التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6742 [ ص: 469 ] 14 - باب: من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة

كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " . وذلك إذا كان أمرا مشهورا .

7161 - حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني عروة ، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت : جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت : يا رسول الله ، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك . ثم قالت : إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل علي من حرج أن أطعم الذي له عيالنا ؟ قال لها : " لا حرج عليك أن تطعميهم من معروف " . [انظر : 2211 - مسلم : 1714 - فتح: 13 \ 138 ] .


ثم ساقه من حديث عائشة - رضي الله عنها - وقد سلف .

وقد اختلف العلماء هل القاضي يقضي بعلمه ؟

فقال الشافعي وأبو ثور : جائز له ذلك في حقوق الله وحقوق الناس سواء ، علم ذلك قبل القضاء أو بعده .

واستثنى الشافعي حدود الله تعالى ؛ لأن المقصود فيها الستر . وقال الكوفيون : ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده فإنه لا يحكم فيها بعلمه (إلا القذف وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه ) ؛ لقول أبي حنيفة (بخلاف ما إذا [ ص: 470 ] علم بعده ) ، وقال أبو يوسف ومحمد : يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه .

وقالت طائفة : لا يقضي بعلمه أصلا في حقوق الله وحقوق الآدميين ، علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو في مجلسه ، هذا قول شريح والشعبي ، وهو مشهور قول مالك ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد ، وقال الأوزاعي : ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به ، وأنفذه عليهما إلا الحد ، وقال عبد الملك : يحكم بعلمه فيما كان في مجلس حكمه .

واحتج الشافعي بحديث الباب وأنه - عليه السلام - قضى لها ولولدها على أبي سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بينة ؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة ولدها واجبة في ماله ، فحكم بذلك على أبي سفيان ؛ لعلمه بوجوب ذلك ، وأيضا فإنه متيقن لصحة ما يقضي به إذا علمه علم يقين ، وليست كذلك الشهادة ؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة .

وقد قام الإجماع على أنه له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أن ما شهدوا به على غير ما شهدوا به ، وينفذ علمه في ذلك ولا يقضي لشهادتهم ، مثال ذلك : أن يعلم بنتا لرجل ولدت على فراشه ، فإن أقام شاهدين أنها مملوكة فلا يجوز أن يقبلهما ويبيح له فرجا حراما .

وكذلك لو رأى رجلا قتل رجلا ثم جيء بغير القاتل ، وشهد شاهدان أنه القاتل فلا يجوز أن يقبلهما ، وكذلك لو سمع رجلا طلق امرأته طلاقا بائنا ، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق وأنكره الزوج فإن جعل القول قوله [ ص: 471 ] فقد أقامه على فرج حرام ، فيفسق ، وإن لم يكن له بد من أنه لا يقبل قوله فيحكم بعلمه .

واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء إنما حصل في الابتداء على طريق الشهادة ، فلم يجز أن يجعله حاكما ؛ لأنه لو حكم بعلمه لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متهما ، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره .

وأيضا فإن علمه لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة ، فإذا قضى به صار كالقاضي بشاهد واحد قالوا : والدليل على جواز حكمه فيما علمه في حال القضاء ، وفي مجلسه قوله - عليه السلام - : "إنما أقضي على نحو مما أسمع " . ولم يفرق بين سماعه من الشهود أو المدعى عليه ، فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعي كما حكم بما سمعه من الشهود .

وعند ابن أبي شيبة : اختصم رجلان إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وادعيا شهادة فقال لهما : إن شئتما شهدت ، ولم أقض بينكما ، وإن شئتما قضيت ولم أشهد . وعنده أيضا ، أن امرأة جاءت شريحا بشاهد ، فقال : ائتيني بآخر . فقالت : أنت شاهدي . فاستحلفها وقضى لها . وفي لفظ : جاء رجل إلى شريح يخاصم ، فجاء الآخر عليه بشاهد ، ثم قال لشريح : أنت شاهدي . قال شريح : ائت الأمير حتى أشهد لك . وقال الشعبي : لا أجمع أن أكون قاضيا وشاهدا .

