التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6638 7045 - حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثني ابن أبي حازم والدراوردي ، عن يزيد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله ، فليحمد الله عليها وليحدث بها ، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان ، فليستعذ من شرها ، ولا يذكرها لأحد ، فإنها لن تضره " [فتح: 12 \ 430 ]


ذكر فيه حديث أبي قتادة السالف في باب : الرؤيا من الله .

وكذا حديث يزيد وهو ابن عبد الله بن أسامة بن الهادي ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أيضا .

وقوله : ("فليتفل " ) -هو بكسر الفاء - وحكى الجوهري الضم أيضا ، وقال : التفل يشبه البزاق ، وهو أقل منه ، أوله البزاق ، ثم التفل ، ثم النفث ، ثم النفخ ، وقال بعضهم : هذا بما يغلط فيه ، فيجعلونه بالثاء ويضمون الفعل المستقبل منه ، والصواب بالتاء والكسر [ ص: 250 ] في المستقبل لا غير . والنفث كالتفل إلا أن النفث نفخ لا بصاق معه ، والتفل معه شيء من الريق .

وقد سلف في حديث أبي قتادة أن التفل ثلاثا عن شماله ، والأحاديث وردت مرة بالبصاق ، ومرة بالتفل ، ومرة بالنفث ، والمعنى متقارب كما سلف ، ووجه نفثه إخساء الشيطان كما يتفل الإنسان عند الشيء القذر يراه أو يذكره ، ولا شيء أقذر من الشيطان ، فأمره بالتفل عند ذكره ، وكونه ثلاثا مبالغة في إخسائه وكونه عن الشمال ؛ لأن الشرور كلها تأتي عند العرب من جهته ، ولذلك سميت الشؤمى ، ولذلك كانوا يتشاءمون بما جاء من قبلها من طائر ووحش أخذ إلى ناحية اليمين ، فسمى ذلك بعضهم بارحا ، وكانوا يتطيرون منه ، وسماه بعضهم سانحا وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ وإعطاء وأكل وشرب ، وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم ؛ لرعائه إلى ما يكرهه الله من قبلها .

فصل :

وإنما أمر الشارع إذا رأى ما يحب أن لا يحدث بها إلا من يحب ؛ لأن المحب لا يعبرها إلا بخير ، والعبارة لأول عابر ، ولأنه لا يسوؤه ما يسر به صديقه ، بل هو مسرور بما يسره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر التأويل ، ولو أخبر بها من لا يحبه لم يأمن أن يأولها شر التأويل ، فربما وافق ذلك وجها من الحق في تأويلها فتخرج كذلك ؛ لقوله - عليه السلام - : "الرؤيا لأول عابر " .

[ ص: 251 ] فصل :

وأما إذا رأى ما يكره فقد أمره الشارع بمداواة ما يخاف من ضرها وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان ، ويتفل عن شماله ثلاثا ، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره .

قال الداودي : يريد ما كان من الشيطان ، وأما ما كان من الله من خير أو شر (فهو ) واقع لا محالة كرؤيا الشارع في البقر والسيف .

قال : وقوله : ("ولا يذكرها لأحد " ) يدل أنها إن ذكرت فربما أضرت ، وإن كانت من الشيطان كما أن ما ستر له من القول السيئ يضره ، وكذلك ما يريه في المنام في الذي يوسوس به في اليقظة ، فمن عصاه ولم يذكر رؤياه واستعاذ بالله من شره وذكر الله لم يضره ما يكون منه ، وقد قال (أبو ) عبد الملك : إن معنى الحلم الذي من الشيطان : هواه ، ومراده لا أنه يفعل شيئا ، وأمره بالتعوذ والتفل ؛ لأن هذا الفعل يرفع الوهم عنه وللوهم تأثير .

فإن قلت : قد سلف من أقسام الرؤيا أنها قد تكون منذرة ومنبهة للمرء على استعداد البلاء قبل وقوعه رفقا من الله بعباده لئلا يقع على غرة فيقتل ، فإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وأبعد لها من أذى البغتة ، وقد سلف في علم الله إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله (محزنة ) أن تضر من رآها ، فما وجه كتمانها ؟

أجاب المهلب : أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة فيسوء حاله ولم يأمن [ ص: 252 ] أن تفسر له بالمكروه فيستعجل الهم ويتعذب (له ) ، ويترقب وقوع المكروه فيسوء حاله ، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها ، ويجعل ذلك نصب عينيه ، وقد كان داواه الشارع من هذا البلاء الذي عجله لنفسه بما أمره به من كتمانها والتعوذ بالله من شرها ، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقي بين الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لا تجزع إما لأنها من قبل الشيطان ، أو لأن لها تأويلا آخر على المحبوب ، فأراد - عليه السلام - أن لا تتعذب أمته بانتظارهم خروجها بالمكروه كأن الرؤيا قد يبطؤ خروجها ، وعلى أن أكثر ما يراه الإنسان مما يكرهه فهو من قبل الشيطان ، فلو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره دائما من الاهتمام بما لا يؤذيه أكثره ، وهذه حكمة بالغة ، واحتياط على المؤمنين ، فجزاه الله عنا من نبي خيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية