التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6588 6989 - حدثني إبراهيم بن حمزة ، حدثني ابن أبي حازم والدراوردي ، عن يزيد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" [فتح: 12 \ 373 ]


ذكر فيه حديث عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه ، ثنا أبو سلمة ، عن أبي قتادة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ، فإنها لا تضره " [ ص: 132 ] وعن أبيه قال : حدثني ( عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وحديث أبي سعيد الخدري : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .

وحديث) قتادة ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعا مثله وقال : "رؤيا المسلم . . " إلى آخره .

رواه ثابت وحميد وإسحاق بن عبد الله وشعيب ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "رؤيا المسلم . . " مثله .

الشرح :

سلف في الباب قبله الكلام على قوله : "فإذا حلم . . " إلى آخره .

وفي "سنن ابن ماجه " : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "إني (رأيت ) رأسي ضرب فرأيته يتدهده ، فقال - عليه السلام - : "يعمد الشيطان إلى أحدكم فيقول له ثم يغدو يخبر الناس " ، وفي لفظ : " وإذا رأى ما يكره فلا يقصها على أحد " ، ولابن أبي شيبة : كأن رأسي ضرب بيدي هذه . وحديث أبي قتادة أخرجه مسلم بلفظ : " فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره " ، وفي لفظ : [ ص: 133 ] " فليبصق عن يساره حين يهب من نومه " ، وفي لفظ : " وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " ، وفي لفظ : " فلا يخبر بها أحدا ، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب " . " وإذا رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها ولا يحدث بها أحدا ؛ فإنها لا تضره " . وفي النسائي : " إذا رأى أحدكم الشيء يعجبه ؟ فليعرضه على ذي رأي ناصح ، فليؤول خيرا وليقل خيرا " .

وفي حديث جابر : " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا ، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " .

وفي لفظ : قال رجل : يا رسول الله رأيت في النوم كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت في إثره ، فقال - عليه السلام - : "لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك " .

وفي لفظ : (قطع ) بدل (ضرب ) ، فضحك - عليه السلام - وقال : " إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يحدث به الناس " .

قال المازري : يحتمل أن يكون علم أن منامه هذا من الأضغاث بوحي يوحى إليه أو دلالة من المنام دل عليه ، أو يكون من المكروه الذي هو تحزين الشيطان ، وحكي عن بعض العابرين أنه قال : يمكن [ ص: 134 ] أن يكون اختصر من المنام أو سقط عن بعض الرواة منه ما لو ذكر لدل على أنه من الأضغاث ، وأما العابرون فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس ويجعلونه في الجملة دلالة على مفارقة ما فيه الرأي من مفارقة النعم ، أو يفارق من هو فوقه ، ونزول سلطانه وتغير حاله في جميع أموره ، إلا أن يكون عبدا فيدل على عتقه أو مريضا فعلى شفائه إلى غير ذلك . وذكر ابن قتيبة : أن رجلا قال : يا رسول الله ، رأيت كأن رأسي قطع وأنا أنظر إليه بإحدى عيني . فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -وقال : "بأيهما كنت تنظر" فلبث ما شاء الله ثم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعبر الناس الرأس بالنبي والنظر إليه باتباع السنة .

فصل :

ولابن ماجه من حديث جابر قال رجل : يا رسول الله ، رأيت البارحة كأن عنقي ضربت وسقط رأسي فاتبعته فأخذته فأعدته . فقال - عليه السلام - : "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن الناس " . وفي رواية أبي الزبير : " إذا حلم أحدكم فلا يخبر الناس بلعب الشيطان به في المنام " . وله عن عوف بن مالك مرفوعا : " إن الرؤيا ثلاث : منها أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه ، ومنها جزء من أربعة وأربعين جزءا من النبوة " .

[ ص: 135 ] وعن أم كرز مرفوعا : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " .

وعن عبادة قال : سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن قوله : لهم البشرى في الحياة الدنيا [يونس : 64 ] قال : "هي الرؤيا الصادقة يراها المؤمن أو ترى له " . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا : " أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة . . " الحديث .

ولابن أبي شيبة والترمذي -وقال : حسن - من طريق عطاء بن يسار ، عن رجل كان يفتي بمصر قال : سألت أبا الدرداء عن قوله : لهم البشرى في الحياة الدنيا قال : هي الرؤيا الصالحة بزيادة : وفي الآخرة (الجنة ) .

ومن حديث المختار بن فلفل ، عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا -وقال الترمذي : حسن غريب - " إن النبوة قد انقطعت والرسالة" فجزع الناس ، فقال : "قد بقيت مبشرات الرؤيا وهي جزء من النبوة " . وفي لفظ حميد عنه : " جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .

فصل :

الشمال خلاف اليمين ، وذكره في باب الحلم من الشيطان بلفظ : اليسار ، وهو بفتح الياء أفصح من كسرها ، وقوله : "وليبصق" وفي [ ص: 136 ] أخرى : "فلينفث" وفي ثالثة : "فليتفل" وأكثر الروايات على الثاني ، وادعى بعضهم أن معناها واحد ، ولعل المراد بالجميع النفث ، وهو نفخ بلا ريق ، ويكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا .

فصل :

وقوله : (" فإنها لا تضره " ) معناه : أن الله تعالى جعل هذا سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها ، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسببا لدفع النبلاء ، وينبغي الجمع بين هذه الروايات كلها ويعمل بها كلها كما نبه عليه النووي ، فإذا رأى ما يكرهه نفث عن يساره ثلاثا قائلا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها ، وليتحول إلى جنبه الآخر وليصل ركعتين . قلت : ويقرأ آية الكرسي كما سلف في تلك الرواية ، فيكون قد عمل بجميع الروايات ، وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله كما صرحت به الأحاديث .

قال عياض : وأمر بالنفث ثلاثا طردا للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة وتحقيرا له واستقذارا وخصت به اليسار ؛ لأنها محل المكروهات والأقذار .

وقوله : " ولا يذكرها لأحد " وفي لفظ : " ولا يحدث بها أحدا " فسببه أنه ربما فسره تفسيرا مكروها على ظاهر صورتها ، وكان ذلك محتملا فوقعت بتقدير الله كذلك ، فإن الرؤيا -كما جاء في حديث أبي رزين وقال الترمذي : صحيح - " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا تحدث بها سقطت " .

[ ص: 137 ] أي : أنها تكون محتملة لأمرين ففسرت بأحدهما ، ولابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي عن أنس - رضي الله عنه - : " (اعبروها ) بأسمائها وكنوها بكناها والرؤيا لأول عابر " ، وفي"البستان" لابن أبي طالب حديثا عبره الشارع ثم عبرت عائشة مثل ذلك المنام فاختلف التعبيران .

فصل :

وقوله في الباب الماضي : ("فليحدث بها " ) . وجاء في باب إذا رأى ما يكره : " فلا يحدث به إلا من يحب " ، وهذا من أحسن الإرشاد لموضع الرؤيا ؛ لأنه إذا أخبر بها من لا يحب ربما حمله البغض والحسد على تفسيرها بمكروه ، فقد تقع تلك الصفة وإلا فيحصل له في الحال حزن ونكد في سوء تفسيرها . قال الخطابي : وهذا من أحسن الإرشاد لموضع الرؤيا ، واستعبارها العالم بها الموثوق برأيه .

وقوله : (" على رجل طائر " ) قيل : معناه : أنه لا يستقر قرارها ما لم تعبر .

فصل :

قال عياض : يحتمل أن المراد صحتها ، ويكون معنى الرؤيا الصالحة الحسنة حسن ظاهرها ، ويحتمل المراد صحتها وكذلك الرؤيا المكروهة . قال : وقوله : (" فليبشر " ) . كذا في معظم الأصول بضم الياء ثم موحدة ساكنة من البشارة والبشرى ، وفي بعضها بفتح الياء والنون من النشرة وهو الإشاعة . قال : وهو تصحيف . وفي بعضها : "فليسر " . بسين مهملة من السرور .