واحتج أصحاب مالك بأن قالوا : الحاكم غير معصوم ، ويجوز أن [ ص: 472 ] تلحقه الظنة في أن يحكم لوليه على عدوه ، فحسمت المادة في ذلك بأن لا يحكم بعلمه ؛ لأنه ينفرد به ولا يشركه فيه غيره وأيضا قد قال تعالى : الذين يرمون المحصنات [النور : 4 ] فأمر بجلد القاذف متى لم تقم بينة على ما رمى به المقذوف .

وأيضا فإنه - عليه السلام - قال في حديث اللعان : "إن جاءت به على نعت كذا فهو للذي رميت به " . فجاءت به على النعت المكروه ، فقال - عليه السلام - : "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه " .

وقد علم أنها زنت فلم يرجمها لعدم البينة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يقطع أنها تأتي به على أحد النعتين فقد قطع على أنها إن جاءت به على أحدهما فهو لمن وصف لا محالة ، وهذا لا يكون منه إلا بعلم .

روي عن الصديق أنه قال : لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى يشهد بذلك عندي شاهدان ، ولا مخالف له في الصحابة .

لو لم ينكر الخصم حتى حكم ، فأنكر بعده ، لم ينظر إلى (الكفارة ) . وقال ابن الجلاب : لا يقبل قول الحاكم إلا ببينة .

فصل :

قوله : ("خذي ما يكفيك . . " ) الحديث ، قال الداودي : إنما [ ص: 473 ] أمرت بأخذ ذلك في خفية من حيث لا يعلم ، وارتفعت التهمة ؛ لأنها لو شاءت لم تسأل عن ذلك ، وإنما قالته في شيء لم يأت (بعد ) .

فصل :

من فوائده : أن للمظلوم أن يقول في الظالم وأن يذكره ببعض الظلم ، قال تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [النساء : 148 ] .

وفيه : أن الرجل يجوز أن يقال فيه ما يظهر من أمره ، ولم يخفه من الناس .

فصل :

قولها : (أهل خباء . . ) إلى آخره ، فيه : أن الدار تسمى خباء وأن القبيلة يسمون خباء ، وهذا من الاستعارة والمجاز .

وفي حديث آخر أنه - عليه السلام - قال لها حين قالت هذا : "وأيضا " كالمصدق لها . وفي رواية أخرى أنه قال لها : "أنت هند ؟ " لما ذكرت له اسمها قبل أن تتكلم قالت : أنا يا رسول الله . ثم تكلمت وكانت من الدهاة .

فصل :

قولها : (إن أبا سفيان رجل مسيك ) أي : بخيل ، وكذلك المسك -بضم الميم والسين - ، وقيل له ذلك ؛ لأنه يمسك ما في يديه ولا يخرجه إلى أحد .

وفيه : أن للمرء أن يأخذ لنفسه ولغيره ما يجب لهم من مال المطلوب [ ص: 474 ] وإن لم يعلم ، وإن أجاز ذلك من أصحاب مالك تأول حديث "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " .

أي : لا تأخذ أكثر من حقك .

واختلف عن مالك فيمن جحده رجل حقا ، فقدر على مثله من ماله من حيث لا يعلم أو من حيث لا يعلم إلا المطلوب ، فقال : لا يأخذ ، وقال : يأخذه ، ذكره الداودي .

والذي ذكره أن الخلاف إنما هو إذا جحده مالا ثم استودعه أنه لا يجحده لمكان جحده إياه .

قال مالك في "المدونة " : لا يجحده . قال ابن القاسم : ظننت أنه قال ذلك للحديث السالف ، وأما إن قدر على أخذ ماله وإن كان الذي جحد أولا لا دين عليه ، جاز لهذا أن يأخذ ؛ لهذا الحديث ؛ ولقوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا الآية [النحل : 126 ] .

واختلف القائلون في أنه يحلف له ما الذي ينويه الحالف ، فقيل : يحلف : ما لك عندي شيء إلا دين مثله ، وقيل : يلزمه رده .

فصل :

وقوله : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " .

استنبط منه بعضهم أن الولد يلزم أباه نفقته وإن كان كبيرا ، وليس بجيد ؛ لأن أبا سفيان لعل ولده كان صغيرا ، وإن احتمل كبره فهي قصة عين لا حجة فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية