التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6591 [ ص: 154 ] 9 - باب: رؤيا أهل السجون والفساد والشرك

لقوله -عز وجل - ودخل معه السجن فتيان إلى قوله : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك وادكر افتعل من ذكر . أمة : قرن وتقرأ : أمه : نسيان . وقال ابن عباس : يعصرون الأعناب والدهن . تحصنون : تحرسون .

6992 - حدثنا عبد الله ، حدثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته " . [انظر : 3372 - مسلم : 151 - فتح: 12 \ 381 ]


ثم ساق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته " .

الشرح :

إنما ترجم بهذا لجواز أن يكون في رؤيا أهل الشرك رؤيا صالحة كما كانت رؤيا الفتيين صادقة ، إلا أنه لا يجوز أن يضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إلى المؤمن في التجزئة ؛ لقوله - عليه السلام - : " الرؤيا الحسنة يراها العبد الصالح -أو ترى له - جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " . فدل هذا أنه ليس كل ما صح له تأويل من الرؤيا وله حقيقة تكون جزءا من ذلك . قال أبو الحسن بن أبي طالب : وفي [ ص: 155 ] صدق رؤيا الفتيين حجة على من زعم أن الكافر لا يرى رؤيا صادقة ، فإن قلت : فإذا صدقت رؤياه فماذا ميز به المسلم عليه في رؤياه . وما معنى خصوصيته - عليه السلام - المؤمن بالرؤيا الصالحة في قوله : "يراها الرجل الصالح أو ترى له " فالجواب : أن لمنام المؤمن مزية على منام الكافر في الإنباء والإعلام والفضل والإكرام ، وذلك أن المؤمن يجوز أن يبشر على إحسانه ، وينبأ بقبول أعماله ويحذر من ذنب عمله ويردع عن سوء قد أمله ، وجواز أن يبشر بنعيم الدنيا وينبأ ببؤسها ، والكافر وإن جاز أن يحذر ويتوعد على كفره ، فليس عنده ما عند المؤمن من الأعمال الموجبة لثواب الآخرة ، وكل ما بشر به الكافر من حاله وغبط به من أعماله فذلك غرور من عدوه ، ولطف من مكائده فنقص لذلك حظه من الرؤيا الصادقة عن حظ المؤمن ؛ لأن الشارع حين قال : "رؤيا المؤمن " و" رؤيا الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " لم يذكر في ذلك كافرا ولا مبتدعا فأخرجنا لذلك ما يراه الكافر من هذا التقدير والتجريد لما في الأخبار من صريح الشرط لرؤيا المؤمن ، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح الرؤيا في خبره المطلق "الرؤيا من الله " إذ لم يشترط فيه مؤمنا ولا غيره فقلنا لذلك : ما صدق من منامات الكفار فهي من الله ، ولم يقل كذا ولا كذا من النبوة سيما أن الأشعري وابن الطيب يريان أن جميع ما يرى في المنام من حق أو باطل خلق الله ، فما كان منه صادقا خلقه بحضور الملك ، وإلا فبحضور الشيطان فيضاف بذلك إليه ، فإن قلت : يجوز أن يسمى ما يراه الكافر صالحا قيل : (نعم ) وبشارة أيضا كانت الرؤيا له [ ص: 156 ] أو لغيره من المؤمنين ؛ لقوله - عليه السلام - : " الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين وهو صالح للمؤمنين ، كما أن ما يراه الكافر بما يدل على هدايته وإيمانه فهو صالح له في عاقبته ، وذلك حجة من الله عليه وزجر له في منامه ، وقد أسلفنا أول الإيمان في حديث عائشة - رضي الله عنها - : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة ، أنها الصادقة ؛ لأنها صالح ما يرى في المنام من الأضغاث وأباطيل الأحلام ، وكما أنبأ الله الكفار في اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده -دون المشركين من أعدائه - قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم القيامة ، ولذلك يجوز إنباؤهم في المنام مما يكون حجة عليهم أيضا .

