التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6503 [ ص: 406 ] 6899 - حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ، حدثني أبو رجاء من آل أبي قلابة ، حدثني أبو قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ، ثم أذن لهم فدخلوا فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قال : نقول : القسامة القود بها حق ، وقد أقادت بها الخلفاء . قال لي ما تقول يا أبا قلابة ؟ ونصبني للناس . فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه أكنت ترجمه ؟ قال : لا . قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا . قلت : فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط ، إلا في إحدى ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام .

فقال القوم : أوليس قد حدث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في السرق وسمر الأعين ثم نبذهم في الشمس ؟ . فقلت : أنا أحدثكم حديث أنس ، حدثني أنس أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا الأرض فسقمت أجسامهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :"
أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها ؟" . قالوا : بلى . فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا ، فقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطردوا النعم ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهم ، فأدركوا فجيء بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا . قلت : وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ؟! ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا . فقال عنبسة بن سعيد : والله إن سمعت كاليوم قط . فقلت : أترد علي حديثي يا عنبسة ؟ قال : لا ، ولكن جئت بالحديث على وجهه ، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم .

قلت : وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دخل عليه نفر من الأنصار

[ ص: 407 ] فتحدثوا عنده ، فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل ، فخرجوا بعده ، فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم ، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله صاحبنا كان تحدث معنا ، فخرج بين أيدينا ، فإذا نحن به يتشحط في الدم . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :" بمن تظنون - أو ترون - قتله ؟" . قالوا : نرى أن اليهود قتلته . فأرسل إلى اليهود فدعاهم . فقال :" آنتم قتلتم هذا ؟" . قالوا : لا . قال :" أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه ؟" . فقالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون . قال :" أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟" . قالوا : ما كنا لنحلف ، فوداه من عنده . قلت : وقد كانت هذيل خلعوا خليعا لهم في الجاهلية ، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء ، فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله ، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا : قتل صاحبنا . فقال : إنهم قد خلعوه . فقال : يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه .

قال : فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلا ، وقدم رجل منهم من الشأم فسألوه أن يقسم فافتدى يمينه منهم بألف درهم ، فأدخلوا مكانه رجلا آخر ، فدفعه إلى أخي المقتول فقرنت يده بيده ، قالوا : فانطلقا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة ، أخذتهم السماء فدخلوا في غار في الجبل ، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا فماتوا جميعا ، وأفلت القرينان واتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول ، فعاش حولا ثم مات .

قلت : وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلا بالقسامة ثم ندم بعد ما صنع ، فأمر بالخمسين الذين أقسموا فمحوا من الديوان وسيرهم إلى الشأم .
[ انظر : 233 مسلم : 1671 - فتح 12 \ 230 ]


( وقال الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - :" شاهداك أو يمينه " .) وهذا سلف عنده مسندا .

ثم قال : وقال ابن أبي مليكة : لم يقد بها معاوية - رضي الله عنه - .

[ ص: 408 ] وهذا قال ابن المنذر فيه : روينا عن معاوية وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قالا : القسامة توجب العقل ، ولا ( تشترط ) الدم .

قال البيهقي : روينا عن معاوية خلافه .

وقال ابن بطال : ( قوله ) : ( لم يقد بها معاوية ) ، لا حجة فيه مع خلاف السنة ( له ) والخلفاء الراشدين الذين أقادوا بها ، أو يحتمل أن تكون المسألة لا لوث فيها ، وقد صح عن معاوية أنه أقاد بها ، ذكر ذلك أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق ، قال : وقال لي خارجة بن زيد بن ثابت : نحن والله قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، إني لأرى يومئذ ألف رجل أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان في ذلك .

قال البيهقي : وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل : ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد [ عن أبيه ] قال : حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال : قتل رجل من الأنصار - وهو ( سكران )- رجلا من بني ( النجار ) ، ولم يكن على ذلك شهادة إلا ( لطخ ) وشبهه

[ ص: 409 ] فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ، ثم يسلم إليهم فيقتلوه ، قال خارجة : فركبت إلى معاوية فقصصت عليه القصة ، فكتب إلى سعيد بن العاصي : إن كان ما ذكرنا [ له ] حقا أن يحلفنا على القاتل ، ثم يسلمه إلينا ، فجئت إلى سعيد بالكتاب فأحلفنا خمسين يمينا ثم سلمه إلينا .

قال أبو الزناد : ( وأمرني ) عمر بن عبد العزيز ( فردد قسامة ) على سبعة نفر أو خمسة نفر .

ثم ساقه البيهقي بإسناده إليه ، قال : رويناه من وجه آخر عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه من غير ذكر معاوية وسعيد ، غير أنه قال : وفي الناس يومئذ الصحابة وفقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول أن يقتلوا أو يسجنوا ( فحلفوا ) خمسين يمينا فقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة . وروينا عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : القسامة توجب العقل ولا ( تسقط بالدم ) ، وهو عن عمر منقطع .

وروى ابن أبي شيبة عن وكيع ، عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة أن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز أقادا بالقسامة ، وحدثنا عبد الأعلى ،

[ ص: 410 ] عن معمر ، عن الزهري قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فسألني عن القسامة وقال : بدا لي أن أردها ؛ إن الأعرابي يشهد ، والرجل الغائب يجيء فيشهد . فقلت : يا أمير المؤمنين إنك لن تستطيع ردها ، قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده .

وثنا ابن نمير ثنا سعيد عن قتادة أن سليمان بن يسار حدث أن عمر بن عبد العزيز قال : ما رأيت مثل القسامة ( قط ) أقيد بها ، والله تعالى يقول : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وقالت الأسباط : وما شهدنا إلا بما علمنا [ يوسف : 81 ] قال سليمان : فقلت : القسامة حق ، قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكأن البخاري ذهب إلى ترك القتل بالقسامة لما ذكره من الآثار التي صدر بها الباب بغير إسناد .

وحديث القسامة ذكره قبل التفسير ، وفي باب الموادعة والمصالحة مع المشركين في باب فرض الخمس .

وروى ابن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب ، عن عمرو ، عن الحسن أن أبا بكر وعمر والجماعة الأول لم يكونوا يقتلون بالقسامة .

وحدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن الحسن بن عمرو ، عن فضيل ، عن إبراهيم قال : القود بالقسامة جور .

وفي رواية أبي معشر : القسامة يستحق فيها الدية ، ولا يقاد فيها ،

[ ص: 411 ] وكذا قاله قتادة . وقال الزهري : لا يقتل بالقسامة إلا واحد .

ثم قال البخاري : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة ، وكان أمره على البصرة في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين ، وإن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس ، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة ، وهذا خلاف ما أسلفناه عنه .

ثم ساق البخاري أيضا من حديث أبي نعيم ، ثنا سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار ، زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ، ووجدوا أحدهم قتيلا . . الحديث . فوداه مائة من إبل الصدقة .

وسعيد هذا هو أبو الهذيل الطائي الكوفي ، أخو عقبة ، اتفقا عليه .

قال ابن عبد البر : وما نعلم في شيء من الأحكام المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاضطراب والتضاد ما في هذه القصة ، فإن الآثار فيها متضادة متدافعة ، وهي قصة واحدة .

وذكر أبو القاسم البلخي في " معرفة الرجال " عن ابن إسحاق قال : سمعت عمرو بن شعيب يحلف في المسجد الحرام : والله الذي لا إله إلا هو إن حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة ليس كما حدث ، ولقد أوهم .

وذكر أبو داود سليمان بن الأشعث بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن بجيد أن سهلا - والله - أوهم - الحديث - أنه - عليه السلام - كتب إلى يهود وقد وجد بين أظهرهم قتيل :" فدوه " ، فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا

[ ص: 412 ] ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا ، فوداه رسول الله من عنده بمائة ناقة
، وفي رواية رافع بن خديج فاختاروا منهم خمسين واستحلفهم فأبوا ، وفي لفظ له عنده : فبدأ باليهود ، وقال :" أيحلف خمسون منكم ؟" فأبوا ، فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على اليهود ؛ لأنه وجد بين أظهرهم .