[ ص: 138 ] فصل :

مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا كما نقله المازري أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان ، وهو جل وعلا يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه خلقها علما على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال إذا كان قد خلقها ، فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر ، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمورا على خلاف ما هو عليه ، فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما (جعل ) الله الغيم علما على المطر والجميع خلق الله ، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي خلقها علما على ما يسر بغير حضرة الشيطان ، وخلق ما هو علم على ما يحضره الشيطان ، فنسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا يدخل له حقيقة . وهذا معنى قوله : " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " لا على أن الشيطان يفعل .

فالرؤيا : اسم لمحبوب ، والحلم : اسم لمكروه .

وقال بعضهم : إضافة الرؤيا إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة ، وإن كانا جميعا من خلق الله ، والشيطان بحضرة المكروهة ويرتضيه و (يسر به ) . يؤيده ما حكى القيرواني في كتابه "نور البستان " : أن أبا جعفر محمد بن علي الكسائي روى في كتابه في الرؤيا عن إسماعيل بن أبي فديك ، عن يعيش بن طخفة الغفاري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله [ ص: 139 ] ليس لي إلا هذا الولد ، ورأيت في المنام أني ذبحته ، ثم جعلت أقطعه عضوا عضوا وطبخته في قدر ، فقال : "يا رؤيا اخرجي " . فخرجت امرأة جميلة بيضاء فقال لها : "هل أريت هذه شيئا ؟ " . قالت : لا يا رسول الله . فقال : "يا حلم اخرجي" فخرجت امرأة أدماء فقال : "هل أريت هذه شيئا ؟ " . قالت : لا . فقال : "يا ضغث اخرجي " . فخرجت امرأة ميتة ، فقال : "هل أريت هذه شيئا ؟ " . قالت : نعم . فقال : "وما حملك ؟ " . قالت للمرأة : أن أحزنها ، فقال للمرأة : "اذهبي فلا بأس عليك " .

قال القيرواني : ورأيت نحوه في بعض الكتب أن فاطمة رأت كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها والحسن والحسين نائمان ، فأطعمهما فاكهة فشرقا . فأخبرت رسول الله بذلك فنادى عن يمينه : "يا رؤيا " . فأجابه صوت ، فقال : "أنت أريت فاطمة هذه " . قالت : نعم ، فناولهما - عليه السلام - فاكهة كانت عنده ، فأكلا ولم يصبهما شيء .

قال القيرواني : هذا إن صح فيحمل على صدق رؤيا فاطمة ؛ لذكر الشارع فيهما ، وموت ولديها متولد من حذر النفس وإشفاقها ، وهو مضاف إلى الشيطان ، وهذا من الباطل الذي وصف المفسرون أن الشيطان يدخله على النائم في الرؤيا الصالحة ؛ ليفسدها عليه حسدا له .

فصل :

ذكر الإسماعيلي في حديث أبي قتادة أمرين :

أولهما : لما رواه عن ابن ناجية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ومحمد بن سليمان لوين ، قال : لم يتجاوز لوين في حديثه أبا سلمة أنه - عليه السلام - قال : "الرؤيا الصالحة . . " الحديث ، وهذا منه ترجيح للإرسال على الإسناد ؛ لأن محمد بن سليمان حافظ .

[ ص: 140 ] ثانيهما : قال : هذا الحديث ليس من الباب في شيء . قلت : لكن فيه ذكر الصالحة فقط .

فصل :

في اتصال قوله : ( رواه ثابت وحميد ) إلى آخره ، وأما حديث ثابت ، وهو ابن (مسلم ) فأخرجه ( مسلم إثر حديث ) أنس عن عبادة ، من حديث شعبة عنه ، وحديث حميد أخرجه ابن أبي شيبة عن النفيلي عنه ، عن أنس أنه قال ، فذكره موقوفا ، وحديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة فساقه البخاري مسندا في باب رؤيا الصالحين من حديث مالك عنه ، وحديث شعيب -هو ابن الحبحاب - أخرجه خلف وأبو مسعود في أطرافهما .

فصل :

حديث أبي سعيد فيه أنها : " جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وهي أشهرها ، وكذا من حديث أنس وعبادة وأبي هريرة . وفي "مستخرج الإسماعيلي " " خمسة وأربعون جزءا " ، وسلف أن في بعض النسخ لحديث أبي رزين "جزء من أربعين جزءا" وفي ابن ماجه من حديث فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد : "جزء من سبعين جزءا من النبوة" وكذا لمسلم من حديث ابن عمر ، وكذا لابن أبي شيبة من حديث زاهر الأسلمي ، عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مثله موقوفا .