فصل :

(" ثم أتاني الداعي " ) . يعني : رسول الملك ولكن أراد ليقوم له العذر وهو من تواضعه ؛ لئلا يغلى في مدحه قال : "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ، وقولوا : عبد الله ورسوله " ثم لم يمنعه هذا من ذكر ما خص به من السيادة ، لقوله : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " ، لكن في حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرسل أن يتواضع ، وفيه الترفيع لشأن يوسف ؛ لأنه حين دعي للإطلاق من السجن قال : ارجع إلى ربك فاسأله [يوسف : 55 ] . ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن تقر امرأة العزيز على نفسها أنها راودته عن نفسه ، فأقرت وصدقته ، وقالت : أنا راودته الآية [يوسف : 51 ] ، فخرج حينئذ . قال ابن قتيبة :

[ ص: 157 ] فوصفه بالأناة والصبر وأنه لم يخرج حين دعي ، وقال : " لو كنت مكانه ثم دعيت إلى ما دعي إليه من الخروج من السجن لأجبت ولم ألبث " وهذا من حسن تواضعه ؛ لأنه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج لم يكن عليه نقص أو على يوسف لو خرج مع الرسول من السجن نقص ، ولا أثر ، إنما أراد أن يوسف لم يكن يستثقل محنة الله فيبادره ويتعجل ولكنه كان صابرا محتسبا .

فصل :

في هذا الحديث زيادة ذكرها في كتاب الأنبياء : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن . . " . . الحديث .

قال ابن قتيبة : وقوله : " ونحن أحق بالشك من إبراهيم " فإنه لما نزل عليه : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى الآية [البقرة : 260 ] قال قوم سمعوا الآية : شك إبراهيم ولم يشك نبينا . فقال - عليه السلام - تواضعا وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد : إنا لم نشك ونحن دونه فكيف يشك هو ؟! ومثل هذا من تواضعه قوله : " لا تفضلوني على يونس " . فخص يونس بن متى ، وليس كغيره من أولي العزم من الرسل ، فإذا كان لا يجب أن يفضل على يونس ، فكيف بغيره من الأنبياء الذين فوقه في الدرجة كإبراهيم وموسى وعيسى ؟! أحرى ألا يفضل عليهم .

[ ص: 158 ] وتأويل قول إبراهيم : ولكن ليطمئن قلبي أي : بيقين البصر . واليقين جنسان السمع والبصر وهو أعلاهما ، ولذلك قال - عليه السلام - : " ليس الخبر كالمعاينة " . حين ذكر قوم موسى وعكوفهم على العجل ، (فأعلمه ) أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح ، فلما عاينهم عاكفين عليه غضب وألقاها حتى تكسرت ، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار متيقنون أن ذلك كله حق ، وهم في القيامة عند النظر والعيان أعلى يقينا ، فأراد إبراهيم أن يطمئن قلبه بالنظر الذي هو أعلى اليقين . وقال غيره : لم يشك إبراهيم في الإحياء ، وإنما قال : رب أرني كيف تحي الموتى والجهل في الكيفية لا يقدح في اليقين بالقدرة ، إذ ليس من المؤمنين أحد يؤمن بغيوب وبخلق السماوات والأرض إلا وقد يجهل الكيفية ، وذلك لا يقدح في إيمانه ، فضرب الله لإبراهيم مثلا من نفسه فقال له : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك الآية . فكما أحيي هذه الطيور عن دعوتك فكذلك أحيي أهل السماوات والأرض عن نفخة الصور ، واعلم أن الله عزيز حكيم في صنائعه ، إذ صنائعه لا عن مباشرة إلا عن قوله : كن وما سواه من الصناعين فلا يتم له صنع إلا بمباشرة ، وفي ذلك ذلة ومفارقة للعزة حكيم أي : في أفعاله وإن كان (بائنا عنها ) ، والصانع إذا باين من صنعته تختل أفعاله إذا كان بائنا .

وقوله : (" يرحم الله لوطا " ) . إلى آخره ، فإنه أراد قوله لقومه : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [هود : 80 ] في الوقت الذي ضاق فيه [ ص: 159 ] صدره واشتد جزعه بما دهمه من قومه ، وهو يأوي إلى الله أشد الأركان ، (قال ) : " فما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه " ولا يخرج هذا لوطا من صفات المتوكلين على الله ، الواثقين بتأييده ونصره ، لكن لوطا - عليه السلام - أثار منه الغضب في ذات الله ما يثير من البشر فكان ظاهر قول لوط كأنه خارج عن التوكل ، وإن كان مقصده مقصد المتوكلين .

