التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6748 [ ص: 509 ] 20 - باب: موعظة الإمام للخصوم

7169 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن زينب ابنة أبي سلمة ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " . [انظر : 2458 - مسلم : 1713 - فتح: 13 \ 157 ] .


ذكر فيه حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .

هذا الحديث سلف في المظالم ، وأوائل كتاب الحيل ، وأم سلمة اسمها : هند ، وهي ابنة عم أبي جهل ، ماتت سنة (تسع وخمسين ) وهي أول ظعينة دخلت المدينة .

ومعنى : ألحن بحجته : أفطن لها وأجدل . وقال ابن حبيب : أنطق وأقوى مأخوذ من قوله تعالى ولتعرفنهم في لحن القول [محمد : 30 ] أي : نطق القول .

وقيل معناه : أن يكون أحدهما أعلم بمواقع الحجج وأهدى لإيرادها ولا يخلطها بغيرها .

قال أبو عبيد : اللحن -بفتح الحاء - الفطن ، وبالإسكان للخطأ في [ ص: 510 ] القول . ويؤيده روايته في كتاب المظالم بلفظ : "أبلغ من بعض " ، ويأتي بعد أيضا ، وذكر ابن سيده : لحن الرجل لحنا : تكلم بلغته ، ولحن له (يلحن ) لحنا : قال له قولا يفهمه عنه ويخفى على غيره ، وألحنه القول أفهمه إياه ، فلحنه لحنا : فهمه ، ولحنه [غنى لحنا ] عن كراع كذلك ، وهي قليلة ، والأول أعرف ، ورجل لحن : عالم بعواقب الكلام ظريف ، ولحن لحنا : فطن لحجته وانتبه لها ، ولاحن الناس : فاطنهم . ومنه قول عمر بن عبد العزيز : عجبت لمن لاحن الناس ولاحنوه ، كيف لا يعرف جوامع الكلم ، ورجل لاحن الناس ولاحنوه لا غير : إذا صرف كلامه عن جهته ، ولا يقال : لحان . وعرف ذلك في لحن كلامه ، أي : فيما يميل إليه ، وفي التنزيل ولتعرفنهم في لحن القول [محمد : 30 ] وفي "جامع القزاز " عن الخليل إن ترك الصواب يجوز فيه التحريك . وأنكره بعضهم ، وقال غيره : بالسكون يكون : إزالة الشيء عن جهته وفي الخطأ ، وأنشد :


منطق صائب وبلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا



فهنا في اللحن التعميم وإزالته عن وجهه ، ولذلك جعله خير الحديث ؛ لأنه إنما يعلمه من يفطن له وليس كالذي يعلمه كل سامع .

[ ص: 511 ] ومعنى (صائب ) في هذا ، أي : من صاب يصوب . أي : هو غزير كثير متين . وقيل : إنما يريد هنا اللحن الذي هو إزالة الإعراب ؛ لأن الجارية ليستملح منها ذلك .

وقال ثعلب : اللحن قبيح من كل أحد . قال معاوية : كيف ابن زياد فيكم ؟ قالوا : ظريف على أنه يلحن ، قال : فذلك أظرف له ، ذهب معاوية إلى اللحن الذي هو الفطنة ، وذهبوا هم إلى اللحن الذي هو الخطأ . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : تعلموا الفرائض [والسنن ] واللحن كما تعلمون القرآن . قيل : أراد اللغة ، وقيل : أراد الخطأ ؛ لأن من تعلم الخطأ فقد تعلم الصواب ، والعرب تقول : هذا لحن بني فلان إنما تريد لغتهم ، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في أبي بن كعب : وإنما أرغب عن كثير من لحنه . يريد : لغته . قال الشاعر :


وما هاج هذا الشوق إلا حمامة     تغنت على خضراء سمر قيودها
صدوح الضحى معروفة اللحن لم تزل     تقود الهوى من مسعد ويقودها



والجمع : لحون ، (وقوله : رددن لحونا ذات ألوان ، يريد : عندهم لغات ) .

[ ص: 512 ] وقيل : اللحن هنا (ضروب ) الأصوات الموضوعة ، فلذلك يقولون : لحن في قراءته إذا قرأ بتطريب .

فصل :

فيه ما ترجم له أنه ينبغي للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذر من المظالم ومطالبة الباطل ؛ لأنه - عليه السلام - وعظ أمته بقوله هذا .

فصل :

وقوله : "إنما أنا بشر " على معنى الإقرار على نفسه بصفة البشرية من أنه لا يعلم (من ) الغيب إلا ما أعلمه الله منه .

وقوله : "إنكم تختصمون إلي " يريد -والله أعلم - وأنا لا أعرف (المحق ) منكم من المبطل حتى يتميز المحق منكم من المبطل ؛ فلا يأخذ المبطل ما نعطيه .

وقوله : "فأقضي له بنحو ما أسمع " وفي رواية : "فأتي بذلك " . وهذا يقتضي أن الحاكم مأمور بأن يقضي بما يقر به الخصم عنده .

وقوله : "فمن قضيت له " . هو خطاب للمقضي له ؛ لأنه يعلم من نفسه هل هو محق أومبطل ؟ فيبين له أنه لا يعتبر بالحكم ؛ لأن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه .

فصل :

فيه : أن القاضي لا يقضي بعلمه . وفيه نظر ، وذلك أنه إذا علم شيئا [ ص: 513 ] لا يمكنه أن يقضي بخلافه ، بل يرفع ما علمه إلى غيره ، أو لا يحكم بظاهر قول الخصم إلا إذا لم يكن عنده علم بالمحق منهما ، ومن قال : يقضي بعلمه ، فإنه ينفذ ما علمه من غير التفات إلى قول الخصم .

التالي السابق


الخدمات العلمية