[ ص: 141 ] وذكر الطبري في "تهذيبه" من حديث ابن عباس : " جزء من أربعين جزءا " ومن حديث عبد الله بن عمرو " من تسعة وأربعين جزءا " ومن حديث العباس : " جزء من خمسين جزءا " ومن حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة : " جزء من أربعين جزءا " ، وعن ابن عمر : " من ستة وعشرين " . وعن عبادة : " من أربعة وأربعين " .

وأسلفنا عن الزجاج وبعضهم كلامه على ستة وأربعين . ولا يتأتى في غيرها لسبعين ونحوها ، وأيضا فبعضهم أن مقامه بمكة كان عشرا فلم يتفقوا على ثلاث عشرة . وحكى المازري عن بعضهم الأول ، وعن بعضهم أنه - عليه السلام - قد خص دون الخليقة بضروب وفنون ، وجعل له إلى العلم طرق لم تجعل لغيره ، فيكون المراد نسبتها مما حصل له وميز به جزء من ستة وأربعين جزءا ، فلا يبقى على هذا إلا أن يقال : بينوا ، هذه الأجزاء ؟

ولا يلزم العلماء أن يعرفوا كل شيء جملة وتفصيلا ، وقد جعل الله للعلماء حدا نقف عليه ، فمنها : ما لا نعلمه أصلا ، ومنها : ما [لا ] نعلمه جملة ، ولا نعلمه تفصيلا ، وهذا منه ، ومنها ما نعلمه جملة وتفصيلا ، لا سيما ما طريقه السمع ، ولا مدخل للعقل فيه فإنما يعرف منه قدر ما يعرف السمع . قال : وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثاني وقدح في الأول بأنه لم يثبت أن أمد رؤياه قبل النبوة كان ستة أشهر وبأنه بعد النبوة رأى منامات كثيرة ، فيجب أن يلفق [ ص: 142 ] منها ما يضاف إلى الستة الأشهر ، فيتغير الحساب وتفسد النسبة ، ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من المنامات خلال زمن الوحي ؛ لأن الأشياء توصف بما يغلب عليها ، وتنسب إلى الأكثر منها ، فلما كانت الستة الأشهر محضة في المنامات ، والثلاث وعشرون سنة جلها وحي ، وإنما فيها منامات شيء يسير بغير عد ، أوجب أن يطرح الأقل في حكم [النسبة والحساب ] ، وقد سلف أن أمد الرؤيا لم يثبت أنه كان ستة أشهر فكيف حكمت بعدمه ولم يتضح ثبوته ؟

قال المازري : ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر ، وهو أن (يريد ) المنامات الخبر بالغيب لا أكثر ، وإن كان يتبع ذلك إنذارا وتبشيرا ، والإخبار أحد ثمرات النبوة ، وأحد فوائدها ، وهو في جنب فوائد النبوة والمقصود بها يسير ؛ لأنه يصح أن يبعث نبي يشرع الشرائع (ويبين ) الأحكام ولا يخبر بغيب أبدا ، ولا يكون ذلك قادحا في نبوته ، ولا مبطلا للمقصود منها ، وهذا الجزء من النبوة هو الإخبار بالغيب إذا وقع ، فلا يكون إلا صدقا ، ولا يقع إلا حقا ، والرؤيا ربما دلت على شيء ولم يقع ما دلت عليه ، إما لكونها من الشيطان ، أو من حديث النفس ، أو من غلط العابر في أصل العبارة ، إلى غير ذلك من الضروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة المنام ، فقد صار الخبر بالغيب أحد ثمرات (النبوة ، وهو غير مقصود فيها ، ولكنه لا يقع إلا حقا ، وثمرة ) المنام الإخبار بالغيب ، ولكنه [ ص: 143 ] قد لا يقع صدقا فتقدر النسبة في هذا بقدر ما قدره (الشارع ) بهذا العدد على حسب ما أطلعه الله عليه ؛ ولأنه يعلم من حقائق نبوته ما [لا ] نعلمه نحن ، وهذا الجواب الثاني عن بعضهم فإنهم لم يكشفوه هذا الكشف ، ولا بسطوه هذا البسط .

وأشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي ، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه من ستة وأربعين ، والفاسق من سبعين ، وقيل : المراد أن الخفي منها جزء من سبعين ، والجلي جزء من ستة وأربعين .

قال الطبري : والصواب أن يقال : إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح ، ولكل منها مخرج ، فأما رواية السبعين فإنه عام في كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان ، وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والنخعي ، وأما رواية الأربعين والستة والأربعين فإنه يريد بذلك ما كان صاحبها بالحال التي ذكر عن الصديق أنه يكون بها .

روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يقول : لأن يرى المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلي من كذا وكذا ، فمن كان من أهل الإسباغ في الصبر على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فرؤياه الصالحة جزء من ذلك ، ومن كانت حاله في دأبه بين ذلك فرؤياه الصادقة بين [ ص: 144 ] الأربعين إلى السبعين لا (يزاد ) عن السبعين ولا (ينتقص ) على الأربعين . قلت : ويحتاج إلى توجيه رواية ستة وعشرين .

قال ابن بطال : وأصح ما في الباب (حديث ) الستة والأربعين جزءا ، ويتلوها في الصحة (سبعون ) ، ولم يذكر مسلم في كتابه غير هذين الحدثيين ، فأما الأول فأخرجه من حديث ابن عمر مرفوعا ، وأما سائرها فهي من أحاديث الشيوخ . ثم قال : فإن قلت : [فما ] وجه التوفيق بين السبعين والستة والأربعين ، والنسخ غير جائز في الأخبار ؟

فالجواب : أنه يجب أن يعلم ما معنى كون الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة ، فلو كانت جزءا من ألف جزء منها لكان ذلك كثيرا ، فيقال : إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء ، والإنباء هو الإعلام لغة ، والمعنى : أن الرؤيا إما صدق من الله لا كذب فيه ، كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب ، وأما معنى اختلاف الأجزاء في ذلك قلة وكثرة فإنا وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما ، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطي شيئا في المنام [ ص: 145 ] فيعطي مثله يقظة بعينه ، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق في تأويلها ولا رمز في تعبيرها .

ثانيهما : ما يراه في المنامات المرموزة البعيدة المرام في التأويل ، وهذا الضرب لا يعسر تأويله إلا لحاذق في التعبير ؛ لبعد ضرب المثل فيه ، فيمكن أن يكون هذا من السبعين جزءا والأول من الأجزاء ، وهذا قد سلف ؛ لأنه إذا قلت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق وآمن من وقوع الغلط في تأويلها ، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفي تأويلها .

ولما عرضته على جماعة فحسنوه وزادني فيه بعضهم بأن قال : الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها الشارع عن جبريل ، فقد أخبرنا أنه كان يأتيه مرة بالوحي فيكلمه بكلام فيعيه بغير مؤنة ولا مشقة ، ومرة يلقي إليه جملا جوامع ويشتد عليه فكها وتبيينها حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق كالجمان ، ثم يعينه الله على تبيين ما ألقي إليه من الوحي ، فلما كان تلقيه للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقي المؤمن للرؤيا من عند الملك الآتي بها من أم الكتاب بهذه الصفة .

وفيه تأويل آخر ذكره أبو سعيد السفاقسي عن بعض أهل العلم ، قال : معنى السبعين : أن الله أوحى إلى نبيه في الرؤيا ستة أشهر ، ثم بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقي عمره ، وكان عمره في النبوة ثلاثة وعشرين عاما ، فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس ، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين (عاما ) وجدنا ذلك جزءا من ستة [ ص: 146 ] وأربعين ، وهذا أسلفناه .

قال ابن بطال : وهذا التأويل (يفسد ) من وجهين : أحدهما : أنه قد اختلف في مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : إنها كانت عشرين عاما . رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - .

والثاني : أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى ، وهو كما قال . وقد أسلفناه أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية