التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6970 7405 - حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ". [ انظر: 7505، 7537 - مسلم: 2675 - فتح: 13 \ 384 ].


ذكر فيه حديث شقيق عن عبد الله - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد أغير من الله - عز وجل - ، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله - عز وجل -" . وقد سلف.

وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما خلق الله - عز وجل - الخلق كتب في كتابه - هو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي".

[ ص: 246 ] وحديثه أيضا: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".

الشرح:

معنى قوله: ويحذركم الله نفسه أي: إياه، تقول قتل نفسه أي: أوقع الهلاك بذاته كلها. وقيل: يحذركم عقابه.

وقوله: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك قال ابن الأنباري: أي تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في غيبك. وقال الزجاج: النفس عند أهل اللغة على معنيين: أحدهما: أن يراد بها بعض الشيء، والآخر: أن يراد بها الشيء كله، فالمعنى: تعلم حقيقتي وما عندي، والدليل عليه قوله تعالى: إنك أنت علام الغيوب ، وقال غيره: تعلم غيبي ولا أعلم غيبك، وقيل: تعلم ما في نفسي ولا أعلم أنا ما فيها فأضاف نفسه إلى الله تعالى; لأنه خالقها.

وقال ابن بطال: ما ذكر في الآيتين والأحاديث من ذكر النفس، فالمراد به إثبات نفس لله تعالى. والنفس لفظ يحتمل معاني، والمراد بنفسه: ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه تعالى، فوجب أن تكون نفسه هي هو، وهو إجماع وللنفس وجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها إذ الغرض من الترجمة خلاف ذلك.

[ ص: 247 ] فصل:

قوله: ( "وما من أحد أحب إليه المدح من الله" ) يقرأ برفع ( أحب ); لأنه خبر مقدم على المبتدأ والمبتدأ ( المدح )، ولا يرفع المدح بأحب في هذه المسألة، ويكون المبتدأ والخبر في موضع نصب خبر ( ما ) إن جعلها حجازية، وإن جعلها تميمية فتكون في موضع رفع خبر المبتدأ وهو ( أحد ).

فصل:

وقوله: ( "وهو وضع عنده" ) نقول: على ما يشاء، وقيل: وضع ذلك على العرش، وقيل: معنى ( عنده ): أنه عالم به، فمعنى الخبر أنه كتبه وهو لا يخفى عنه ولم يستعن بكتابه عليه; لئلا ينساه، و ( عند ) بمعنى: قرب المكان على المسافة، يقال: وضع الشيء من يده وضعا إذا ألقاه.

وقال عياض: ضبطه القابسي وغيره بفتح الواو وإسكان الضاد، وعند أبي ذر "فوضع" بفتح الضاد والعين، وقال الأصمعي: الوضائع ( كتب ) يكتب فيها الحكمة.

وقال ابن بطال: ( عند ) في ظاهر اللغة تقتضي أنها للموضع، وأنه تعالى يتعالى عن الحلول في المواضع; لأن ذلك من صفات الأجسام إذ الحال في موضع لا يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول في غيره إلا لأمر يخص حلوله فيه، والحلول فيه عرض من الأعراض، يفنى بمجيء حلول آخر يحل به في غير ذلك المكان، [ ص: 248 ] والحلول محدث والحوادث لا تليق به تعالى، لدلالتها على حدث من قامت به، فوجب صرف ( عند ) عن ظاهرها إلى ما يليق به تعالى; وهو أنه أراد - عليه السلام - إثبات علمه بإثابة من سبق علمه أنه عامل بطاعته، وعقاب من سبق علمه أنه عامل بمعصيته. و ( عند ) وإن كان وضعها في اللغة المكان فقد يتوسع فيها فتجعل لغير المكان، كقوله - عليه السلام - : "أنا عند ظن عبدي بي" ولا مكان هناك.

فصل:

وقوله: ( "إن رحمتي تغلب غضبي" ) قد سلف أن رحمة الله تعالى إرادته لإثابة المطيعين له، وغضبه إرادته لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى قوله: "إن رحمتي تغلب غضبي": إن إرادتي ثواب الطائعين لي هي إرادتي أن لا أعذبهم، وهو معنى قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة: 185 ]، فإرادته بهم اليسر هي إرادته أن لا يريد بهم العسر، وكان ما أراد من ذلك بهم لم يكن ما لم يرده، فعبر - عليه السلام - عن هذا المعنى بقوله: "إن رحمتي تغلب غضبي".

وظاهر قوله يفيد أن رحمته وغضبه معنيان، أحدهما: غالب للآخر وسابق له، وإذا ثبت أن إرادته واحدة وصفة من صفات ذاته، وأن رحمته وغضبه ليسا بمعنى أكثر من إرادته التي هي متعلقة بكل ما يصح كونه مرادا وجب صرف كلامه عن ظاهره; لأن إجراء الكلام على ظاهره يقتضي حدث إرادته ولو كانت له إرادات كثيرة متغايرة.

[ ص: 249 ] فصل:

وقوله: ( "أنا عند ظن عبدي بي" ) يقول: إن كان فيه شيء من الرجاء حققت رجاءه; لأنه لا يرجو إلا مؤمن بأن له ربا يجازي، وقوله: ( "في ملأ خير منهم" ) يعني: الملائكة المقربين.

وفيه: دليل على فضل الملائكة، ويحتمل أن يكون على عمومه وتكون الملائكة خير الخلق، ولا أقول به، ويحتمل أن يكون يخبر الشارع بذلك أمته، فيريد أن الملائكة خير ممن بعد الأنبياء.

وقد اختلف في الأنبياء والملائكة: أيهم أفضل؟

قال ابن فورك: ومن ذهب إلى تفضيل الأنبياء والأولياء من الآدميين ( على الملائكة ) قال: معنى قوله: "خير منه" يرجع إلى الذكر كأنه قال: بذكر خير من ذكره، لأجل أن ذكر العبد لله دعاء وتضرع، وذكر الله له إظهار لرحمته وكرامته وذلك خير للعبد وأنفع، وهذا يرد عليه هذا الخبر; لأن فيه ملأ خيرا منهم.

وقيل: العلماء أفضل من الملائكة.

وقال ابن بطال: هذا الحديث نص من الشارع على أن الملائكة أفضل من بني آدم ثم قال: وهو مذهب جمهور أهل العلم، وعلى ذلك شواهد من كتاب الله تعالى منها قوله تعالى: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف: 20 ] ولا شك أن الخلود أفضل من الفناء، وأن الملائكة أفضل من بني آدم، وإلا فلا يصح معنى الكلام.

[ ص: 250 ] قلت: لا أوافقه على أن هذا مذهب الجمهور، بل الجمهور على تفضيل البشر، وهذه نزعة اعتزالية، فأشرف المخلوقات بنو آدم الذين جعل الله خيرته منهم فلو كان غيرهم أشرف لصيره منهم.

فصل:

ووصفه تعالى لنفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرب والإتيان، وإن كان يحتمل الحقيقة والمجاز وحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وترائي الأجسام وذلك لا يليق به تعالى فاستحال حملها عليه، فتعين المجاز لشهرة ذلك في كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرا أو ذراعا، وإتيانه ومشيه هرولة معناه: التقرب إليه بطاعته وأداء مفروضاته، ويكون تقربه تعالى من عبده وإتيانه كذلك عبارة عن إثابته على طاعته من رحمته، ويكون معنى قوله: "أتيته هرولة" أي: أتاه ثوابي مسرعا.

قال الطبري: وإنما مثل القليل من الطاعة ( بالشبر ) منه، والضعف من الكرامة والثواب بالذراع فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أكرم [ ص: 251 ] على طاعته أن ( ثواب ) عمله له على عمله الضعيف وأن إكرامه مجاوز حده إلى ما بينه تعالى.

فإن قلت: فما معنى قوله: "إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" قيل معناه: إذا ذكرني بقلبه مخفيا ذلك عن خلقي، ذكرته برحمتي وثوابي مخفيا ذلك عن خلقي حتى لا يطلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرني في ملأ من عبادي ذكرته في ملأ من خلقي أكثر منهم وأطيب.

وقد اختلف السلف أيهما أفضل الذكر بالقلب أو باللسان:

فروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: لأن أذكر الله في نفسي أحب إلي من أن أذكره بلساني سبعين مرة. وروي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة، وإن كان في السوق وإن تحرك بذلك اللسان والشفتان فهو أعلم.

قال الطبري: والصواب أن خفاء الذكر أفضل من ظهوره لمن لم يكن إماما يقتدى به، وإن كان في محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو في سوق وذلك أنه أسلم له من الرياء.

روينا من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي".

[ ص: 252 ] ولمن كان بالخلوة أن يذكر الله بقلبه ولسانه; لأن شغل جارحتين بما يرضي الله أفضل من شغل جارحة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل من شغل جارحتين وكل ما زاد فهو أفضل.

التالي السابق


الخدمات العلمية