ولابن أبي عاصم من حديث الزهري عن أنس أنه - عليه السلام - بدأ ببني حارثة في اليمين في دم صاحبهم المقتول بخيبر ، وقال أبو عمر : لم يخرجه البخاري إلا لإرسال مالك ( له ) ، وقد خطأ جماعة من أهل الحديث حديث سعيد بن عبيد ، وذموا البخاري في تخريجه ، وتركه رواية يحيى بن سعيد .

قال الأصيلي : أسنده عن يحيى : شعبة ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الوهاب الثقفي ، وعيسى بن حماد ، وبشر بن المفضل ، وهؤلاء ستة ، وأرسله مالك عن يحيى بن سعيد ( عن ) بشير بن يسار ، ولم يذكر سهل بن أبي حثمة ، وممن روى حديث يحيى مسندا ابن عيينة وحماد بن زيد وعباد بن العوام .

وقال الأثرم : قال أحمد : الذي أذهب إليه في القسامة حديث بشير من رواية يحيى ، فقد سلف ، وصله عنه حفاظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد .

[ ص: 413 ] وأخرجه النسائي أيضا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر . . الحديث . وفي آخره : فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وأعانهم بنصفها . ثم قال : لا أعلم أحدا تابع عمرا على هذه الرواية ولا سعيد بن عفير على روايته عن بشير .

قلت : قد ذكره الدارقطني من حديث حبيب بن أبي ثابت عن بشير مثله . وقال البيهقي : يحتمل أن رواية ( سعيد لا تخالف رواية ) يحيى بن سعيد ، عن بشير ، وكأنه أراد بالبينة أيمان المدعين في اللوث ، كما فسره يحيى بن سعيد ، أو طالبهم بالبينة كما في هذه الرواية . فلما لم يكن عندهم بينة عرض عليهم الأيمان كما في رواية يحيى بن سعيد ، فلما لم يحلفوها ردها على اليهود كما في الروايتين جميعا .

( ويؤيده ) حديث عمرو بن شعيب ومرسل سليمان بن يسار - يعني : المذكورين قبل - قال : ومن تكلم في دين الله وفي أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي له أن يحتج في ذلك برواية الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في استحلافه خمسين من اليهود في قصة الأنصاري ، ثم جعل عليهم

[ ص: 414 ] الدية ولا يراد به عمر بن صبيح عن مقاتل بن حيان ، عن صفوان ، عن ابن المسيب ، عن عمر في قضائه بنحو ذلك .

وقوله : ( إنما قضيت عليكم بقضاء نبينا ) ؛ لإجماع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بهما ولمخالفتهما في هذه الرواية الثقات الأثبات .

وروى ابن أبي عاصم من حديث ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس . . الحديث . وفيه : فدعا - عليه السلام - اليهود بقسامتهم ؛ لأنهم الذين ادعي عليهم الدم ، فأمرهم أن يحلفوا خمسين يمينا أنهم برآء من قتله ، فنكلت يهود عن الأيمان ، فدعى بني حارثة . . الحديث .

ورواه مسلم عن سهل ورافع ، وقد بين ليث في روايته عن يحيى بن سعيد عند مسلم ، عن بشير أنه حسبان ، وذلك أنه قال : قال ( يحيى ) : حسبته قال : وعن رافع ، فحصل بذلك شك يحيى في ذكر رافع . فكأن روايته لم يذكر فيها شك في ذلك بحيث أن يقضى عليها بذكر الشك ؛ ( لأن زيادة الحفاظ مقبولة وإن جاز نفيه بعد الشك ) ، وأن يستشكله بعد اليقين أيضا جائز ، وسهل إنما يروي عن رجال من كبراء قومه لصغره . هذا على قول من قال : عن . وأما من قال : عن رجل . فهو مرسل ، واتصاله برافع ، وقد حصل فيه ما بيناه .

ثم ساق البخاري من حديث أبي رجاء - واسمه سلمان ، من آل أبي قلابة - ثنا أبو قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ، ثم

[ ص: 415 ] أذن لهم فدخلوا فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول : القسامة القود بها حق ، قد أقاد بها الخلفاء . ثم ساقه بطوله .

وقد اختلف العلماء ( في القسامة ) ، فقال الجمهور : القسامة ثابتة عن الشارع يبدأ فيها المدعون بالأيمان ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا ( وبرئوا ) . وهو قول أهل المدينة : يحيى بن سعيد وأبي الزناد وربيعة ومالك ، والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور ، وحجتهم حديث البخاري السالف الذي ذكرناه أولا ، وهو صريح ، يبدأ به المدعون للدم باليمين . وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم ويذرون . روي عن عمر والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر البصريين واحتجوا بحديث سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار أنه - عليه السلام - قال للأنصار :" تأتون بالبينة على من قتله ؟" قالوا : ما لنا بينة . قال :" فيحلفون لكم ؟" قالوا : ما نرى بأيمان يهود . فأبوا ، فبدأ بأيمان المدعى عليهم ، وهم اليهود . واحتجوا أيضا بما رواه ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - قال :" لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليهم " أخرجاه .

وفيها قول ثالث : وهو التوقف عن الحكم بالقسامة . روي عن سالم بن عبد الله وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عتيبة .

[ ص: 416 ] قال ابن عبد البر : ورواية عن قتادة ، وهو قول مسلم بن خالد الزنجي وفقهاء أهل مكة ، وإليه ذهب ابن عيينة . واحتج الجمهور بأن قالوا : حديث سعيد بن عبيد في تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث كما سلف ؛ لأن جماعة من أهل الحديث أسندوا حديث بشير بن يسار ، عن سهل أنه - عليه السلام - بدأ بالمدعين .

قال أحمد : الذي أذهب إليه في القسامة حديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، وقد وصله عنه حفاظ ، وهو صحيح من حديث سعيد بن عبيد . وقد أسلفناه عنه أيضا .

قال الأصيلي : فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة ، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة . والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها .

قال ابن القصار والمهلب : وقد يجمع بين حديث سعيد ويحيى بأنه - عليه السلام - قال للأنصار :" أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه ؟" بعد علمه أن الأنصار قد نكلوا عن اليمين ؛ لأنهم لم يعينوا أحدا من اليهود فيقسموا عليه . والقسامة لا تكون إلا على معين ، فلما علم نكولهم رد اليمين . وفي حديث يحيى حين ( تكلم ) حويصة ومحيصة وعبد الرحمن ، فقال لهم :" فتبرئكم يهود بأيمان " بعد أن قال لهم :" تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم " وقد روى ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أنه - عليه السلام -) قال :" البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة " أخرجه الدارقطني من

[ ص: 417 ] حديث مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن جريج به . ومن حديث الزنجي ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه - عليه السلام - ( قال ) فذكر مثله . قال الدارقطني : خالفه عبد الرزاق وحجاج فروياه عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلا ، فبين أن اليمين في القسامة لا تكون في جهة المدعى عليه .

وقد احتج مالك ، في " الموطأ " لهذه المسألة بما فيه الكفاية ، فقال : إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه ، وأن الرجل إذا [ أراد ] قتل الرجل [ لم يقتله ] في جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة وعمل فيها كما يعمل في الحقوق بطلت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ، ولكن إنما جعلت إلى ولاة المقتول ليبدءون بها ليكف الناس عن الدم ، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول . وهذا الأمر المجمع عليه عندنا ، والذي سمعت ممن أرضى ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ المدعون . فإن قلت : الشارع إنما قال :" تحلفون وتستحقون دم صاحبكم " على وجه الاستعظام لذلك والإنكار عليهم والتقرير لا على وجه الاستفهام لهم . فالجواب : أنه لا يجوز أن يريد الإنكار عليهم أصلا ، وذلك أن القوم لم يطلبوا

[ ص: 418 ] فينكر ذلك عليهم ، وإنما طلبوا الدم فبدأهم وقال لهم :" أتحلفون ؟" فعلم أنه شرع لهم اليمين وعلق استحقاقه الدم بها ، وإنما كان يكون منكرا عليهم لو بدءوا وقالوا : نحن نحلف .

فصل :

وأما الذين أبطلوا الحكم بالقسامة ، فإنهم ردوها بآرائهم لخلافها عندهم حديث :" البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " وهو خص القسامة بتقدمة المدعي بالأيمان وسنه لأمته .

وقد كانت في الجاهلية خمسين يمينا على الدماء فأقرها الشارع فصارت سنة ، بخلاف الأموال التي سن فيها يمينا واحدة ، والأصول لا يرد بعضها بعضا ولا يقاس بعضها على بعض ؛ بل يوضع كل واحد منها موضعه كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقرائن مع الإجارات ، وعلى المسلمين التسليم في كل ما سن لهم .

فإن قلت : كيف يحكم للأولياء وهم غيب عن موضع القتل ؟ قيل : اليمين يكون تارة على وجه اليقين وتارة على وجه الاستدلال ؛ كالشهادة تكون باليقين وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة ، وأن هذه زوجة فلان وهذا باستدلال ، كما يدعي الوارث لأبيه دينا على رجل من حساب أبيه ، فيحلف كما يحلف على يقين ، وذلك على ما ثبت عنده بإخبار من يصدقه ، ليس لأحد من العلماء يجيز لأحد أن يحلف على ما لم يعلم ، ولكنه يحلف على ما لم يحضر إذا صح عنده وعلمه ما يقع العلم بمثله .

[ ص: 419 ] وقيل لابن المسيب : أعجب من القسامة أن يأتي الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف واحدا منهما ويقسم ، قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها في قتيل خيبر ، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها .

وقال أبو الحسن القابسي : العجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته في العلم كيف لم يعارض أبا قلابة في موضعه وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين ؟

قال المهلب : وما اعترض به أبو قلابة من حديث العرنيين ، لا اعتراض فيه على القسامة بوجه من الوجوه ؛ لجواز قيام البينة والدلائل التي لا رفع لها على تحقيق الجناية على العرنيين ، وليس هذا من طريق القسامة في شيء ؛ لأنها إنما تكون في الدعاوى والاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل ، وأمر العرنيين كان بين ظهراني الناس ، ويمكن فيه الشهادة ؛ لأنهم كشفوا وجوههم لقطع السبيل والخروج عن المسلمين بالقتل واستياق الإبل ، فقامت عليهم الشواهد البينة ، فأمرهم غير أمر من ادعي عليه بالقتل ، ولا شاهد يقوم عليه . وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يعارض به ما تقدم من السنة في القسامة ، وليس رأي أبي قلابة حجة على جماعة التابعين ، ولا ترد بمثله السنن ، وكذلك هو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا لا حجة فيه على إبطالها ، وقد يكون عبد الملك إنما قدم على ما صنع كأن لم يكن في تلك القصة ما يوجب القسامة من اللوث .

[ ص: 420 ] فصل :

اختلفوا في وجوب القود بها فأوجبت طائفة القود بها ، روي عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة وأبي الزناد وابن أبي ذئب ، وبه قال مالك والليث وأحمد وداود وأبو ثور ، واحتجوا بحديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أنه - عليه السلام - قال للأنصار :" أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ؟" وهذا يوجب القود ، وقال إسحاق : من قال بالقود فيها لا أعيبه ، وأما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه ( قال ) : لا يقاد بالقسامة ، وإنما تجب فيها الدية .

وقالت أخرى : لا قود بها وإنما توجب الدية ، روي عن عمر وابن عباس وهو قول النخعي والحسن ، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي - في مشهور مذهبه - وإسحاق ، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى ، عن عبد الله ، عن سهل بن أبي حثمة ، وهو قوله - عليه السلام - للأنصار :" إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب " . وهذا يدل على الدية لا على القود .

قالوا : ومعنى قوله - عليه السلام - في حديث يحيى بن سعيد :" وتستحقون دم صاحبكم " يعني به دية دم قتيلكم ؛ لأن اليهود ليس بصاحب لكم ، فإذا جاز أن يضمروا فيه جاز أن يضمر ( فيه ) دية دم صاحبكم ، فكان من حجة أهل المقالة عليهم أن قالوا : إن قوله :" إما أن تدوا صاحبكم "

[ ص: 421 ] معارض لقوله :" تستحقون دم صاحبكم " فلما تعارض وجب طلب الدليل على أي المعنيين أولى بالصواب ، فوجدنا الأول انفرد به ابن أبي ليلى في حديثه ، وقد قال أهل الحديث : إن أبا ليلى لم يسمع من سهل . وفيه : أنه مجهول لم يرو عنه غير مالك .

واختلف في اسم أبي ليلى هذا كما قال أبو عمر ، فقيل : عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل . وقيل : عبد الرحمن بن عبد الله بن سهل ، وقال ابن إسحاق : عبد الله بن سهل .

وقد اتفق جماعة من الحفاظ على يحيى بن سعيد على هذا الحديث وقالوا فيه :" تستحقون دم قتيلكم " يعني : يسلم إليكم القتيل ؛ لأنه لم يقل : وتستحقون دية دم صاحبكم . والدليل على ذلك أنهم كانوا ادعوا قتل عمد لا خطأ ، والذي يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك ولي القتيل .

وروى حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير ، عن سهل ورافع بن خديج أنه - عليه السلام - قال للأنصار :" يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته " وهذا حجة قاطعة .

وهذا الحديث يبين أن قوله :" دم صاحبكم " معناه : القاتل ؛ لأنه قتل الذي قتل وليهم ، وقد يصح أن تقولوا : هذا صاحبنا الذي ادعينا عليه أنه قتل ولينا ، ويجوز أن يكون معناه : وتستحقون دم قاتل صاحبكم ؛ لأنه من ادعى إثبات شيء على صفة وحققه بيمينه ، فإن الذي يجب له هو

[ ص: 422 ] الشيء الذي حققه بيمينه على صفته ، فلو ادعى إتلاف عبد ( أو دابة ) أو ثوب وحلف المدعي بعد نكول المدعى عليه حكم له بما ادعاه على صفته ولم يجب له سواه ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] فأخبر تعالى أن القود هو الذي يحيي النفوس ؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ، انزجر عن القتل وكف عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية .

فصل :

الناس في وجوب القسامة على معنيين : فقوم اعتبروا اللوث ، فهم يطلبون ما يغلب على الظن ، وتكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء ، ولم يطلب أحد في القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم المثبت ، وإنما طلبوا شبهة وسموها لطخة ؛ لأنها تلطخ المدعى عليه بها . وبهذا قال مالك والليث والشافعي ، إلا أنهم اختلفوا في اللوث ، فذهب مالك في رواية ابن القاسم أنه الشاهد العدل ، وروى عنه أشهب غير العدل . وذهب الشافعي إلى أنه الشاهد العدل أو أن يأتي ببينة مفرقة ، وإن لم يكونوا عدولا .

قال : وكذلك لو ( دخل ) بيتا مع قوم لم يكن معهم غيرهم ، أو تكون جماعة في صحراء فيتفرقون على قتيل ، أو يوجد قتيل وإلى جنبه رجل معه سكين مخضوبة بدم ، وليس ثم أثر سبع ولا قدم إنسان آخر ، ولا يقبل الشافعي قول المقتول : دمي عند فلان ؛ لأن السنة

[ ص: 423 ] المجمع عليها أنه لا يعطى أحد بدعواه شيئا . وعند مالك والليث أن القسامة تجب باللوث ، أو بقول المقتول : دمي عند فلان .

وقد سلف بيان هذه المسألة قريبا في باب : إذا قتل بحجر أو بعصى . وقوم أوجبوها ، والدية بوجود القتل فقط واستغنوا عن مراعاة قول المقتول .

وعن الشافعي ، وهو قول الثوري والكوفيين : ولا قسامة عندهم إلا في القتيل يوجد في المحلة خاصة ، قالوا : فإذا وجد في محلة قوم وبه أثر من جراحة أو ضرب أو خنق ، حلف أهل الموضع أنهم لم يقتلوه ، ويكون عقله عليهم ، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شيء . وكذا لو كان الدم يجري من أنفه أو دبره فليس قتيلا ، ( فإن جرح من أذنه أو عينه فهو قتيل ) ، وهذا لا سلف لهم فيه . وحديث يحيى بن سعيد عن بشير بخلاف قولهم ؛ لأنه - عليه السلام - لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل في محلتهم ، ولم يطالبهم بها ، بل أداها من عنده . ولو وجبت على أهل المحلة لأوجبها على اليهود . وأما اشتراطهم أن يكون به أثر فليس بشيء ؛ لأنه قد يقتل بما لا أثر به .

قال ابن المنذر : والعجب من الكوفيين أنهم ألزموا العاقلة مالا بغير بينة تثبت عندهم ولا إقرار منهم ، بل ثم أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمد ولا تثبت ببينة ولا إقرار ؛ لأن الدعوى التي ادعاها المدعي لو ثبتت ببينة لم يلزم ذلك العاقلة ، فكيف يجوز أن يلزموه بغير بينة ؟ والخطأ محيط بهذا القول من كل وجه .

[ ص: 424 ] وذهب الليث ومالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم فهو هدر لا يؤخذ به أقرب الناس دارا ولا غيره ؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به ، فلا يؤخذ أحد بمثل ذلك .

وقد قال عمر بن عبد العزيز : هذا بما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة .

وقال القاسم بن مسعدة : قلت للنسائي : مالك لا يقول بالقسامة إلا بلوث . فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه ؟ قال النسائي : أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث ، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة .

وقال الشافعي : إذا كان من السبب الذي حكم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبت القسامة ، كانت خيبر دار يهود مختصة ، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة . وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر ( فوجد قتيلا قبل الليل ) ، فكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود . وكذلك قال أحمد : إذا كان بين القوم عداوة كما كان بين الصحابة واليهود .

ووجه قول مالك : أن قول المقتول يجب فيه القسامة ، أن الغالب من الإنسان أنه يتخوف عند الموت ويجهد في التخلص من المظالم ، ويرغب فيما عند الله تعالى ويحدث توبة ، ولا يقدم على دعوى القتل ظلما ، فصار أقوى من شهادة الشاهد وأقوى من قول من خالف أن

[ ص: 425 ] الولي يقسم إذا كان بقرب وليه وهو مقتول ومع الرجل سكين ؛ لأنه يجوز أن يكون غيره قتله ، فضعف هذا اللوث ، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه ، وهو قول المقتول : دمي عند فلان . ولا يسلم ذلك له .

قال ابن أبي زيد : وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب بالبقرة وقال : قتلني فلان . فهذا يدل على قبول قوله : دمي عند فلان ؛ لأنه كان في شرع بني إسرائيل ، وسواء كان قبل الموت أو بعده .

واعترض عليه بأن ذلك كان معجزة لموسى وأنه كان بعد الموت .

تنبيه : المتقرر عند أبي حنيفة وصاحبيه ، أنه إذا وجد القتيل في محلة وبه أثر ، أو ادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه ، أو على واحد منهم بعينه ، استحلفوا من أهل المحلة خمسين يختارهم الولي ، فإن لم يبلغوا خمسين كررت عليهم الأيمان ، ثم يغرمون الدية . فإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يقروا أو يحلفوا . وهو قول زفر . وروي عن الحسن بن زياد عن أبي يوسف : إذا أبوا أن يقسموا تركهم ولم يحبسهم وتجعل الدية على العاقلة في ثلاث سنين . وقالوا جميعا : ( إذا ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة ، فقد أبرأ أهل المحلة وغيرهم .

وقال ابن شبرمة ) : إذا ادعى الولي على رجل بعينه من أهل المحلة فقد أبرأ أهل المحلة ، وصار دمه مهدرا ، إلا أن يقيم البينة على ذلك الرجل .

[ ص: 426 ] ( وقال البتي : يستحلف من أهل المحلة خمسون رجلا : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، ثم لا شيء عليهم غير ذلك ، إلا أن يقيم البينة على رجل ) بعينه أنه قتله .

قال أبو عمر : وهذا القول مخالف لما قضى به عمر - رضي الله عنه - من رواية أبي إسحاق ، عن الحارث بن الأزمع : أن عمر استحلف الذي وجد عندهم القتيل ( وأغرمهم ) الدية .

فصل :

واختلفوا في العدد الذين يحلفون ويستحقون الدم ، فقال مالك : لا يقسم في قتل العمد إلا اثنان فصاعدا ترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا ، وذلك الأصل عندنا . والحجة أن الشارع عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعة فقال :" تحلفون وتستحقون " . وأقل الجماعة اثنان فصاعدا وقال الليث : ما سمعت أحدا أدركت يقول : أنه يقتصر على أقل من ثلاثة .

وقال الشافعي : إذا تركوا وارثا استحق الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينا . واحتج له أبو ثور فقال : قد جعل الله للأولياء أن يقسموا ، فإذا لم يكن إلا واحدا كان له ذلك ، ولو لم تكن إلا ابنة وهي مولاته حلفت خمسين يمينا وأخذ من الكل النصف بالنسب والنصف بالولاء .

[ ص: 427 ] فصل :

وفي قوله : (" تستحقون ") دلالة على أن لا يمين ( لهم ) مستحق ، وعلى أن لا يحلف إلا وارث ، كما نبه عليه ابن المنذر .

وفيه من الفقه : أن تسمع حجة الخصم على الغائب ، وأن أهل الذمة إذا منعوا حقا رجعوا حربا . ومقابله : من منع حقا حتى يؤديه ، وإن صح عنده أمر ولم يحضره أن له أن يحلف عليه ؛ لأنه - عليه السلام - عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر .

فصل :

وفيه أيضا : وجوب رد اليمين على المدعي في الحقوق . واختلف العلماء في ذلك . فقالت طائفة : إن من ادعى حقا على آخر ولا بينة له ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، فإن حلف برئ وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعي ، فإن حلف استحق وإلا فلا شيء له . روي هذا عن عمر وعثمان ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي ، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور .

وذهب الكوفيون أن المدعى عليه إن لم يحلف لزمه الحق ولا ترد اليمين على المدعي .

وكان أحمد لا يرى رد اليمين ، وحجتهم في ذلك أنه - عليه السلام - حكم بالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، فلما لم يجز نقل حجة المدعى عليه وهي اليمين إلى المدعي ؛ لأن قوله - عليه السلام - :" اليمين على المدعى عليه " إيجاب عليه أن يحلف ، فإذا امتنع بما يجب عليه

[ ص: 428 ] أخذه الحاكم بالحق . هذا قول ابن أبي ليلى وغيره من أهل العلم .

واحتج أهل المقالة الأولى بحديث القسامة ، وقالوا : إن الشارع جعل اليمين في جهة المدعي بقوله للأنصار :" أتحلفون ؟" فلما أبوا أحالها إلى اليهود ( ليبرءوا ) بها . فلما وجدنا في سنته أن المدعي قد تنتقل إليه اليمين في الدماء وحرمتها أعظم ، جعلناها عليه في الحقوق ؛ لنأخذ بالأرفق ، والمدعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته وصار متهما وقويت حجة المدعي ؛ لأن الظاهر صار معه فوجب أن تصير اليمين في جهته لقوة أمره .