فنبه الشارع على ظاهر قول لوط تنبيهه على ظاهر قول إبراهيم ، وإن كان مقصده غير الشك ، لكن لأنهم كانوا صفوة الله المخلصين بغاية الإكرام ونهاية القوة ، لا (يقنع ) منهم إلا بظاهر مطابق للباطن بعيد من الشبهة ؛ إذ العتاب والحجة من الله على قدر ما يصنع فيهم ، وفي كتاب مسلم عن بعض رواة الحديث ، قال : إنما شك إبراهيم هل يجيبه الله أم لا ؟

فصل :

قوله تعالى : أعصر خمرا [يوسف : 36 ] أي : عنبا أو عنب خمر أو ما يئول إليه كقوله : الحمد لله العلي المنان جاعل الثريد في رءوس العيدان يعني : السنبل ، فسماه ثريدا ؛ لأن الثريد منه .

وقوله : نبئنا بتأويله الآية [يوسف : 36 ] قيل : معناه : إنا نراك تحسن العبادة ، وقيل : كان يعين المظلوم ، وينصر الضعيف ، ويعود المريض ، ويوسع للرجال ، فحاد عن جوابهما إلى غير ما سألاه عنه . قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه الآية [يوسف : 37 ] . قال ابن جريج :

[ ص: 160 ] (لم يرد ) أن يعبر لهما فحاد فلم (يتركاه ) حتى عبرها . وقيل : أراد تعليمهما أنه نبي وأنه يعلمها بالغيب ، فقال : لا يأتيكما طعام الآية ويروى أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان وجه إليه طعاما بعينه لا يجاوزه ، ثم أعلمهما أن ذلك العلم من الله لا بكهانة ولا تنجم . فقال : ذلكما مما علمني ربي [يوسف : 37 ] ثم أعلمهما أنه مؤمن قال : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله الآية [يوسف : 37 ] ، ثم قال : ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس [يوسف : 38 ] يقول : إنا جعلنا أنبياء ، وبعثنا إليهم رسلا ، ثم دعاهم إلى الإسلام بعد آيات (فقال : ) أأرباب متفرقون [يوسف : 39 ] ثم قال : فيسقي ربه خمرا أي : يكون على شراب الملك . قال ابن مسعود : لما عبر لهما الرؤيا ، قالا : ما رأينا شيئا ، فقال : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان أي : وقع كما قلت حقا كان أو باطلا . والرب هنا : الملك ، وهو معروف في اللغة ، يقال للسيد : رب .

وقوله : فأنساه الشيطان ذكر ربه [يوسف : 42 ] . قال مجاهد : نسي يوسف - عليه السلام - أن يسأل الله ويتضرع إليه حتى قال لأحد (الفتيين ) ذلك . قال الحسن : مرفوعا : "لو قال يوسف ذلك ما لبث ما لبث " . ثم يبكي الحسن ويقول : نحن ينزل ربنا الأمر من السماء ، فنشكو للناس .

[ ص: 161 ] فصل :

قوله : ( يأكلهن سبع عجاف [يوسف : 43 ] ) . أي : بلغن النهاية في الهزال ، ومعنى : عبرت الرؤيا . أخرجتها من حالة النوم إلى حالة اليقظة ، مأخوذ من العبر وهو الباطن ، وقد أسلفنا الكلام على هذه المادة .

ومعنى : أضغاث : أخلاط ، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما : ضغث . أي : هذه الرؤيا مختلطة ليست بينة .

وقوله : ( وفيه يعصرون ) . أي : العنب والزبيب ، قاله ابن عباس ، وعن ابن جريج : يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا والزيتون زيتا وزعم أبو عبيد : أن معناه من العصر والعصير وهما المتجاور وأنشد :


صاديا يستغيث غير يغاث ولقد كان عصرة المنجود



والمنجود : (المقهور ) .

وقيل : يعصرون . يمطرون ، ومنه : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [النبأ : 14 ] .

وقوله : ما بال النسوة . ولم يذكر امرأة العزيز فيهن حسن عشرة منه وأدب .

التالي السابق


الخدمات العلمية