التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
53 [ ص: 202 ] 40 - باب: أداء الخمس من الإيمان

53 - حدثنا علي بن الجعد قال: أخبرنا شعبة، عن أبي جمرة قال: كنت أقعد مع ابن عباس، يجلسني على سريره، فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي. فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من القوم" أو "من الوفد؟". قالوا: ربيعة. قال: "مرحبا بالقوم -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى". فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة. فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس". ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت. وربما قال: المقير. وقال: "احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم". [87، 523، 1398، 3095، 3510، 4368، 4369، 6176، 7556 - مسلم:18 - فتح: 1 \ 129]


ثنا علي بن الجعد نا شعبة، عن أبي جمرة قال: كنت أقعد مع ابن عباس، فيجلسني على سريره فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي. فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من القوم أو من الوفد؟". قالوا: ربيعة. قال: "مرحبا بالقوم -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى". فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة.

وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ ". قالوا: الله ورسوله [ ص: 203 ] أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس".

ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والمقير، والمزفت. وربما قال: المقير. وقال: "احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم".


الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه، البخاري في عشرة مواضع من "صحيحه" هنا كما ترى، وفي خبر الواحد: عن علي بن الجعد، عن شعبة، وعن إسحاق، عن النضر، عن شعبة.

وفي كتاب: العلم عن بندار، عن غندر، عن شعبة، وفي: الصلاة عن قتيبة، عن عباد بن عباد، وفي: الزكاة عن حجاج بن المنهال، عن حماد، وفي الخمس عن أبي النعمان، عن حماد، وفي مناقب قريش عن مسدد، عن حماد، وفي المغازي عن سليمان بن حرب، عن حماد، و عن إسحاق، عن أبي عامر العقدي، عن قرة، وفي الأدب: عن عمران بن ميسرة، عن [ ص: 204 ] عبد الوارث، عن أبي التياح، وفي التوحيد: عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم، عن قرة.

وأخرجه مسلم في: الإيمان والأشربة: عن خلف بن هشام، عن حماد، وعن يحيى بن يحيى، عن عباد، وفي: الإيمان وحده، عن أبي موسى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وبندار، عن غندر، عن شعبة، وعن ابن معاذ، عن أبيه، عن قرة، وعن نصر بن علي، عن أبيه، عن قرة، كلهم عن أبي جمرة به، ولم يذكر البخاري في شيء من طرقه قصة الأشج وذكرها مسلم في الحديث فقال - صلى الله عليه وسلم - للأشج -أشج عبد القيس-: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة".

الوجه الثاني: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بابن عباس وشعبة، وأما أبو جمرة فهو -بالجيم والراء- وليس في "الصحيحين" من (يكنى) بهذه الكنية غيره ولا من اسمه جمرة بل ولا في باقي الكتب الستة أيضا، ولا في "الموطأ"، وفي كتاب الجياني أنه وقع في نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم -بالحاء والزاي- وذلك وهم، واسمه نصر بن عمران بن عصام، وقيل: ابن عاصم بن واسع الضبعي البصري.

[ ص: 205 ] سمع: ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة وخلقا من التابعين، وعنه: أيوب وغيره من التابعين وغيرهم. كان مقيما بنيسابور ثم خرج إلى مرو، ثم انصرف إلى سرخس وبها توفي سنة ثمان وعشرين ومائة، وثقته متفق عليها. والضبعي -بضم الضاد المعجمة ثم باء موحدة ثم عين مهملة- نسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. قال أبو أحمد الحاكم: ليس في المحدثين أبو جمرة غيره وما عداه أبو حمزة بالحاء المهملة.

وقد روى مسلم عن أبي حمزة -بالحاء المهملة- (عمران) بن أبي عطاء القصاب -بياع القصب- الواسطي حديثا واحدا عن ابن عباس فيه ذكر معاوية وإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس خلفه.

قال بعض الحفاظ: يروي شعبة عن سبعة يروون عن ابن عباس كلهم أبو حمزة -بالحاء والزاي- إلا هذا ويعرف هذا من غيره منهم أنه إذا أطلق عن ابن عباس أبو حمزة فهو هذا، وإذا أرادوا غيره ممن هو بالحاء قيدوه بالاسم والنسب أو الوصف كأبي حمزة القصاب في [ ص: 206 ] آخر "صحيح مسلم " في قصة معاوية كما أسلفناه.

وأما علي بن الجعد (خ، د) فهو: الإمام أبو الحسن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري الهاشمي مولاهم البغدادي، سمع: الثوري ومالكا وغيرهما من الأعلام، وعنه: أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم.

قال موسى بن داود: ما رأيت أحفظ منه، وكان أحمد يحض على الكتابة عنه. وقال يحيى بن معين : هو رباني العلم ثقة (ثقة) فقيل له: هذا الذي (قد) كان منه -يعني: أنه كان يتهم بالجهم- فقال: ثقة صدوق، وقيل: إن الذي كان يقول بالجهم ولده الحسن قاضي بغداد، وأقوالهم في الثناء عليه والحفظ والإتقان مشهورة. وبقي ستين سنة أو سبعين سنة يصوم يوما ويفطر يوما، ولد سنة ست وثلاثين ومائة، ومات سنة ثلاثين ومائتين، ودفن بمقبرة باب حرب ببغداد.

[ ص: 207 ] الوجه الثالث: في بيان ألفاظه ومعانيه وفوائده:

الأولى: قوله: (كنت أقعد مع ابن عباس). يعني زمن ولايته البصرة من قبل علي رضي الله (عنهما) وللبخاري في كتاب العلم عنه: كنت أترجم بين ابن عباس والناس، ولمسلم : كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس. قيل: إن لفظة يدي زائدة; لتتفق الروايات.

وقيل: التقدير بينه وبين الناس.

والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، وقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عمن تكلم بها.

قال ابن الصلاح: وعندي أنه كان يترجم عن ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس لزحام أو لاختصار يمنع من فهمه، وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بأخرى، فقد أطلقوا على (قولهم) باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعد.

قال النووي : والظاهر أنه يفهمهم عنه ويفهمه عنهم. وفي لفظ: فجاءته امرأة فسألته عن نبيذ الجر فقال: الحديث.

الثانية: فيه جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد; لأنه من باب الخبر لا من باب الشهادة على المشهود، وبوب عليه [ ص: 208 ] البخاري في بعض طرقه: باب الترجمة بين يدي الحاكم.

الثالثة: السرير: معروف وجمعه: سرر -بضم الراء- كما جاء به القرآن الكريم، ويجوز فتحها، وكذا ما أشبهها من المضعف كجديد وجدد ودليل ودلل ونظائره، ويجوز فيها ضم الثاني وفتحه، والضم أشهر، والفتح حكاه الواحدي والجوهري وغيرهما، ولا وجه لمن أنكره.

الرابعة: فيه استحباب إكرام كبير القدر من جلسائه، ورفع مجلسه (وتخصيصه) فيه على غيره.

الخامسة: معنى قوله: (أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي) أقم عندي لتساعدني على فهم كلام السائلين، فإنه كان يترجم له كما سلف، ويخبره بمراد السائل الأعجمي ويخبر السائل بقول ابن عباس.

السادسة: الوفد: الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقى العلماء، والمصير إليهم في المهمات. واحدهم: وافد. قال ابن سيده: يقال: وفد عليه وإليه وفدا ووفودا، ووفادة وإفادة على البدل: قدم، وأوفده عليه، وهم الوفد والوفود.

فأما الوفد: فاسم (للجمع)، وقيل: جمع. وأما الوفود فجمع (وافد) وفد أوفده إليه.

[ ص: 209 ] وفي "الجامع" للقزاز: ووفوده والقوم يفدون وأوفدتهم أنا إيفادا وواحد الوفد: وافد.

وفي "الصحاح": وفد فلان على الأمير رسولا، والجمع: وفد، وجمع الوفد: أوفاد، والاسم: الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير: أرسلته.

وفي "المغيث" و"مجمع الغرائب": الوفد قوم يجتمعون فيردون البلاد. وما ذكرته أولا هو قول صاحب "التحرير" وجزم به النووي في "شرحه" لهذا الكتاب، وقال القاضي: هم القوم يأتون الملك ركبانا، ويؤيد ما ذكره أن ابن عباس فسر قوله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [مريم: 85] قال: ركبانا.

السابعة: وفد عبد القيس تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا أربعة عشر راكبا رئيسهم الأشج العصري واسمه: المنذر بن عائذ -بالذال المعجمة، وقال الكلبي: المنذر بن الحارث ابن زياد، وقيل: المنذر بن عامر، وقيل: ابن عبيد، وقيل: عبد الله بن عوف، قاله ابن سعد، ولقب بالأشج; لأثر كان في وجهه وسبب [ ص: 210 ] وفادتهم; أن منقذ بن (حيان) أحد بني غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد الهجرة فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهض منقذ إليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمنقذ بن حيان: "كيف جمع قومك؟ " ثم سأله عن أشرافهم (وتسميتهم). فأسلم منقذ وتعلم الفاتحة وأقرأ ثم رحل إلى هجر. فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جماعة عبد القيس فكتمه، ثم اطلعت عليه امرأته -وهي بنت المنذر بن عائذ -بالذال المعجمة- (بن المنذر) بن الحارث بن النعمان بن زياد بن عصر بن عوف بن عمرو بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن (عمرو) بن وديعة بن لكيز -بالزاي- بن قصي بن عبد القيس بن أفصى -بالفاء ثم صاد مهملة- بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار (بن معد بن عدنان)، والمنذر هذا هو: الأشج -كما سلف- سماه - صلى الله عليه وسلم - به; لأثر كان في وجهه -كما سلف- وكان منقذ (يصلي ويقرأ)، فذكرت لأبيها فتلاقيا، فوقع الإسلام في قلبه ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على السير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسار الوفد، فلما دنوا من [ ص: 211 ] الوديعة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج العصري غير ناكبين ولا مبدلين ولا مرتابين" إذ لم يسلم قوم حتى وتروا.

قال القاضي: وكان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة.

فائدة:

القيس في اللغة: الشدة، وبه سمي امرؤ القيس. أي: رجل الشدة.

الثامنة: قوله: قال: ("من القوم" أو "من الوفد؟") هو شك من بعض الرواة قالوا: ربيعة هذا نسبة إلى جدهم الأعلى فإن عبد القيس هو ابن (أفصى) بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة كما سلف.

التاسعة: قوله: ("قال: مرحبا بالقوم") هو من الرحب -بضم الراء- وهو: السعة، والرحب بالفتح: الشيء الواسع. ومرحبا منصوب بفعل مضمر لا يظهر أي: صادفت رحبا، وأتيت رحبا وسعة فاستأنس. وقال الفراء: معناه: رحب الله بك مرحبا كأنه وضع موضع الترحيب، والعرب أيضا تقول: يرحبك الله ويسهلك، ومرحبا بك وسهلا. ذكره الهروي وغيره، وأكثرت العرب منه ومرادها: البر والإكرام وحسن اللقاء.

العاشرة: قوله: ("غير خزايا ولا ندامى") هكذا وقع هنا، وجاء في [ ص: 212 ] غير ذا الموضع "غير الخزايا ولا الندامى" بالألف (واللام) فيهما، وفي رواية لمسلم : "غير خزايا ولا الندامى" وكله صحيح و"غير" منصوب على الحال. هكذا الرواية، وتؤيده رواية البخاري في موضع آخر: "مرحبا بالقوم الذين جاءوا غير خزايا ولا ندامى". وأشار صاحب "التحرير" إلى أنه روي بالكسر على الصفة للقوم، والمعروف الأول، وأما معناه: فالخزايا جمع خزيان كحيران وحيارى، والخزيان: المستحيي.

وقيل: الذليل المهان (وبه جزم ابن التين في المغازي فقال: أي غير أذلاء ولا مهانين، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا هلك، وخزي إذا استحيا قال: ويحتمل أن يريد: أنكم لن تقعوا في بلية، قال ابن السكيت: خزي إذا وقع في بلية).

وأما الندامى فقيل: جمع ندمان، بمعنى: نادم وهي لغة في نادم حكاها القزاز والجوهري وغيرهما وعلى هذا هو على بابه، وقيل: جمع نادم اتباعا للخزايا، وكان الأصل نادمين فأتبع لخزايا تحسينا للكلام، وهذا الإتباع كثير في كلام العرب، وهو فصيح.

[ ص: 213 ] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجعن مأزورات غير مأجورات" أتبع مأزورات لمأجورات، ولو أفرد ولم يتبع لقال: موزورات. كذا قاله الفراء وجماعات، قالوا: ومنه قول العرب: إني لآتيه بالغدايا والعشايا. جمعوا الغداة: غدايا; إتباعا لعشايا، وأصله: غدوات.

وأما معنى "غير ندامى" فالمقصود: أنه لم يكن منهم تأخر عن الإسلام ولا عناد، ولا أصابكم إسار ولا سبي ولا ما أشبه ذلك مما يستحيون بسببه أو يذلون أو يهانون أو يندمون، فهذا إظهار لشرفهم حيث دخلوا في الإسلام طائعين من غير خزي ثم لما أسلموا احترموا.

[ ص: 214 ] الحادية عشرة: قوله: (إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام).

المراد: جنس الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وفي رواية لمسلم : (في أشهر الحرم). أي: في أشهر الأوقات الحرم، وإنما مكنوا في هذه الأشهر دون غيرها; لأن العرب كانت لا تقاتل فيها، وما ذكرناه من عد الأشهر الحرم هو المستحسن في عدها وتظاهرت عليه الأخبار، وقيل: تعد من سنة واحدة.

الثانية عشرة: قوله: (وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر). أي: في طريقنا من المدينة نمر عليهم. وأصل الحي: منزل القبيلة ثم سميت به اتساعا; لأن بعضهم يحيا ببعض، قاله في "المطالع"، وقال ابن سيده: إنه بطن من بطون العرب.

قال الكلبي: وأول العرب شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر. وقدم الأزهري العشائر على الفصائل قال: وهم الأحياء.

[ ص: 215 ] وذكر الجواني في "الفاضلية" أن العرب على طبقات عشر أعلاها الجذم ثم الجمهور ثم الشعوب -واحدها: شعب- ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط.

وقال ابن دريد: الحي: الشعب العظيم من الناس.

الثالثة عشرة: قوله: (فمرنا بأمر فصل). أي: بين واضح ينفصل به المراد ولا يشكل. قاله الخطابي وغيره.

الرابعة عشرة: قوله: (نخبر) هو بالرفع على الصفة لأمر، قال القرطبي: كذا قيدناه على من يوثق.

وقوله: (وندخل به الجنة) يجوز رفعه على الصفة وجزمه على (جواب) الأمر.

قال القرطبي: قيدناه بهما كأنه قال إن أمرتنا بأمر واضح فعلناه ورجونا دخول الجنة به.

[ ص: 216 ] وقوله: (وندخل)، كذا هو هنا بالواو وفي البخاري أيضا ومسلم بحذفها.

الخامسة عشرة: قوله: (فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده) إلى آخره. وعد خمسة ويجاب: بأنه أمرهم بالأربع التي وعدهم ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس; لأنهم كانوا مجاورين كفار مضر فكانوا أهل جهاد، ويكون قوله: ("وأن تعطوا من المغنم الخمس"). معطوفا على أربع أي: أمرهم بأربع وبأن يعطوا، والشهادتان في حكم واحد. وجواب ثان وهو أن أول الأربع إقام الصلاة، وذكر كلمة التوحيد; لأنها الأساس، وقد رواه البخاري في كتاب: الأدب وفيه: "أقيموا الصلاة" إلى آخره وليس فيه ذكر الشهادة، وفي بعض طرقه حذف الصوم.

السادسة عشرة: هذا الحديث موافق لحديث: "بني الإسلام على خمس" ولتفسير الإسلام بخمسة في حديث جبريل -عليه السلام- وقد سلف أن ما يسمى إسلاما يسمى إيمانا. قيل: وإنما لم يذكر هنا [ ص: 217 ] الحج; لأنه لم يكن فرض بعد، وفيه نظر; لأن هذا كان عام الفتح، والحج فرض قبل ذلك إما سنة خمس أو سنة ست.

قال القاضي: والجهاد لم يكن فرض أيضا لأن فرضه العام نزل في سورة براءة سنة ثمان بعد الفتح. قال: وجاء في بعض طرق هذا الحديث حذف الصوم وهو إغفال من الراوي; لعدم الحفظ من بعضهم.

السابعة عشرة: الخمس -بضم الميم وتسكن- وكذا الثلث والربع إلى العشر يضم ثانيه ويسكن.

الثامنة عشرة: فيه دلالة على وجوب الخمس في الغنيمة قلت أم كثرت وإن لم يكن الإمام في السرية (الغازية). وسيأتي بسطه في موضعه إن شاء الله تعالى (ذلك) وقدره.

التاسعة عشرة: (الحنتم) -بفتح الحاء المهملة وإسكان النون ثم مثناة فوق مفتوحة- جرار خضر على أصح الأقوال، وقد جاء في "صحيح مسلم " في كتاب الأشربة تفسيره بها.

ثانيها: أنها الجرار مطلقا.

ثالثها: أنها جرار مقيرات الأجواف يؤتى بها من مضر، زاد بعضهم أنها حمر.

رابعها: أنها جرار حمر أعناقها، وقيل: أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مضر، وقيل: من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.

[ ص: 218 ] خامسها: أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، وعبارة "المحكم" أنها جرار خضر تضرب إلى الحمرة. وعبارة الخطابي أنها جرار مطلية بما يسد مسام الخزف ولها التأثير في الانتباذ; لأنها كالمزفت. وعبارة ابن حبيب: هي الجر وكل ما كان من فخار أبيض أو أخضر. ورد عليه بأنها ما طلي من الفخار بالحنتم المعمول من الزجاج وغيره.

وأما (الدباء): بالمد فهو: اليقطين اليابس أي الوعاء منه، وهو بضم الدال وقد تكسر وقد يقصر.

وأما (النقير): فهو جذع ينقر وسطه (وينبذ) فيه كما جاء في "صحيح مسلم " مبينا مرفوعا.

وأما (المقير): فهو المزفت وهو المطلي بالقار وهو الزفت، وقيل: الزفت: نوع من القار. والصحيح الأول، وفي "صحيح مسلم " عن ابن عمر قال: المزفت هو المقير. وعبارة ابن سيده وغيره: أنه شيء أسود تطلى به الإبل والسفن. وقال أبو حنيفة : إنه شجر مر.

[ ص: 219 ] العشرون: النهي عن الانتباذ في هذه الأربع، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما; ليحلو (ويشرب) ; لأنه يسرع فيها الإسكار فيصير حراما وتبطل ماليته، ففيه إضاعة المال، وربما شربه بعد أن صار مسكرا ولا يدري.

ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها; لأنها لرقتها لا يبقى فيها المسكر بل إذا صار مسكرا شقها غالبا، ثم إن هذا النهي كان في أول الإسلام ثم نسخ، ففي "صحيح مسلم " من حديث بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال): "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرا".

هذا مذهب الشافعي والجمهور، وذهبت طائفة إلى أن النهي باق، منهم: مالك وأحمد وإسحاق حكاه الخطابي عنهم قال: وهو مروي عن (ابن عمر) وابن عباس، وذكر ابن عباس هذا الحديث لما استفتي [ ص: 220 ] دليل على أنه يعتقد النهي ولم يبلغه الناسخ، والصواب الجزم بالإباحة; لصريح النسخ.

الحادية بعد العشرين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("وأخبروا بهن من وراءكم") فيه دلالة على قبول خبر الواحد، وقد أخرجه البخاري فيه، كما سلف، وقوله: "من". هو بفتح الميم، ورواه مسلم مرة كذلك ومرة بكسرها والهمز في "وراءكم"، وقوله أولا: (من وراءنا). لا خلاف أنه مفتوح الميم.

الثانية بعد العشرين: قد اشتمل هذا الحديث على أنواع من العلوم وقد أشرنا إلى بعضها، ومنها: وفادة الفضلاء والرؤساء إلى الأئمة عند الأمور المهمة.

ومنها: تقديم الاعتذار بين يدي المسألة.

ومنها: بيان مهمات الإسلام وأركانه سوى الحج.

ومنها: أن الأعمال تسمى إيمانا وهو مراد البخاري هنا.

ومنها: ندب العالم إلى إكرام الفاضل.

ومنها: استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم كما (فعل) ابن عباس.

[ ص: 221 ] ومنها: استحباب قول الرجل لزواره وشبههم: مرحبا.

ومنها: أنه ينبغي للعالم أن يحث الناس على تبليغ العلم وإشاعة أحكام الإسلام.

ومنها: أنه لا كراهة في قول رمضان من غير تقييد بالشهر.

ومنها: أنه لا (عيب) على طالب العلم والمستفتي إذا قال للعالم: أوضح لي الجواب. ونحو هذه العبارة.

ومنها: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف (فتنة وإعجابا) ونحوه.

ومنها: الترجمة في الفتوى وقبول خبر الواحد كما سلف.

ومنها: وجوب الخمس في الغنيمة.

خاتمة: جاء في هذا الخبر أن وفد عبد القيس لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام الأشج فجمع رحالهم وعقل ناقته ولبس ثيابا جددا، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه وأجلسه إلى جانبه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟ " فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله، إنك إن تزايل الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا وترسل معنا من يدعوهم، فمن اتبع كان منا، ومن أبى قاتلناه. قال: "صدقت، إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة".

[ ص: 222 ] وجاء في مسند أبي يعلى: فقال: يا رسول الله، كانا في أم حدثا؟ قال: "بل قديم". قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.

والأناة: بفتح الهمزة مقصور هي: تربصه حتى نظر في مصالحه

وهي الأناة، والثانية: الحلم وهي هذه الأخيرة الدالة على صحة عقله

وجودة نظره للعواقب.

التالي السابق


الخدمات العلمية