التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6544 6943 - حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل ، حدثنا قيس ، عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ . فقال : "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . [انظر : 3612 - فتح: 12 \ 315 ] .


ذكر فيه حديث أنس - رضي الله عنه - : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . . " . الحديث سلف في الإيمان .

وحديث إسماعيل : سمعت قيسا ، قال : سمعت سعيد بن زيد - رضي الله عنه - : لقد رأيتني وإن عمر موثقي على الإسلام ، ولو انقض أحد مما فعلتم بعثمان كان محقوقا أن ينقض . وحديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - السالف بطوله في باب : علامات النبوة .

[ ص: 26 ] وقام الإجماع أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة . واختلفوا فيمن أكره على (غير ) الفعل من فعل ما لا يحل له ، فقال أصحاب مالك : الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة ، ذكره ابن حبيب وسحنون ، وذكره ابن سحنون عن أهل العراق : أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو بضرب يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له ، فإن لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما ، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب الخمر غير باغ ولا عاد فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم .

وقال مسروق : من اضطر إلى شيء مما حرمه الله عليه ، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار . قالوا : ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم ؛ لأن هذا فيه رخصة ، وتركه أفضل ، ولم يجعل في الضرورة حلالا .

قال سحنون : إذا لم يشرب الخمر ولا أكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره كالكفر ؛ لأن الله أباح له الكفر بضرورة الإكراه ، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما ، وأجمعنا أن له ترك الرخصة في قول الكفر فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول في ترك الرخصة في الميتة ولحم الخنزير ، ولا يكون معينا على نفسه ، وقد تناقض

[ ص: 27 ] الكوفيون في هذا فقالوا كقولنا في المكره بوعيد بقطع عضو ، أو قتل ، على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إلى فلان : أنه في سعة من ذلك ؛ لأنه كالمضطر ، ويضمن الآمر ولا ضمان على المأمور ، وإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا في سعة ، فيقال لهم : هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه حتى يقتل .

واختلف أصحابنا في وجوب التلفظ على وجهين أصحهما : لا يجب ، والثبات أفضل .

قال ابن بطال : وحديث خباب حجة لأصحاب مالك ؛ لوصفه - عليه السلام - عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد وينشر بالمناشير بالشدة في دينه والصبر على المكروه في ذات الله ولم يكفروا في الظاهر ويبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عنهم ، فمدحهم - عليه السلام - بذلك ، وكذا حديث أنس - رضي الله عنه - سوى فيه الشارع بين كراهة المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار ، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان فلا محالة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن أسهل من دخوله النار ، فينبغي أن يكون أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة على نفسه .

وأما ابن التين فقال : هكذا ذكر بعضهم وما ظهر لي فيه حجة ؛ لأن العلماء متفقون على اختيار القتل في الكفر ، وإنما يكون هذا حجة على من يقول : إن اختار الكفر أو الارتداد في حديث أنس - رضي الله عنه - ، وأن يكره أن يعود في الكفر .

وقال في حديث خباب : "فما يصده ذلك عن دينه" والكفر قد اتفقوا على اجتناب القتل فيه فيكون حجة ، وتبويب البخاري يشعر بهذا ؛ لقوله

[ ص: 28 ] على الكفر ، وقال قبل ذلك أحاديث الباب الثلاثة حجة لأصحاب مالك فيما ذكره .

فصل :

وقد اعترض هذا قوم بقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [النساء : 29 ] ولا حجة لهم فيه في الآية ؛ لقوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما [النساء : 30 ] ، وهما محرمان ، وليس من أهلك نفسه في الطاعة بعاد ولا ظالم ، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يتقحم المهالك في الجهاد ، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار ومبارزتهما ، وهذا من أبين الهلكات والضرر ومن فر من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله .

فصل :

وقول خباب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تدعو الله أن يكفينا ؟ يعني : عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وصبرهم (وإبقائهم ) بالحديد .

وفيه من الفقه : أنه - عليه السلام - لم يترك الدعاء في ذلك على أن الله قد أمرهم بالدعاء أمرا عاما بقوله : ادعوني أستجب لكم [غافر : 60 ] وبقوله : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا [الأنعام : 43 ] (إلا ) لأنه - عليه السلام - علم من الله تعالى أنه قد سبق في قدره وعلمه أنه يجري عليهم ما جرى من البلوى والمحن ؛ ليؤجروا عليها على ما سلفت عادته تعالى في سائر أتباع الأنبياء من الصبر والشدة في ذات الله ثم يعقبهم (بالصبر ) [ ص: 29 ] والتأييد والظفر وجزيل الأجر ، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم ؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها ، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعي من إحدى الثلاث التي وعد الشارع بها .

وفيه : علامات النبوة ، وذلك خروج ما قال - عليه السلام - من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الوعد من ذلك .

فصل :

وقول سعيد : ( وإن عمر موثقي على الإسلام ) كان ذلك قبل أن يسلم أربعة ، وكان سعيد ابن عمه وزوج أخته ، وحكاية عمر في دخوله عليهم وسماعه القراءة وشج سعيد واغتساله ، وإسلامه مشهور .

وقوله في حديث خباب - رضي الله عنه - : ( وهو متوسد ببردة ) . قال الداودي : هي المئزر ، وإنما كان الرداء . وقال الجوهري : إنها كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب ، والجمع : برد ، والبرد جمع برد بغير هاء على وزن فعل ، وجمعه برود ، وأبراد ، والمئشار مهموز من أشرت الخشبة ، (قاله الجوهري ) ، ووشرت بالمنشار غير مهموز لغة من أشرت .

التالي السابق


الخدمات العلمية