف الجر بعضها من بعض ، ثم ذكر الدية والكفارة بقتل ( الذمي ) في دار الإسلام فقال : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدلت الآية على ما قدمناه ، ففي الخطأ الدية بإجماع .

فصل :

قوله : إلا خطأ ظاهره ليس مرادا ، فإنه لا يسوغ له قتله خطأ ولا عمدا ، لكن تقديره : لكن إن خطأه ، ولا يصح أن يكون ( إلا ) بمعنى الواو ؛ لأنه لا يعرف ( إلا ) بمعنى حرف العطف ؛ ولأن الخطأ لا يحذر ؛ لأنه ليس بشيء يقصد .

وحكى سيبويه أن ( إلا ) تأتي بمعنى ( لكن ) كثيرا .

وقال الأصمعي وأبو عبيد : المعنى إلا أن يقتله مخطئا ، وكذا قال الزجاج : أن معنى أن يقتل مؤمنا البتة إلا خطأ ، وهو استثناء منقطع ،

[ ص: 358 ] ومعنى إلا أن يصدقوا أي : إلا أن يتصدق أهل القتيل على من لزمته دية القتيل ( فيعفو عنه ويتجاوز ) عن دمه فتسقط عنه .

قال مجاهد وعكرمة : وهذه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، قتل رجلا مسلما ولم يعلم بإسلامه ، وكان ذلك يعذبه بمثله مع أبي جهل ، ثم أسلم وخرج مهاجرا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيه عياش في الطريق فقتله وهو يحسبه كافرا ، ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، فأمره أن يعتق رقبة ونزلت الآية ، حكاه الطبري عنهما .

وقال السدي : قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة ، ولا يعلم بإسلامه ، وقيل : نزلت في أبي عامر والد أبي الدرداء ، خرج إلى سرية فعدل إلى شعب فوجد رجلا في غنم فقتله ، وأخذها وكان يقول : لا إله إلا الله ، فوجد في نفسه من ذلك فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكر عليه قتله إذ قال : لا إله إلا الله ، فنزلت .

وقيل : نزلت في والد أبي حذيفة بن اليمان ، قتل خطأ يوم أحد حسبما سلف .

فصل :

وقوله : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن يعني : فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه ؛ لئلا يتقووا بها عليكم وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق أي : عهد وذمة وليسوا

[ ص: 359 ] أهل حرب لكم فدية مسلمة إلى أهله يعني على عاقلته وتحرير رقبة مؤمنة كفارة قتله .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ، هل هو مؤمن أو كافر ؟ على قولين :

أحدهما : أنه كافر ( إلا ) أنه لزمت قاتليه ديته ؛ لأن له ولقومه عهدا فوجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين ، وأنها مال من أموالهم فلا يحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم ، قاله ابن عباس والنخعي والزهري ، قالوا : ودية الذمي كدية المسلم .

ثانيهما : أنه مؤمن ، قاله النخعي وجابر بن زيد والحسن البصري .

قال الطبري : وأولاهما عندي قول من قال : إنه من أهل العهد ؛ لأن الله أبهم ذلك فقال : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ولم يقل ؛ وهو مؤمن ، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب وهو مؤمن إذ ليس هناك مستحق لها إن كان أولياؤه كفارا .

ومذهب مالك أن المسلم إذا قتل في دار الحرب خطأ أن فيه الدية ، وإن قتل عمدا قتل به قاتله ، وقال أبو حنيفة والشافعي : لا قود فيه .

والمعنى في إيجاب الكفارة في وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق لأجل إيمانه ، والدية دفعت من أجل الميثاق والميراث للمسلمين .

قال : وهذا الآخر منسوخ ؛ لأن المهادنات والمواثيق كانت بين الشارع وطوائف من المشركين ، فنسخ ذلك بسورة براءة بقوله :

[ ص: 360 ] فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 2 ] وقال : وقاتلوا المشركين كافة [ التوبة : 36 ] وفيها أمن أهل الذمة ، واستقر الأمر في مشركي العرب بعد الأربعة أشهر على الدخول في الإسلام وإعطاء الجزية أو القتال ، فكان هذا ناسخا لما مضى قبله فلا دية الآن لمسلم يقتل في دار الحرب إذا كان في جملتهم إذ لا ميثاق .

ألا تراه قال : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وقال مالك في :" كتاب محمد " و " المستخرجة " في قوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم لم يذكر فيه دية لمؤمن أسلم ولم يهاجر من مكة فلا دية له إذا قتل ؛ لقوله تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا [ الأنفال : 72 ] وروى محمد ، عن ابن القاسم في علج دعا إلى المبارزة بين الصفين فبرز إليه رجل ، ثم رماه آخر ( لم يبارزه فقتله ) فديته على الذي رماه ؛ لأنه تأول فأخطأ ، وليعتق رقبة مؤمنة ، وقال أشهب : لا بأس يعينه ولا دية عليه .

وهذه الآية حجة للمخالفين في أن من أسلم بدار الحرب فلم يخرج إلينا لا دية فيه ، فحصل الخلاف في الآية في موضعين : أحدهما : أنه إذا قتل مسلم قاطن بدار الحرب فيه دية . وقال ابن عباس : لا دية له .

وإن قتل بدار الإسلام إذا كان قومه كفارا وقتله خطأ وداه .

والحاصل ثلاثة أقوال : الدية مطلقا سواء قتل ببلاد الحرب أو ببلاد الإسلام لا مطلق التفضيل بينهما .

[ ص: 361 ] الثاني : في الميثاق هل هو مسلم أو كافر كما سلف .

فصل :

قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين يعني : عن الرقبة خاصة ، قاله مجاهد ، وقال مسروق : عن الرقبة والدية ، والأول أولى ، كما قال الطبري ؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل ، والكفارة على القاتل بالإجماع ، فلا يقضي صوم صائم عما لزم الآخر في ماله .

فصل :

قوله : توبة من الله يعني : رحمة من الله لكم وإلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها وكان الله عليما حكيما أي : لم يزل عليما بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه ، حكيما بما يقضي فيه ويأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية