التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6867 7297 - حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال: بعضهم سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح. فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي . [ الإسراء: 85 ] [ انظر: 125 - مسلم: 2794 - فتح: 13 \ 265 ].


ثم ساق حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته".

وحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة من المسجد من حصير. . الحديث.

وحديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: سئل أشياء كرهها، فلما أكثروا عليه المسألة غضب وقال: "سلوني". فقام رجل فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". . الحديث.

وحديث أنس - رضي الله عنه - مثله، بزيادة: "لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط"

[ ص: 35 ] في رواية: قال رجل: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك فلان". ونزلت الآية السالفة [ المائدة: 101 ].

وحديث المغيرة في النهي عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. . الحديث.

وحديث أنس - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر - رضي الله عنه - قال: نهينا عن التكلف.

وحديثه أيضا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ ".

وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح. وقال بعضهم لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح. فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ الإسراء: 85 ].

الشرح:

قد أسلف البخاري سبب نزول الآية من حديث أنس - رضي الله عنه - ، وروي من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا، وقيل إنما نهى عن هذا; لأنه سبحانه أحب الستر على عباده رحمة منه لهم، وأحب أن لا يقترحوا المسائل، وقال سعيد بن جبير: نزلت في الذين سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة، ألا ترى أنها بعدها. قال ابن عون: سألت نافعا عن هذه الآية،

[ ص: 36 ] فقال: لم تزل كثرة السؤال منذ قط تكره. وقال الحسن البصري: في هذه سألوه عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل: كان الذي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه يتنازعه رجلان، فأخبر بأبيه منهما، وأعلم - عليه السلام - أن السؤال عن مثل هذا لا ينبغي، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدى ذلك إلى فضيحة لا سيما وقت سؤاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونزول الكتاب في ذلك، وقد سلف في كتاب الفتن كراهة أم عبد الله بن حذافة لسؤاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه، وما قالت له في ذلك فلسؤالهم له عما لا ينبغي، وتعنيته موجب النار، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بتعزيره وتوقيره، وأن لا يرفع الصوت فوق صوته، توعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى: أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ الحجرات: 2 ]، ألا ترى فهم عمر - رضي الله عنه - لهذا الأمر وتلافيه له بأن برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، وقال مرة: إنا نتوب إلى الله، فسكت - عليه السلام - وسكن غضبه، ورضي قول عمر - رضي الله عنه - حين ذب عن نبيه ونبه على التوبة مما فيه إغضابه أن يؤدي إلى غضب الله وقد ذكرنا شيئا من هذا المعنى في كتاب الفتن في باب التعوذ منها، والدليل على صواب فعل عمر - رضي الله عنه - ، قوله - عليه السلام - بعد ذلك "أولى والذي نفسي بيده أولى" ، يعني لمن عنت نبيه في المسألة، أو غضبه، ومعنى ( أولى ) عند العرب التهديد والوعيد.

وقال ( المبرد ): يقال للرجل إذا أفلت من عظيمة: أولى [ ص: 37 ] ( لك )، أي: كدت تهلك، ثم أفلت.

ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات الميت في جواره: أولى ( لي )، كدت والله أن أكون السواد المخترم.

فصل:

قال المهلب: وأصل النهي عن كثرة السؤال، والتنطع في المسائل مبين في قوله تعالى في بقرة بني إسرائيل حين أمرهم بذبح بقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هي؟ وما لونها؟ قيل لهم: لا فارض ولا بكر ، فشق عليهم، وقد كان ذلك مباحا لهم، ولذلك ضيق عليهم في لونها، فمنعوا من غيره، ثم لما قالوا: إن البقر تشابه علينا ، قيل لهم: لا ذلول حراثة، ولا ساقية للحرث. أي: معلمة لاستخراج الماء، وقد كان ذلك مباحا لهم، فعز عليهم وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها عقوبة لسؤالهم عما لم يكن لهم به حاجة.

فصل:

الآية السالفة وهي قوله: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة: 11 ] فيها تحذير مما أنزل الله تعالى بهؤلاء القوم، ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا إنه بقيت منه بقية مكروهة، وهو أن التنطع في المسألة والبحث عن حقيقتها يلزم فيها أن يأتي بذلك الشرع على الحقيقة التي ( انكشفت ) له في البحث، وذلك مثل أن يسأل عن سلع الأسواق الممكن فيها الغصب [ ص: 38 ] والنهب هل له شراء ذلك في سوق المسلمين، وهو ممكن فيه هذا المكروه أم لا؟ فيفتي بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن تنطع فقال: إن قام الدليل على السلعة أنها من نهب أو غصب هل لي أن أشتريها؟ فيفتى بالمنع فهذا الذي بقي من كراهة السؤال والتنطع إلى الآن في النسخ الذي كان يمكن حين نزول القرآن والتضييق المشروع.

وقد سئل مالك عن ( قيل وقال وكثرة السؤال ) فقال: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها أو هو مسألة الناس أموالهم، وكان زيد بن ثابت وأبي بن كعب، وجماعة من السلف يكرهون السؤال عنها ويرون الكلام فيها لم يزل من التكلف، وقال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل، وقد كرهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعبارة ابن التين هنا قيل: الإلحاف فيه للفقير، وقيل: عما لا يعنيه إما من علم، وإما من التجسس على الناس، ووقع لمالك أنه قال: والله ما يعرف إن كان الذي أنتم فيه من تفريع المسائل ( قال وقيل )، أراد النهي عن أشياء سكت عنها، فكره السؤال عنها لئلا يحرم شيئا كان مسكوتا عنه، ومن ذلك قوله لذلك الرجل الذي قال: أين مدخلي؟ قال: "النار"، وهذا كان في وسع لو سكت.

فإن قلت: قد جاء في التنزيل ما يعارض ذلك، وهو الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم، قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل 43 ].

[ ص: 39 ] قلت: هذا ليس من ذاك فالمأمور هو ما تقرر، وثبت وجوبه، والمنهي عنه هو ما ( لم يتعبد ) الله تعالى عباده به ولم يذكره في كتابه، وقد سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الآية السالفة، وهي قوله: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة: 101 ]، قال: مما لم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه. ألا ترى أنه تعالى لم يجب اليهود عن سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما لهم به الحاجة إلى علمه وكان من علمه تعالى الذي لم يطلع عليه أحدا، فقال لنبيه: قل الروح من أمر ربي [ الإسراء: 85 ] أي: من علمه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء: 85 ] فنسبهم الله تعالى في سؤالهم عما لا ينبغي لهم السؤال عنه إلى قلة العلم.

وقال مالك مما رواه عنه أشهب: ( قيل وقال ) هو هذه الأخبار والأراجيف في رأيي أعطى فلانا كذا ومنع كذا بقوله تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض [ التوبة: 65 ]. فهؤلاء يخوضون.

وقد سلف الكلام على ذلك في الزكاة في باب: لا يسألون الناس إلحافا [ البقرة: 273 ] وكذا الكلام في كثرة السؤال وما في الحديث، وأما قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فإنما قال ذلك; لعلمه أنهم كانوا متعنتين والمتعنت من عيوبه أن يخاطب بما يكره.

فصل:

وأما قوله - عليه السلام - : "يسألون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله" فهو من السؤال الذي لا يحل، وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من [ ص: 40 ] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - قال: "لا يزال الشيطان يأتي أحدكم، فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم، فليقل: آمنت بالله".

ولأبي داود - بإسناد جيد - من حديث أبي هريرة أنه - عليه السلام - جاءه ناس من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا، وأنا تكلمنا بها، فقال: "أوقد وجدتموه". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان".

ولابن أبي شيبة من حديث الأعمش، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. فقال - عليه السلام - : "الحمد لله الذي رده إلى الوسوسة".

فإن قلت: كيف تسمي هذه الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟

قلت: قال الخطابي: يريد أن صريح الإيمان هو الذي يعظم ما تجدونه في صدوركم ويمنعكم من قول ما يلقيه الشيطان في قلوبكم، ولولاه لم يتعاظموه ولم ينكروه، ولم يرد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانا وهي من قبل الشيطان وكيده، ألا تراه أنه - عليه السلام - [ ص: 41 ] حين سئل عن هذا قال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".

وفيه وجه آخر: قال المهلب: قوله: " صريح الإيمان". يعني به: الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له; لأن المفكر يجد المخلوقات كلها لها خالق يؤثر الصنعة فيها والحدث الجاري عليها، والله تعالى بهذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا صريح الإيمان لا البحث الذي هو من كيد الشيطان المؤدي إلى هذا الانقطاع; ليحير العقول، فنبه - عليه السلام - على موضع كيده وتحييره.

قال غيره: وإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه، قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا; لأن بقولك يخلق فقد أوجبت وجوده، وبقولك: نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودا ومعدوما معا تناقض فاسد; لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله، فيستحيل كون فعله فعلا له; لاستحالة أن يقال: إن النفس تخلق النفس التي هو هو، وهذا بين في كل هذه الشبه وهو صريح الإيمان.

فائدة:

ذكر القاضي في "طبقات المعتزلة": أن الرشيد لما منع من الجدال في الدين كتب إليه ملك السند إنك رئيس قوم لا تنصفون وتقلدون الرجال وتعاقبون بالسيف، فإن كنت على ثقة من دينك، فوجه إلي من أناظره، فإن كان الحق معك نتبعه، وإن كان معي تتبعني، فوجه إليه الرشيد بعض القضاة، وكان عند ملك السند رجل من الشمسية، [ ص: 42 ] وهو الذي حمله على هذا القول، فلما وصل القاضي إلى الملك أكرمه، ورفع منزلته، فسأله الشمسي فقال: أخبرني عن معبودك، هل هو قادر؟ قال: نعم. قال: فهل يقدر أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من الكلام، والكلام بدعة وأصحابنا يكرهونه، فقال الشمسي: ومن أصحابكم؟ قال: محمد بن الحسن وأبو يوسف وأبو حنيفة، فقال الشمسي للملك: قد كنت أعلمتك دينهم، وأخبرتك بجهلهم وتقليدهم وغلبتهم بالسيف، فأمر الملك القاضي بالانصراف، وكتب إلى الخليفة: إني كتبت إليك وأنا على غير يقين فيما حكي لي عنكم والآن فقد تيقنت بحضور هذا القاضي، وذكر له ما جرى.

فلما ورد الكتاب على الرشيد قامت قيامته، وقال: ليس لهذا الدين من يناضل عنه، فقالوا: بلى وهم الذين في الحبس، فقال: أحضروهم. فلما حضروا قال لهم: ما تقولون في هذه المسألة. قال صبي من بينهم: هذا السؤال محال; لأن المخلوق لا يكون إلا محدثا والمحدث لا يكون قبل القديم فاستحال أن يقال: يقدر يخلق مثله، أو لا يقدر، كما استحال أن يقال: تقدر أن تكون جاهلا أو عاجزا، فقال الرشيد: وجهوا بهذا الصبي إلى السند يناظرهم، وذكر الخبر.

فصل:

إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت فقال: فيهما دلالة على أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وبسببه، وهذا يؤدي إلى قول القدرية.

فالجواب: أنه قد ثبت أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه لا يكون من أفعاله التي انفرد بالقدرة عليها، ولا تدخل تحت قدر العباد ولا تكون من مقدورات العباد التي هي كسب لهم وخلق [ ص: 43 ] الله تعالى إلا والله تعالى مريد لجميع ذلك سواء كان آمرا بذلك عباده أو ناهيا لهم عنه، فغير جائز أن يقال: فعل فعلا من أفعاله، والقول إنه فاعل بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله; لأن السبب والداعي فعل من أفعاله، والقول بأنه فاعل بسبب يفضي إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه من فعله إلا بوقوع غيره - تعالى الله عن ذلك - وإذا فسد هذا وجب حمل قوله - عليه السلام - : "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته" على غير ظاهره، وصرفه إلى أنه تعالى فاعل سؤال السائل الذي نهاه عنه ومقدر أن يحرم الشيء الذي يسأل عنه إذا وقع السؤال فيه كل ذلك سبق به القضاء والقدر; لأن السؤال موجب للتحريم وعلة له.

وكذلك قوله - عليه السلام - : "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم" يعني: من كثرة مطالبكم لي بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابا لكم على كثرة ملازمتكم لي في مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له موجبة لكتابة الله عليهم الصلاة لما ذكرنا من أن الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطا في وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتابة الصلاة عليهم لكان ذلك مما سبق به القضاء والقدر في علم الله تعالى، وإنما نهاهم - عليه السلام - عن مثل هذا وشبهه تنبيها لهم على ترك الغلو في العبادة وركوب القصد فيها; خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة في ذلك، ألا تري قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: قد سألها قوم من قبلكم [ المائدة: 102 ] يعني: فرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين، وكان - عليه السلام - رءوفا بالمؤمنين رفيقا بهم.

وقد تقدم مثل حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - من رواية عائشة في أبواب [ ص: 44 ] قيام الليل في كتاب الصلاة، وأسلفنا في توجيهه ما لم يذكر هنا، فراجعه، فإن قلت: فإذا حمل قوله - عليه السلام - : "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجله" على غير ظاهره.

فما وجه ذلك وإثم الجرم به؟ قيل: هو على ما تقرر علمه من نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب فعل ما يلام عليه، وإن قل، تحذيرا من مواقعته له، فعظم جرم فاعل ذلك; لكثرة الكارهين لفعله.

فصل:

قوله في حديث أنس - رضي الله عنه - "آنفا" أي: الساعة "في عرض هذا الحائط" وعرض الحائط وسطه، وكذا عرض البحر وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب "العين"، وقال صاحب "العين": هو بضم العين أي: في ناحيته.

وقوله: "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" فيه: أن الأشياء على الإباحة حتى تحرم، والقول بالوقف تعد لما فيه من الإضرار، وهو المنع من التصرف فيها بالأكل وغيره.

فصل:

والحجرة في حديث زيد: المكان يمتنع فيه، وقوله: "فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" صريح في فضل النافلة في البيوت، يؤيده الحديث الآخر: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها [ ص: 45 ] قبورا" وشذ بعضهم، فقال: يحتمل من فرضه في بيته عملا بهذا الحديث، وجعله ناسخا للأول ولا نسخ.

فصل:

والجد في حديث المغيرة - بفتح الجيم - أي: الغنى، ويقال: الحظ والبخت، وقال الداودي: هو الشرف، وقال ابن حبيب: هو بالكسر وهو من جد الاجتهاد، وأنكره من قال: الجد الاجتهاد في الله، والله دعا الخلق إلى طاعته وأمرهم بالاجتهاد، لأداء فرائضه. فكيف لا ينفع ذلك عنده!

وقيل: يريد المجتهد في طلب الدنيا لا ينفعه ذلك عنده، وقيل: يريد لا ينفع ذا الاجتهاد وصل اجتهاده في الهرب ولا في الطلب ما لم يقسم له.

وقيل: معنى الفتح وغيره: لم يكن عليه جرم، فيدل أن استعمالها كان متتابعا قبل ذلك أن من أتاه الله ملكا أو شيئا فأعظم به شأنه لم يكن نال شيئا فيه إلا بعطاء الله إياه.

وقوله: "منك الجد"، قال الخطابي: ( من ) هنا بمعنى البدل، كقوله:


فليت لنا من ماء زمزم شربة [ مبردة باتت ] على الطهيان



يريد: ليت لنا بدل ماء زمزم، والطهيان: البرادة.

[ ص: 46 ] قال الجوهري: معنى ( منك ) ها هنا: عندك، تقديره: ولا ينفع ( ذا الغنى عندك غناه ) وإنما ينفعهم العمل بطاعتك.

والصحيح بقاء ( من ) على بابها، والمعنى: ولا ينفع ذا الغنى غناه إن أنت أردته بسوء أو أمر كما تقول: لا ينفعك مني شيء، ولا يغنيك مني إن أنا أريد أخذا. قال أبو عبد الملك: وقد بناه العراقيون في شرح ذلك، فزعموا أنه بفتح الجيم، فذهب به بعضهم إلى أن جد الرزق والغنى لا ينفع من الله شيئا فخطبوا فيه العشواء.

فصل:

ذكر هنا: أن المغيرة كتب به إلى معاوية، وفي "الموطأ" عن معاوية قال: سمعت هذه الكلمات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأعواد وكان معاوية حينئذ على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيحتمل أن يكون معاوية سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتب به المغيرة إليه، وفيه من الطرف رواية صحابي عن صحابي.

فصل:

قد سلف الكلام في ( قيل وقال ) وإعرابه أيضا، والمعنى: أنها نهي عن كثرة الكلام والغالب عدم السلامة من المكثر لكلامه فيما لا يعنيه أو لأنه يخالطه الكذب.

فصل:

وسلف هناك أيضا نهيه عن إضاعة المال أنها على وجوه: وضعه في [ ص: 47 ] غير حقه، ونفقته في المعاصي، والسرف في الحلال، والتفريط فيه حتى يضيع.

وقوله: ( وعقوق الأمهات ). أي: يخالف مرادهن وسكت عن الآباء; لأن معناهم بمعنى الأمهات، وأصل أم أمهة ويدل عليه أن جمعه أمهات، وقيل: أمهات للناس وأمات للبهائم.

فصل:

( ووأد البنات ): دفنهن أحياء في التراب خشية الفقر. ( ومنع وهات ) أي: منع الحق وطلب الباطل.

وقوله: "أولى" سلف أنه تهديد، وهو بفتح الواو، وفي الأصل: "أولى" بسكون الواو.

فصل:

ينعطف على ما مضى من قوله: "لن يبرح الناس يسألون. . " إلى آخره، وهو غير لازم، وذلك أن العالم إذا ثبت حدثه افتقر إلى محدث; لاتفاق العقل على أن الكتابة لا بد لها من كاتب، والبناء من بان فإذا اتفقوا على افتقار الأدون إلى صانع، فالذي هو أعجب وأبدع من خلق السماوات والأرض والجبال وخلق الإنسان، واختلاف الليل والنهار، وما سوى ذلك من عجيب الآيات أولى أن يفتقر إلى صانع، ويدل أيضا على إثبات الصانع أن شأن الحوادث تقدم بعضها على بعض في الوجود وصحة تقدم المتأخر منها فحصولها على ما حصلت عليه من التقدم والتأخر، واختلاف الأشكال والهيئات تدل على أن ذلك فضل عالم مريد مختار، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن [ ص: 48 ] يكون الفاعل محدثا أو قديما، فإن كان محدثا، نقلنا الكلام على [ ما ] قلنا في المخلوقات، وكذلك في محدثه ويتسلسل القول في ذلك وما أدى إلى التسلسل فهو غير صحيح فلم يكن إلا أن يكون قديما، وإذا كان قديما فلا يقال: من خلقه؟ لأن القديم لا يتقدمه شيء ولا يصح عدمه وهو فاعل لا مفعول.

فصل:

وقوله: ( كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة ). أي: زرع، والعسيب، قال ابن فارس: عسبان النخل كالقضبان، والنفر، قال ابن عرفة: هو ما بين العشرة إلى الثلاثة، وفي "الصحاح"، و"المجمل": النفر من الثلاث إلى العشرة.

وقد سلف الكلام على الروح، قال ابن عباس ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله إلى أن تقوم الساعة، وقال أبو صالح: هو خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم لهم أيد وأرجل، وقيل: هو جبريل، واحتج قائله بقوله تعالى: نزل به الروح الأمين [ الشعراء: 193 ] وقيل: عيسى - عليه السلام - وقيل: القرآن; لقوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [ الشورى: 52 ].

وقال المفسرون: هو ملك عظيم يقوم وحده، فيكون صفا وتقوم الملائكة فيكونون صفا، كما قال تعالى: يوم يقوم الروح [ النبأ: 38 ] الآية، وقيل: هو ملك عظيم رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند [ ص: 49 ] العرش، وقيل: هو خلق من خلق الله لا ينزل ملك إلا ومعه اثنان منهم.

وذكر الداودي: أن الروح الوحي، وقوله: فقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون: هو بإسكان العين مضموما ومجزوما جواب النهي.

التالي السابق


الخدمات العلمية