وقد احتج الشافعي على الكوفيين فقال : رد اليمين في كتاب الله في آية اللعان أيضا ؛ وذلك أن الله جعل اليمين على الزوج القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء ، وجعل له بيمينه البراءة من حد القذف ، وأوجب الحد على الزوجة إن لم تلتعن ، فهذه يمين ردت على مدع كانت عليه البينة في رميه زوجته ، فكيف ينكر من له فهم وإنصاف رد اليمين على المدعي ؟

وقال ابن القصار : قد ذكر الله في كتابه اليمين على المدعي الصادق ، فقال لنبيه : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق [ يونس : 53 ] وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن [ التغابن : 7 ] وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ سبأ : 3 ] ، واحتج أيضا بقوله تعالى : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ المائدة : 108 ] قال أهل التفسير : يعني : تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء .

[ ص: 429 ] قلت : وروى الحاكم في " مستدركه " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد .

فصل :

قوله : ( يتشحط في الدم ) التشحط : الاضطراب في الدم .

وقوله : (" أترضون نفل خمسين من اليهود ؟") هو بالنون والفاء ، أي : يمين خمسين . يقال : نفلته فتنفل . أي : حلفته فحلف ، ونفل وانتفل إذا حلف ، وأصل النفل النفي ، يقال : نفلت الرجل عن نسبه ، وانفل عن نفسك إذا كنت صادقا . أي : انف ما قيل فيك ، وسميت اليمين في القسامة نفلا ؛ لأن القصاص ينفى بها ، ومنه حديث علي - رضي الله عنه - : لوددت أن بني أمية رضوا ونفلناهم خمسين رجلا من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان ولا نعلم له قاتلا . يريد : نفلناهم .

وكذا قال صاحب " العين " : انتفلت من الشيء : انتفلت منه .

فنفل اليهود هو أيمانهم أنهم ما قتلوه ، وانتفاؤهم عن ذلك .

وقوله : ( ثم ينفلون ) هو بكسر الفاء وضمها . وفيه : تبرئة المدعى عليهم ، إلا أنه مرسل لا يقابل به أخبار الجماعة المسندة التي قدمناها .

فصل :

وقوله : ( قلت : وقد كانت هذيل خلعوا حليفا لهم في الجاهلية ، فطرق أهل بيت من البطحاء ، فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف

[ ص: 430 ] فقتله ، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر - رضي الله عنه - بالموسم . .) إلى آخره . كانت العرب يتعاهدون ويتعاقدون على النصرة والإعانة ، وأن يؤخذ كل منهم بالآخر ، فإذا أرادوا أن يتبرءوا من إنسان قد حالفوه ، أظهروا ذلك للناس وسموا ذلك الفعل خلعا ، والمتبرأ منه خليعا ، أي : مخلوعا ، فلا يؤخذون بجنايته ولا يؤخذ بجنايتهم ، فكأنهم قد خلعوا اليمين التي كانت قد لبسوها معه ، وسموه خلعا وخليعا مجازا واتساعا ، وبه سمي الأمير والإمام إذا عزل خليعا ، كأنه قد لبس الخلافة والإمارة ثم خلعها .

فصل :

فإن قلت : قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة ، فرواه سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من إبل الصدقة . ورواه سائر الرواة عن يحيى بن سعيد ، عن بشير : فوداه مائة من عنده . فما وجه الجمع ؟ وإبل الصدقة للفقراء والمساكين ، ولا تؤدى في الديات ، فما وجه تأديتها في دية اليهود ؟

فالجواب : أن رواية من روى : من عنده . تفسر رواية من روى : دفع من إبل الصدقة . وذلك أنه - عليه السلام - لما عرض الحكم في القسامة على أولياء الدم بأن يحلفوا ويستحقوا ، ثم نفلهم إلى أن ( يحلف ) لهم اليهود ويبرءوا من المطالبة بالدم . قالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار ، وتعذر إنفاذ الحكم ؟ خشي - عليه السلام - أن يبقى في نفوس الأنصار ما تتقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حين ، فرأى أن من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم ووداه من عنده ، وتسلف ذلك من إبل الصدقة حتى يؤديها بما يفيء

[ ص: 431 ] الله عليه من خمس المغنم ؛ لأنه - عليه السلام - لم يكن يجتمع عنده بما يعتبر له في سهمانه من الإبل ما يبلغ مائة لإعطائه لها ، وتفريقها على أهل الحاجة ؛ لقوله :" ما لي بما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، وهو مردود فيكم " فمن روى : من إبل الصدقة . أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه . ومن روى : من عنده . علم وجه القصة وباطنها فلم يذكر إبل الصدقة .

وكان في غرمه لها صلحا عن اليهود وجهان من المصلحة :

أحدهما : أنه عوض أولياء الدم دية قتيلهم ، فسكن بذلك بعض ما في نفوسهم ، وقطع العداوة بينهم وبين اليهود .

والثاني : استئلاف اليهود بذلك . وكان حريصا على إيمانهم .

وقيل : كانت الإبل من الخمس فعبر عنها بالصدقة . وقيل : كان ولاة الدم فقراء فأعطاهم من إبل الصدقة . يوضحه حديث " الموطأ " : خرجوا إلى خيبر من جهد أصابهم . وقد روى ابن أبي عاصم حديثا يدل عليه في أمر الجنين المتقدم ، أخرجه من حديث أبي المليح عن أبيه . فقال - عليه السلام - : ( لأخي القاتلة " ديتها ") فقال : يا رسول الله ، إن لها بنون فهم أحق بعقل أمهم مني . قال :" أنت أحق بعقل أختك من ولدها " فقال : يا رسول الله ، ما لي شيء يعقل منه . فقال :" يا حمل بن مالك اقبض من تحت يدك من صدقات هذيل مائة وعشرين شاة " . قال ابن أبي عاصم : دل هذا على أن من كان من العاقلة فقيرا لم يحمل ولم يرد قسطه على باقي العاقلة وأدى الإمام عنه .

[ ص: 432 ] وقال ابن الطلاع : إنما أعطى الشارع من حق الغارمين الذين لهم سهم من الصدقة .

وفيه : دلالة أنه يعطي من الزكاة أكثر من نصاب .

فصل :

القسامة بفتح القاف وتخفيف السين : مشتقة من القسم ، والإقسام - وهو : اليمين - : يقال : أقسمت : إذا حلفت وقسمت قسامة ؛ لأن فيها اليمين . فالصحيح أنها اسم للأيمان . وقال الأزهري : إنها اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول .

فصل :

وحاصل الكلام فيها في ستة مواضع هل يوجب حكما أم لا ؟ وما الذي يوجبه ( به ؟) وما الذي يوجبها ؟ ومن يبدأ باليمين ؟ وفي موضع اليمين ، وكم عدة من يحلف فيها ؟ وقد أوضحنا ذلك بحمد الله ومنه . ويأتي بعضه ، وأن الجمهور على أنها توجب حكما وأنه عند مالك القود في واحد . وقال الشافعي في الجديد : توجب الدية .

وإذا قلنا بوجوب الدية ، فقال في القديم : يقاد من جميع المدعى عليهم . وهو قول المغيرة . وإذا قلنا : يقاد بها من واحد هل يقسم عليه ؟ قاله مالك ، أو على الجماعة ، ثم يقتلون واحدا ؟ قاله أشهب .

فصل :

واختلف في مسائل هل توجب القسامة ؟ محل الخوض فيها كتب الفروع وبسطه المالكية .

واختلف عندهم هل يحلف قائما أو قاعدا ؟ أو هل يستقبل القبلة ؟ وهل

[ ص: 433 ] يزيد : عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ؟ وهل يحلف جميع العصبة إذا كانوا أكثر من خمسين ؟ وإذا استوت حالتهم في كثير يمين هل يدعون أو يحلف جميعهم أو تستكمل على أحدهم ؟ وإذا قلنا برد اليمين في الخطأ هل يجتزأ بيمين بعض ؟ وإذا كانوا خمسين هل يحلف بعضهم ؟

فصل :

تكلفت الحنفية في الجواب عن الحديث السالف إلا في القسامة .

فقال الطحاوي : معناه فإنه يحلف من لم يدع عليه القتل نفسه ؛ قال : ويحتمل إلا في القسامة ، فإنه لا يبرأ باليمين من الخصومة ؛ لأن الدية تجب مع اليمين فيها .

قال لمن احتج لمالك : كما تبين أنكم خالفتم الخبر من وجه واحد .

قال : لا بل نخالفه من وجهين ، وذلك أن الاستثناء من الإثبات نفي ، فهو أثبت اليمين على من أنكر ونفاها بالاستثناء عنهم إلى غيرهم ، فقلتم أنتم : أثبتها فيهم واستثنى إثباتا على المنكر ثانيا .

والثاني : أنه - عليه السلام - نفى بالاستثناء أن يكون اليمين على المنكر وحده ، فأثبتم أنتم اليمين عليه وعلى غيره ، فخالفتم الخبر من وجهين :

الشارع قال :" اليمين على من أنكر إلا في القسامة " . قلتم أنتم : على من أنكر في القسامة .

والثاني : قلتم : اليمين على المنكر وغيره . وقالوا أيضا : إلا القسامة ، فإن اليمين فيها واحدة .

والجواب : أن الاستثناء يرجع إلى ما ذكر وتقدم ، وإنما تقدم ذكر اليمين لا ذكر أعداده .

[ ص: 434 ] فصل :

قصة عمر فيمن وجد عند بيوت السمانين لا يخالف مالكا ؛ لأنه لا يوجب بوجوده في المحلة شيئا ، وإنما يوجب الدية في ذلك أبو حنيفة ، كما سلف أنه - عليه السلام - لم يوجب على اليهود شيئا بوجود القتيل في محلتهم .

فصل :

قوله : (" الكبر ، الكبر ") هو منصوب على الإغراء ، أي : الزموا تقدمة الكبير ، أيضا على تقدير فعل ، أي : ليتكلم الكبير .

( والكبر ) بضم الكاف وسكون الباء : الكبير . قال الجوهري : هو ( كبر ) قومه ، أي : أقعدهم في النسب .

فصل :

وقوله : (" تأتون بالبينة على من قتله ") يستدل به على سماع حجة الخصم على الغائب .

فصل :

قوله : ( أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ) أي : أظهره .

وقول الناس : ( القسامة حق القود بها . .) إلى آخره فيه حجة للجمهور القائلين بها .

وقوله : ( ونصبني للناس ) أي : أقامني .

وقول أبي قلابة : ( لو أن خمسين منهم شهدوا على ( رجل )

[ ص: 435 ] محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه ( أكنت ) ترجمه ؟) قال الشيخ أبو الحسن : لم ( يأت ) أبو قلابة بما نسبه ؛ لأن الشهادة طريقها غير طريق اليمين .

قال : والعجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته من العلم كيف لم يعارض أبا قلابة في قوله ، وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين ، وهو عند الناس معدود في البلد ؟!

وقد أسلفنا بعض هذا ، ويدل على صحة مقالة الشيخ أبي الحسن في الفرق بين الشهادة واليمين أنه - عليه السلام - عرض على أولياء المقتول اليمين ، وعلم أنهم لم يحضروا بخيبر .

وقوله : ( قطع في السرق ) هو بفتح السين والراء مصدر سرق سرقا .

وقوله : ( فنقهت أجسامهم ) هو بكسر القاف على وزن علم .

وقوله : (" أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟") احتج به الشافعي - كما قدمناه - أن القسامة تجب بها الدية دون الدم . وفيه دليل أيضا أن الحكم لا يكون بمجرد النكول دون أن يرد اليمين على المدعي ، خلافا لأبي حنيفة في منعه الرد ؛ وموضع الدلالة أنه حلف المدعين .

فصل : في القتل بالقسامة :

جاء في حديث عمرو بن شعيب أنه - عليه السلام - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ، وفي حديث أبي المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة بالطائف ، وكلاهما منقطع .

[ ص: 436 ] فصل :

قال ابن حزم : أما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين ( يمينا ) ولا بد ، لا حجة لهم إلا القياس ، وأما من روى عن الزهري : أن القسامة كانت في أمر الجاهلية فأقرها الشارع تعظيما للدم ومن سنتها ، وما بلغنا فيها أن القتيل إذا تكلم برئ أهله ، وإن لم يتكلم حلف المدعي . وذلك فعل عمر ، وهو الذي أدركنا الناس عليه . فمرسل ، وفيه رجل متهم بالوضع .

قال ابن عبد البر في " استذكاره " : لم يختلف قول مالك وأصحابه أن قول المقتول قبل موته : دمي عند فلان . أنه لوث يوجب القسامة ، ولم يتابع مالكا على ذلك ( أحد إلا الليث بن سعد . وروى ابن القاسم عن مالك ) : أن الشاهد الواحد العدل لوث . وفي رواية أشهب وإن لم يكن عدلا فهو لوث . وقد أسلفنا ذلك عنه .

قال مالك : واللوث الذي ليس بقوي ولا قاطع .

واختلفوا في المرأة الواحدة هل يكون شهادتها لوثا يوجب القسامة ؟ وكذلك اختلفوا في النساء والصبيان .

فصل :

قال ابن حزم : وأما المالكيون ، فإنهم خالفوا هذا الحكم ولا يرون فيه قسامة أصلا إذا لم يتكلم ، وذكروا ما حدثناه عبد الله بن ( ربيع ) ، ثنا

[ ص: 437 ] محمد بن معاوية ، ثنا أحمد بن شعيب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أول قسامة كانت في الجاهلية أن رجلا من بني هاشم استأجره رجل من قريش ، فانطلق معه ، فمر رجل من بني هاشم انقطعت عروة جوالقه ، فقال : أغثني بعقال أشد عروة جوالقي . فأعطاه ، فلما نزلوا عقل الإبل إلا بعيرا واحدا ، فقال الذي استأجره : ما شأن هذا البعير ؟ ( قال ) : ليس له عقال . قال : فأين عقاله ؟ قال : أعطيته رجلا من بني هاشم . فحذفه بعصى كان فيها أجله ، فتركه وانصرف . فمر به رجل من أهل اليمن ، فقال له وهو يموت : أتشهد الموسم ؟ قال : نعم . قال : إذا شهدته فنادي : يا آل قريش ، ثم يا بني هاشم ، ثم اسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ، ومات المستأجر ، فلما قدم الذي كان استأجره سأله أبو طالب عن صاحبهم : ما فعل ؟ قال : مرض ومات ، فمكث حينا ، ثم إن الرجل الذي شهد الموسم وأخبر أبا طالب الخبر ، فقال : اختر منا إحدى ثلاث : إما أن تودي مائة من الإبل ؛ فإنك قتلت صاحبنا خطأ ، وإن شئت حلف خمسون من قومك : أنك لم تقتله ، فإن أبيت قتلناك به . فأتى قومه فذكر ذلك لهم فقالوا : نحلف ، فجاءت امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له ، فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل غيره ، ولا تصبر يمينه ، ففعل .

وأتاه آخر منهم فقال : يا أبا طالب ، نصيب كل رجل من الخمسين بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان . فقبلهما ، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا .

[ ص: 438 ] قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف .

قال ابن حزم : وإن كان قد احتجوا بهذا فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع ؛ لأن قول المقتول لم يتبين بشاهدين ، وهم لا يرون القسامة بمثل هذا ، وأن أبا طالب بدأ بالمدعى عليهم بالأيمان ، وهم لا يقولون بهذا ، وأن أبا طالب أقر أن ذلك الذي قتل الهاشمي خطأ ، ثم قال له : إن أبيت قتلناك به . وهم لا يرون القود في قتيل الخطأ ، فمن العجب احتجاجهم بخبر هم أول مخالف له .

وأما نحن ، فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل توجد فأقرها الشارع على ذلك ، وهو حق عندنا ؛ لصحة الخبر ، ومن غامض انتزاعهم ، ولا حجة لهم فيه أيضا ؛ لأنه حكم كان في بني إسرائيل ، ولا يلزمنا ما كان فيهم إلا أن يلزمناه - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، وهو قوله - تبارك وتعالى - : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ البقرة : 72 ] ثم ذكر ما أسلفناه عن ابن جبير ، عن ابن عباس من قصة البقرة ، وأنهم ضربوا قبر الميت ببعضها فقام وقال : قتلني ابن أخي .

فإن احتجوا بحديث رض اليهودي رأس الجارية ، فليس صحيحا ؛ لأنهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ . والأظهر في هذه الجارية أنها لم تبلغ ؛ لأن في الحديث أنها جارية ذات أوضاح ، وهذه الصفة عند العرب - الذين بلغتهم يتكلم أنس بن مالك - يوقعونها على الصبية

[ ص: 439 ] لا على المرأة البالغة ، وليس القود بالشاهدين إجماعا ، كما ادعاه بعضهم ؛ لأن الحسن بن أبي الحسن يقول : لا يقبل في القود إلا أربعة ، وقد صح أنه - عليه السلام - قال في حديث سهل لليهود :" إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب " وكان ذلك قبل فتحها .

كما في الحديث الثابت عن بشير بن يسار : أن خيبر كانت يومئذ صلحا ، ولم تكن قط صلحا بعد فتحها عنوة ، بل كانوا ذمة يجري عليهم الصغار ، ولا يسمون صلحا ، ولا يمكن أن يؤذنوا للحرب . فصح يقينا أن ذلك الحكم من الشارع إجماع من جميع الصحابة ، أولهم وآخرهم بيقين لا شك فيه ؛ لأن اليهود بينهم وبين المدينة مائة ميل إلا أربعة أميال يتردد في ذلك الرسل ، فلم يخف ذلك على أحد من الصحابة بالمدينة ، ولا على اليهود ، وليس الإسلام يومئذ في غير المدينة ؛ إلا من كان مهاجرا بالحبشة أو مستضعفا بمكة . وكذا قال الشافعي : كانت خيبر دار يهود محضة لا يخالطهم غيرهم كما أسلفناه عنه .

فصل :

قال ابن حزم : فإن قيل : فما تقولون في قتيل يوجد وفيه رمق فيحمل ، فيموت في مكان آخر أو في الطريق ؟

فجوابنا : أنه لا قسامة في هذا ، إنما فيه التداعي فقط ، فإن وجد أثر فيه فقد قلنا : أنه - عليه السلام - إنما حكم في المقتول ، وليس كل ميت مات حتف أنفه مقتولا .

[ ص: 440 ] فإن تيقنا أنه قتل بأثر وجد فيه من ضرب أو شدخ وشبه ذلك ، فهو مقتول بالقسامة فيه ، فإن أشكل أمره فأمكن أن ( يكون ) ميتا حتف أنفه مقتولا .

فإن تيقنا أنه بشيء وضع على فيه فقطع نفسه ، فالقسامة فيه ، وسواء وجدنا القتيل في دار أعدائنا من الكفار أو من المؤمنين ، أو أصدقاء مؤمنين ، أو كفار ، أو في دار أخيه أو ابنه ، أو حيث ما وجد فالقسامة في ذلك ، وهو قول ابن الزبير ومعاوية بحضرة الصحابة ، ولا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة ؛ فإنهما حكما في إسماعيل بن هبار ؛- وجد مقتولا بالمدينة ، وادعى قوم قتله - على ثلاثة من قبائل شتى متفرقة الدور ، زهري وتيمي وليثي كناني ، ولم يوجد المقتول بين أظهرهم .

قال ابن حزم : وسواء وجد المقتول في مسجد ، أو في دار ( نفسه ) ، أو في المسجد الجامع ، أو في السوق ، أو الفلاة ، أو في سفينة ، أو نهر يجري ، أو في بحر ، أو على عنق إنسان ، أو في سقف ، أو في شجرة ، أو في غار ، أو على دابة واقفة ، أو سائرة ، فكله سواء كما ذكرناه .

وقالوا : إن وجد بين قريتين فإنه يذرع ما بينهما فإلى أيهما كان أقرب ، حلفوا وودوا ، فإن تعلقوا في ذلك بما رويناه عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : وجد قتيل بين قريتين ، فأمر - عليه السلام - فقيس بينهما إلى أيهما هو أقرب ؟ ( فوجد أقرب ) إلى إحداهما

[ ص: 441 ] بشبر ، فقضى به على من كانت أقرب له
.

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كانت أم عمرو بن سعد عند الجلاس بن سويد بن الصامت ، فقال الجلاس في تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا ، لنحن شر من الحمير . فسمعها عمير وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعى الجلاس فأنكر ، فأنزل الله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر [ التوبة : 74 ] فقال الجلاس : أي رب ، فإني أتوب إلى الله . قال عروة : وكان مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف فأبى بنو عمرو أن يعقلوه ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل عقله على بني عمرو بن عوف .

ومن حديث ( عبد الله الشعبي ) عن مكحول : أن قتيلا وجد في هذيل ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه ، فدعى خمسين منهم ، فأحلفهم كل رجل عن نفسه يمينا بالله ما قتلنا ولا علمنا ثم أغرمهم الدية . ومن حديث شعبة عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : كانت القسامة في الجاهلية ، إذا وجدوا القتيل بين ظهراني قوم ، أقسم منهم خمسون : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، فإن عجزت الأيمان ردت عليهم ، ثم عقلوا .

[ ص: 442 ] ومن حديث مكحول : ثنا عمرو بن أبي خزاعة أنه قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل القسامة على خزاعة : بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، وحلف كل منهم عن نفسه ، وغرموا الدية .

قال ابن حزم : لا يجب الاشتغال بهذه كلها ، أما الأول : فهالك ؛ لأنه تفرد به عطية ، وهو ضعيف جدا ساقط ، وما ندري أحدا وثقه .

قلت : ذكره ابن سعد في " طبقاته " وقال : كان ثقة إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، وذكره أبو حفص البغدادي في " ثقاته " ، وقال يحيى بن معين : صالح ، وقال أبو حاتم : ضعيف يكتب حديثه .

قال ابن حزم : رواه عنه أبو إسرائيل وهو إسماعيل بن أبي إسحاق بلية عن بلية ؛ لأن الملائي ضعيف جدا ، وليس في الذرع بين القريتين حديث غير هذا البتة لا مسند ولا مرسل .

قلت : أبو إسرائيل اسمه إسماعيل بن خليفة ، قال أحمد : يكتب حديثه . وقال ابن معين : لا بأس به . وفي رواية : صالح . وعند الساجي عنه : ثقة . وقال أبو حاتم : حسن الحديث جيد اللقاء . وقال أبو زرعة : صدوق . وذكره ابن حبان في " ثقاته " وقال : يخطئ ، حكاه الصيرفيني عنه .

[ ص: 443 ] وقال ابن سعد : يقولون : إنه صدوق . ووثقه يعقوب بن سفيان الفسوي .

قال : وخبر الجلاس ( مرسل ) ؛ لأن راويه عروة : أنه - عليه السلام - ، وليس فيه أيضا ذكر القسامة ، ولا أنه وجد قتيلا بينهم ، إنما فيه أنه قتل فيهم ، فالعقل عليهم على هذا ، وهذه صفة قتل الخطأ .

قلت : عمير بن سعد راويه كان عاملا لعمر على حمص ، وتوفي بعد عمر ، فسماع عروة منه غير ممتنع ؛ يوضحه قول عروة آخره : فما زال عمير مكينا عند الناس حتى مات . فهذا إخبار من عروة برؤيته ومشاهدته ، وإذا كان كذلك ، كان حديثه هذا غير مرسل .

ثم قال ابن حزم : وأما حديث عمرو بن أبي خزاعة فمرسل ، وعمرو مجهول .

قلت : عمرو مذكور في كتب الصحابة فلا تضر جهالته .

قال ابن حزم : وأما ما ذكروا عن عمر وعلي فالذي عن علي لا يصح البتة ؛ لأنه عن أبي جعفر وهو منقطع ، وعن الحارث وقد وصفه الشعبي بالكذب ، وفيه أيضا الحجاج بن أرطأة ، والرواية عن عمر غير صحيحة ، ولا يعلم في القرآن ولا السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولا في الإجماع

[ ص: 444 ] ولا في القياس أن يحلف مدعى عليه ويغرم .

قلت : الرواية عن عمر أخرجها ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحيم ، عن أشعث ، عن الشعبي قال : قتل قتيل [ بين ] وادعة وخيوان ، فبعث معهم عمر المغيرة بن شعبة فقال : انطلق معهم فقس ما بين القريتين الحديث . وحدثنا وكيع ، ثنا إسرائيل : عن أبي إسحاق ، عن الحارث بن الأزمع قال : وجد قتيل باليمن بين وداعة وأرحب ، فكتب عامل عمر إليه ، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - أن قس ما بين الحيين ، الحديث .

وكلا الإسنادين صحيح متصل ؛ عبد الرحيم بن سليمان ثقة ( حافظ ) مصنف ، روى له الجماعة ، وأشعث هو ابن سوار الكندي من رجال مسلم ، وإن كان قال أبو زرعة : فيه لين .

وقال عبد الله بن أحمد الدورقي عن يحيى بن معين : ثقة . وقال ابن عدي : لم أجد له فيما يرويه منكرا ، إنما في الأحايين يخلط في الأسانيد ويخالف . وقال العجلي : لا بأس به . وذكره أبو حفص البغدادي في " ثقاته " ، وقال : قال عثمان بن أبي شيبة : هو صدوق .

[ ص: 445 ] وخرج له ابن حبان في " صحيحه " ، وذكره في " ثقاته " الصيرفيني وصرح جماعة بسماع الشعبي من المغيرة ، وسند الثاني لا يسأل عنهم .

والحارث ذكره ابن حبان في " ثقاته " ووصفه بالرواية عن عمر وابن مسعود ، ووصفه أيضا بأن الشعبي روى عنه ، وقال : مات في إمارة النعمان بن بشير على الكوفة سنة ستين في آخر ولاية معاوية .

وعند ابن حزم نفسه ، أن الضحاك رواه عن محمد بن المنتشر .

وفي " الاستذكار " روى الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن عمر أنه اشترط على أهل الذمة : إن قتل رجل من المسلمين بأرضكم فعليكم الدية .

فصل ينعطف على ما مضى :

قيل : إن أول من حكم بالدية في القسامة عمر ، وأنه لا يصح فيها عن أبي بكر شيء ، من مراسيل الحسن

قال الحسن : القتل بالقسامة جاهلية . وذكر عبد الرزاق أن هذه القسامة أول قسامة كانت في الإسلام . وذكر أيضا عن معمر قال : قلت لعبيد الله بن عمر : أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر وعمر ؟ قال : لا ، قلت : فكيف تجترئون عليها ؟ فسكت ، قال : فقلنا ذلك لمالك ، فقال : لا نضع أمر رسول الله على الختل لو ابتلي بها أقاد بها .

[ ص: 446 ] قال عبد الرزاق : وأنا ابن جريج ، أخبرني يونس بن يوسف ، قلت لابن المسيب : أعجب من القسامة يأتي الرجل فيسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول ، ثم يضل ، قال : نعم ، قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة في قتيل خيبر ، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها .

قال ابن جريج : وسمعت ابن شهاب يقول : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون اليمين على المدعى عليهم إن كانوا جماعة ، وعلى المدعى عليه إن كان واحدا وعلى أوليائه ، يحلف منهم خمسون رجلا إذا لم تكن ببينة توجد ، وإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ، ووليها المدعون فيحلفون مثل ذلك ، فإن حلف منهم خمسون استحقوا الدية ، وإن نقصت قسامتهم ورجع منهم واحد لم يعطوا الدية .

قال ابن عبد البر : وهذا يخالف ما تقدم عن ابن شهاب ، أنه يوجب القود بالقسامة ؛ لأنه لم يوجب هنا إلا الدية .

قال عبد الرزاق : أنا معمر عن الزهري ، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار ، عن رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود - وبدأ بهم - :" يحلف منكم خمسون رجلا " فأبوا فقال للأنصار الحديث ، وفيه : فجعلها دية على اليهود ؛ لأنه وجد بين أظهرهم . قال أبو عمر : وهذا حجة قاطعة لأبي حنيفة وسائر أهل الكوفة ، وقد سلف ذلك أيضا .

[ ص: 447 ] قال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج : أخبرني الفضل ، عن الحسن أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ باليهود فأبوا أن يحلفوا ، فرد القسامة على الأنصار وجعل العقل على اليهود .

قال : وقد أنكر على مالك قوله : الأمر المجتمع عليه عندنا والذي أرضاه ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث : أن يبدأ المدعون في الأيمان في القسامة ، وأنها لا تجب إلا بأحد أمرين : أن يقول المقتول : دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة الدم بلوث . قالوا : فكيف ؟ قال : اجتمعت الأئمة في القديم والحديث ، وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة ، وأبو سلمة أثبت وأجل من بشير بن يسار ، وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته فمن رواية عن ابن شهاب ، عن سليمان وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهيني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد بن ليث وكان أجرى ( نفسه ) فوطئ على أصبغ الجهني ، فمات منها .

فقال عمر للذي ادعى عليهم : أتحلفون بالله خمسين يمينا أنه ما مات منها ؟ فأبوا ، وتحرجوا ، فقال للمدعين : أتحلفون ؟ فأبوا ، فقضى بشطر الدية على السعديين .

قالوا : فأي [ أئمة ] اجتمعت على ما قال ؟ ولم يبد في ذلك ولا في قول المقتول : دمي عند فلان . عن أحد من أئمة المدينة ، لا صاحب

[ ص: 448 ] ولا تابع ولا أحد يعلم قيله ممن يروى قوله . وقد أنكرت طائفة من العلماء الحكم بالقسامة ودفعوها جملة واحدة ، ولم يقضوا بشيء منها . كما سلف .

فصل :

اختلف فيما إذا كان الأولياء في القسامة جماعة : فقال مالك وأحمد : تقسم الأيمان بينهم بالحساب ، ولا يلزم كل واحد منهم خمسون يمينا ، وإن كانوا خمسة حلف كل واحد منهم عشرة أيمان ، فإن كانوا ثلاثة حلف كل واحد سبعة عشر يمينا وجبر الكسر ، إلا في إحدى الروايتين عن مالك ، فإنه قال : يحلف منهم رجلان يمين القسامة وهي خمسون .

وقال الشافعي في أحد قوليه : يحلف كل منهم خمسين يمينا . والآخر كقول مالك في المشهور عنه ، وعن أحمد .

وقال أبو حنيفة : تكرر عليهم الأيمان بالإدارة بعد أن يبدأ أحدهم بالقرعة ثم يؤخذ على اليمين حتى يبلغ خمسين ( يمينا ) .

فصل :

اختلف في إثبات القسامة في العبيد ، فقال أبو حنيفة وأحمد : وعليهن قيمته في ثلاث سنين ، ولا يبلغ بها دية الحر .

وقال مالك وأبو يوسف : لا ، ولا غرامة وهو مهدر ، وقاله الأوزاعي أيضا بزيادة : ويغرمون ثمنه .

[ ص: 449 ] وللشافعي قولان أصحهما : نعم ، واختلف أيضا هل تسمع أيمان النساء في القسامة ؟ فقال الأولان : لا في العمد ولا في الخطأ .

وقال زفر : القسامة والقيمة يغرمونها . والظاهرية جعلوه كالحر في كل أحكامه . وقال مالك : يسمع في الخطأ دون العمد

التالي السابق


الخدمات العلمية