التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 486 ] 16 - باب: متى يستوجب الرجل القضاء ؟

وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [المائدة : 44 ] ثم قرأ : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق يوم الحساب [ص : 26 ] ، وقرأ : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور إلى قوله : هم الكافرون [المائدة : 44 ] ، وقرأ : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله : وكلا آتينا حكما وعلما ، فحمد سليمان ولم يلم داود ، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده . وقال مزاحم بن زفر : قال لنا عمر بن عبد العزيز : خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة : أن يكون فهما ، حليما ، عفيفا ، صليبا ، عالما سئولا عن العلم .


الشرح : قول الحسن : أسنده أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العوام القطان ، عن قتادة ، عنه ، وكذا قول مزاحم أخرجه من حديث أسماء ، عن عبيد ، عنه .

واعلم أن شرط القاضي أن يكون مجتهدا ، وطرق الاجتهاد مقررة في الأصول والفروع فلا نطول بهذا ، فإن لم يكن مجتهدا فيها ، ومن رآه الناس أهلا للقضاء ، ورأى هو نفسه أهلا فقد استحقه ، ولا يكفي الناس فقط ؛ لأنه إذا علم الناس منه هذا الرأي لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد إليه ، فقال مالك : ولا يستقضى من ليس بفقيه .

[ ص: 487 ] وذكر ابن حبيب عنه أنه قال : إذا اجتمع في الرجل خصلتان رأيت أن يولى : العلم والورع .

قال ابن حبيب : فإن لم يكن علم فعقل وورع ؛ لأنه بالورع يقف ، وبالعقل يسأل . وإذا طلب العلم وجده ، وإن طلب العقل لم يجده ، وهذا فيه دلالة على جواز تولية القضاء لغير عالم ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ودليلنا عليه قوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء : 105 ] .

فصل :

إذا استوجب القضاء ، فهل للسلطان إجباره عليه ؟ قال ابن القاسم عن مالك : لا إلا أن [لا ] يوجد منه عوض . قيل له : أيجبرك بالحبس والضرب ؟ قال : نعم . قلت : وقد (جبر ) غير واحد (إليه ) ، وجماعة امتنعوا من الدخول فيه لعظمه .

فصل :

قال المهلب : والحلم الذي (ينبغي ) أن يلزمه القاضي هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين ، وألا يحرج بطول ما (يخرجه ) أحدهما ، [ ص: 488 ] وإن رآه غير نافع له في خصامه فليصبر عليه حتى يبلغ المتكلم مراده ؛ لأنه قد يمكن أن يكون ذلك الكلام الذي لا ينتفع به [سببا إلى ما ينتفع به ] . وأيضا فإنه إذا لم يترك أن يتكلم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته ، وأثار على نفسه عداوة ، وربما كان ذلك سببا لفتنة الخصم ، ووجد إليه الشيطان السبيل ، وأوهمه أن الجور من الدين .

فصل :

والنفش في الآية : الرعي ليلا ، نفشت الدابة تنفش نفوشا : إذا رعت ليلا (بلا راع ) ، وهملت إذا رعت نهارا بلا راع ، والوصمة : العيب والعار .

وقوله : (صليبا ) يريد الصلابة في إنفاذ الحق حتى لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وغيره ، وليكن عنده الضعيف والقوي والصغير والكبير في الحق سواء .

فصل :

وقول الحسن : (أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى وأن لا يخشوا الناس ، وما استشهد عليه من كتاب الله ) فكل ذلك يدل أن الله فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل . وقد قال تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [النساء : 58 ] وكذلك فرض عليهم ألا يخشوا الناس ، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز في صفة القاضي : [ ص: 489 ] (أن يكون صليبا ) . وعنه : حتى يكون ورعا نزها مستشيرا لذوي الرأي ، عارفا بآثار من مضى .

وقوله : (أن يكون عفيفا ) أخذه من قول الله تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [البقرة : 41 ]

فصل :

واختلف العلماء في قوله تعالى : فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى [ص : 26 ] .

فقالت طائفة : الآية عامة في كل الناس ، وكل خصمين تقدما إلى حاكم ، فعليه أن يحكم بينهما . والناس في ذلك سواء . وسواء كان للحاكم ولد أو والد أو زوجة ، وهم وسائر الناس في ذلك سواء . وذهب الكوفيون والشافعي : إلى أنه لا يجوز شهادته له ، ويحكم لسائر الناس .

وزاد أبو حنيفة : ولا يحكم لولد ولده ؛ لأن هؤلاء لا تجوز (شهادتهم له ) . واختلف أصحاب مالك في ذلك ، فقال مطرف وسحنون : كل ما لا يجوز للحاكم أن يشهد له لا يجوز حكمه له ، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم ؛ إلا (لولده الصغير ) وزوجته ويتيمه الذي يلي ماله أو زوجه ، ولا يتهم في الحكم كما [ ص: 490 ] يتهم في الشهادة ؛ لأنه إنما يحكم بشهادة غيره من العدول .

وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال : ثبت له عندي . ولا يدري أثبت له أم لا ، ولم يحضر الشهود ، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرة بحق بين ، فحكمه لهم جائز ما عدا زوجته وولده الصغير ويتيمه الذي يلي (أمره ) ؛ لقول ابن الماجشون ؛ لأن هؤلاء كنفسه فلا يجوز له أن يحكم لهم .

والقول الأول أولى ؛ لشهادة عموم القرآن له قال تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض [ص : 26 ] ، وخاطب الحكام فقال : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [النساء : 158 ] ، فعم تعالى جميع الناس ، وقد حكم الشارع لزوجته عائشة على من رماها وأقام عليهم الحد .

قلت : ذلك من خصوصياته ، (ويجوز ) أن الله لما أنزلت براءتها أمره بذلك ، وليس رد شهادة الولد لوالده ، وعكسه بإجماع من الأمة فيكون أصلا لذلك ، وقد أجاز شهادة الوالد لولده عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية ، وهو قول أبي ثور والمزني وإسحاق .

[ ص: 491 ] فصل :

الآية الأولى قيل فيها : جاز أن يقال خلقا ، وقوله : بما نسوا يوم الحساب [ص : 26 ] أي : تركوا العمل له فكانوا ناسين له ، قاله السدي ، وقال عكرمة : وهو من التقديم والتأخير أي : لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا ، أي : بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل .

فصل :

والآية الثانية : يجوز أن يكون المعنى : فيها هدى ونور للذين هادوا عليهم ، ثم حذف ، وقيل : (لهم ) بمعنى (عليهم ) مثل : وإن أسأتم فلها [الإسراء : 7 ] و الذين أسلموا هنا نعت فيه معنى المدح مثل : بسم الله الرحمن الرحيم ، الربانيون : العلماء الحكماء ، وأصله رب العلم ، والألف والنون للمبالغة ، وقال مجاهد : هم فوق الأحبار ، والأحبار للعلماء ؛ لأنهم يحبرون الشيء وهو في صدورهم محبر .

واختلف لم سمي حبرا ؟

فقال الفراء : أي : مداد حبر ، ثم حذف مثل واسأل القرية [يوسف : 82 ] ، وأنكره الأصمعي وقال : إنما سمي حبرا لتأثيره . يقال : على أسنانه حبرة . أي : صفرة وسواد .

[ ص: 492 ] فصل :

والآية الثالثة قال مسروق : كان الحرث عنبا فنفشت فيه الغنم . أي : رعت ليلا . كما سلف ، وهو ما قاله الهروي في "الغريبين " ، وفي "الصحاح " : الهمل بالتحريك يكون ليلا ونهارا ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث فمروا بسليمان فأخبروه ، فقال : نعم أقضي به وغيره كان أرفق للفريقين ، فدخل أصحاب الغنم على داود فأخبروه ، فأرسل إلى سليمان فعزم عليه بحق النبوة والملك (والولد ) كيف رأيت فيما قضيت ؟ قال : عدل الملك وأحسن ، وكان غيره أرفق بهما جميعا ، قال : ما هو ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فلهم لبنها وسمنها وأولادها ، وعلى أهل الغنم أن يزرعوا لأهل الحرث حرثهم ، فقال داود - عليه السلام - : نعم ما قضيت . قيل : علم سليمان أن قيمة ما أفسدته مثل ما يصير إليهم من لبنها وصوفها .

وقد أسلفنا أن ناقة للبراء - رضي الله عنه -أفسدت في حائط ، فقضى - عليه السلام - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا ، وأن ما أفسدته المواشي ضامن على أهلها . أي : ضمان قيمته ، وهذا خلاف شرع سليمان .

فإن ترك هذا ورضيا بدفع الغنم عن قيمة ما أفسدت .

فمشهور مذهب مالك : أنه لا يجوز حتى يعرفا قيمة المفسد . ونص عليه ابن شعبان ، وفي "كتاب محمد " وإن لم يعرف القيمة ، وقوله تعالى : [ ص: 493 ] ففهمناها سليمان [الأنبياء : 79 ] يعني : القضية ، وقوله : (لولا ما (ذكر ) الله من أمر هذين الرجلين . . ) إلى آخره ، قال الداودي : إنما أثنى عليهما بقوله : وكلا آتينا حكما وعلما [الأنبياء : 79 ] ولم يعذر الجاهل .

وقد صح أن القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة .

قال طاوس : أشر الناس عند الله يوم القيامة إمام قاسط .

وقال مكحول : لو خيرت بين القضاء وبين المال لاخترت القضاء ، ولو خيرت بينه وبين ضرب عنقي اخترت ضرب عنقي .

التالي السابق


الخدمات العلمية