التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6697 7114 - حدثنا خلاد ، حدثنا مسعر ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الشعثاء ، عن حذيفة قال : إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان . [فتح: 13 \ 69 ] .


[ ص: 385 ] ذكر فيه أحاديث :

أحدها :

حديث نافع : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر - رضي الله عنهما - حشمه وولده فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " . وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني لا أعلم غدرا (أعظم ) من أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ، ثم ينصب له القتال ، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه .

ثانيها :

حديث أبي المنهال قال فيه : حدثنا أحمد بن يونس ، ثنا أبو شهاب -وهو عبد ربه بن نافع الحناط المدائني صاحب الطعام ، اتفقا عليه وعلى عبد ربه بن سعيد بن قيس ، وانفرد مسلم بأبي نعامة عبد ربه السعدي ، وبعبد ربه أبي سعيد الشامي ، عن أبي وراد ، وانفرد أيضا بأبي نعامة العدوي عمرو بن عيسى - عن عوف ، عن أبي المنهال -واسمه سيار بن سلامة التميمي الحنظلي اليربوعي الرياحي ، اتفقا عليه ، وعلى أبي الحكم سيار بن أبي سيار ، واتفقا أيضا على أبي المنهال (عبد الرحمن ) بن مطعم عن ابن عباس والبراء وزيد بن أرقم قال : لما كان ابن زياد ومروان بالشام ، ووثب ابن الزبير بمكة ، ووثب القراء بالبصرة ، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي -واسمه [ ص: 386 ] نضلة بن عبيد - حتى دخلنا عليه في داره -وهو جالس في ظل علية له من قصب - فجلسنا إليه ، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث فقال : يا أبا برزة ، ألا ترى ما وقع فيه الناس ؟ فأول شيء سمعته تكلم به : إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش ، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من القلة والذلة والضلالة ، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ بكم ما ترون ، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم ، إن ذاك الذي بالشأم والله (إن ) يقاتل إلا على الدنيا . وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا وإن هؤلاء الذين بين أظهركم ، والله ما يقاتلون إلا على الدنيا .

الثالث :

حديث أبي وائل ، عن حذيفة بن اليمان قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يومئذ يسرون ، واليوم يجهرون .

وعن أبي الشعثاء ، عن حذيفة قال : إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان .

(الشرح ) :

معنى الترجمة : إنما هو في خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته ، وما قالوا له ، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا [ ص: 387 ] بحضرته ، وذلك أن ابن عمر - رضي الله عنهما - بايعه فقال عنده بالطاعة لخلافته ، ثم خشي على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد ، فجمعهم ووعظهم ، وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر ، وأما قول أبي برزة : إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش ، فوجه موافقته الترجمة : أن هذا قول لم يقله عند مروان بن الحكم حين بايعه ، بل بايع واتبع ثم سخط ذلك لما بعد عنه ، وكأنه أراد منه أن يترك ما (نوزع ) فيه للآخرة ؛ ولا يقاتل عليه ، كما فعل عثمان ، فلم يقاتل من نازعه ، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه ، وكما فعل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - حين ترك القتال لمعاوية (حين نازعه ) أمر الخلافة ، فسخط أبو برزة من مروان ؛ تمسكه بالخلافة والقتال عليها ، فقد تبين أن قوله لأبي المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع معه .

فصل :

وأما يمينه أن الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا وهو عبد الملك فوجهه أنه كان (يريد أن ) يأخذ بسيرة عثمان والحسن ، وإنما يمينه على الذي بمكة يعني ابن الزبير ، وإنه لما وثب ( بمكة ) من بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعله نكثا منه وحرصا على الدنيا ، وهو في هذه أقوى رأيا منه في الأولى ، وكذلك القراء بالبصرة ؛ لأنه كان لا يرى [ ص: 388 ] الفتنة في الإسلام أصلا فكان يرى أن يترك صاحب الأمر حقه لمن نازعه فيه ؛ لأنه مأجور في ذلك ، وممدوح بالإيثار على نفسه ، وكان يريد من المقاتل له ألا يقتحم النار في قيامه ، وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة ، ولا يكون سببا لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذا بقوله - عليه السلام - : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . فلم ير القتال البتة وخشي أن يقول في ابن الزبير شيئا ؛ لأنه كان من العبادلة بمكان ، وما غير عليه في خلافته أنه استأثر بشيء من مال الله .

فصل :

وأما حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، وقوله : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم ، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج عن الجماعة ويورثون بينهم ويحزبونهم أحزابا ، فهم اليوم شر منهم حتى لا (يضرون ) بما يسرونه ، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر إنما هو النفث يلقونه من أفواههم ، فكانوا يعرفون به ، قال الحسن : لولا المنافقون ما توحشنا في الطرق ولولاهم ما انتصفنا من عدو .

ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا في بيعة من بايعوه من الأئمة ؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر ؛ لأنها ساعة جاهلية ، ولا جاهلية في الإسلام ، وقد قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [آل عمران : 103 ] فالتفرق محرم في الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة .

[ ص: 389 ] فصل :

وأما قول أبي برزة - رضي الله عنه - واحتسابه وسخطه على أحياء قريش عند الله تعالى فكأنه قال : اللهم إني لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة ، فاعلم ذلك من نيتي ، وإني ساخط ذلك عليهم وأفعالهم واستباحتهم الدماء والأموال ، فأراد أن يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند الله أجرا وذخرا ، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التي بها (أجزى ) الله عباده .

فصل :

الحشم : الخدم ومن يغضب له ، وهم الجماعة اللائذون بخدمته ؛ سموا بذلك لأنهم يغضبون له ، والحشمة الغضب ، وحشمة : بفتح الحاء والشين المعجمة .

والفيصل : القاطعة التامة والياء زائدة فيعل من فصل الشيء إذا قطعه .

وقوله : (على بيع الله ورسوله ) أي : على شرط ما أمر الله ورسوله من البيعة ، والبيعة : الصفقة من البيع ، وذلك أن من بايع سلطانه فقد أعطاه (الطاعة ) وأخذ منه العطية فأشبهت البيعة الذي فيه المعاوضة من أخذ وعطاء ، وقيل : أصله أن العرب كانت إذا بايعت تصافقت بالأكف عند العقد ، وكذلك كانوا يفعلون إذا تحالفوا فشبهوا معاوضة (الولاة ) المتماسكة بالأيدي وسموها بيعة .

[ ص: 390 ] فصل :

(في ظل علية ) أي : غرفة ، وجمعها : علالي وهي فعيلة ، وأصله عليوة ، وأبدلت الواو ياء ، وأدغمت ؛ لأن هذه الواو إذا سكن ما قبلها فتحت ، كما نسب إلى الدلو دلوي وهي من علوت ، وقال بعضهم : هي علية بالكسر على فعيلة ، يجعلها من المضاعف قال : وليس في الكلام فعلية .

فصل :

(قوله ) (يستطعمه الحديث ) أي : يستطيبه ويرغب في أن يسمعه منه .

وقوله : (إنما كان النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : إنما دخلوا في الإسلام خوفا ، آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم .

وقوله : (فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ) . يعني : هؤلاء ولدوا في الإسلام وعلى فطرته ، فمن أظهر منهم كفرا فهو مرتد ، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والزنادقة والمرتدين ؛ لأن المنافقين لم يكونوا مسلمين قط إلا بالإسلام ، وهؤلاء ولدوا على فطرة الإسلام وفي الإسلام ، فكانوا عليها حتى أحدثوا ما أحدثوا ، وكان السلف يخشون على أنفسهم النفاق لما لا يكادون ينجون مما لا ينجى منه السر والمؤمن خاش راج .

التالي السابق


الخدمات العلمية