التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
652 [ ص: 503 ] 48 - باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر، جازت صلاته

684 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم. فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس - وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته - فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر - رضي الله عنه - يديه، فحمد الله على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، فلما انصرف قال: " يا أبا بكر، ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ ". فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟! من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء". [1201، 1204، 1218، 1234، 2690، 2693، 7190 - مسلم: 421 - فتح: 2 \ 167]


فيه: عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: تقدم في صلاته - عليه السلام - في مرضه.

ثم ساق حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم... إلى آخره.

والكلام عليه من وجوه:

أحدها:

[ ص: 504 ] هذا الحديث أخرجه البخاري في سبعة مواضع هنا، وثلاثة في الصلاة فيما يجوز من التسبيح والحمد للرجال، ورفع الأيدي فيها لأمر ينزل به، والإشارة فيها والسهو والصلح والأحكام، وأخرجه مسلم أيضا.

ثانيها:

بنو عمرو بن عوف من ولد مالك بن الأوس من الأنصار وكانوا بقباء فصلى - عليه السلام - الظهر ثم أتاهم ليصلح بينهم، وكان بينهم شر وقتال وتراموا بالحجارة، فحبس وحانت الصلاة.

ثالثها:

فيه ذهاب الإمام للإصلاح بين رعاياه؛ لئلا يختلفوا فيفسد حالهم، وفضل الإصلاح بين الناس.

رابعها:

قوله: (فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر) هو بلال؛ إذ في أبي داود فقال - يعني: عليه السلام - لبلال: "إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس" فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام، ثم أمر أبا بكر فتقدم، وفي هذه الرواية بيان أن هذه الصلاة هي العصر،

[ ص: 505 ] وقد جاء أيضا في بعض طرقه.

خامسها:

قوله: فقال: أتصلي للناس فأقيم؟: فيه سبع فوائد:

الأولى: تقديم غير الإمام إذا تأخر ولم يخف فتنة وإنكار من الإمام، وتقديم الناس لأنفسهم إذا غاب.

الثانية: تقديم الأصلح والأفضل.

الثالثة: عرض المؤذن وغيره التقدم على الفاضل وموافقته.

الرابعة: تفضيل الصديق - رضي الله عنه - حيث قدم وإشارته - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على حاله، ذكره ابن الجوزي وابن التين والنووي، وقد أفدناك أن الشارع هو الذي قدمه.

الخامسة: تفضيل الصلاة في أول الوقت.

وقال ابن التين: إنهم خافوا فوت الوقت، وظنوا أنه - عليه السلام - لا يأتيهم في الوقت، ففيه المحافظة على الأوقات.

السادسة: أن الإقامة لا تصح إلا عند إرادة الدخول في الصلاة؛ لقوله: أتصلي فأقيم؟.

السابعة: أن المؤذن هو الذي يقيم، وهذا هو السنة، فإن أقام غيره كان خلاف السنة، نعم يعتد بأذانه عند الجمهور.

سادسها:

قوله: (فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة): جاء في رواية أخرى: أنه جاء بعد أن كبر الصديق وكبر الناس، وخرق رسول الله [ ص: 506 ] - صلى الله عليه وسلم - ليصل إلى موضعه. ففيه جواز فعل الإمام ذلك عند الحاجة إليه لخروجه لطهارة أو رعاف أو نحوهما، ورجوعه، وكذا من احتاج من المأمومين إلى الخروج لعذر.

سابعها:

قوله: وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، إنما كان لا يلتفت للنهي عنه في البخاري كما سيأتي. قال ابن عبد البر: وجمهور العلماء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرا. قلت: وهذا إذا كان لحاجة، فإن كان فلا كراهة، وسيعقد البخاري له بابا ستعلمه بعد فيما سيأتي، وفي أبي داود من حديث سهل بن الحنظلية: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، وكان أرسل إليه فارسا. قال الحاكم: سنده صحيح، وكذا التفات الصديق عند الإكثار من التصفيق ولم ينكره عليه.

ثامنها: رفع أبي بكر يديه بحمد الله كان إشارة منه لا كلاما، كذا قال ابن الجوزي، ويحتمل خلافه. قال مالك: من أخبر في صلاته بسرور فحمد الله تعالى لا يضر صلاته، وله أن يتركه تواضعا وشكرا لله تعالى وللمنعم به. قال ابن القاسم فيه: ومن أخبر بمصيبة فاسترجع وأخبر بشيء فقال: الحمد لله على كل حال. (أو قال:

[ ص: 507 ] الذي) بنعمته تتم الصالحات، لا يعجبني، وصلاته مجزئة. قال أشهب: إلا أن يريد بذلك قطع الصلاة.

قلت: وفيه شكر الله تعالى على الوجاهة في الدين، وأن ذلك من أعظم النعم، قال تعالى في عيسى: وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين [آل عمران: 45]. وفيه جواز إعلام المصلي بما يسره.

تاسعها:

إنما لم يثبت أبو بكر عند الإشارة إليه بالثبوت، وإن كان فيه مخالفة؛ لأنه فهم أنها إشارة تكريم لا إلزام، ويدل عليه شق الشارع الصفوف حتى خلص إليه، فلولا أنه أراد الإمامة لصلى حيث انتهى.

وقوله: (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) - أي: لأن الكبير شأنه التقدم، ويجوز أن يكون الصديق خاف حدوث حادث في الصلاة يغير حكما، فلم يتول الصلاة مع وجوده.

العاشر:

قوله: (وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى) استدل به أصحابنا على جواز اقتداء المصلي بمن يحرم بالصلاة بعده، فإن الصديق أحرم بالصلاة أولا ثم اقتدى به حين أحرم بعده، وهو أظهر القولين عندنا، وفيه الصلاة بإمامين على التعاقب، وقد سلف. ونقل ابن بطال عن الأكثرين المنع بغير عذر، قال ابن بطال: لا أعلم من يقول: إن من كبر قبل إمامه فصلاته تامة إلا الشافعي؛ بناء على مذهبه أن صلاة المأموم غير مرتبطة [ ص: 508 ] بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة من كبر قبل إمامه.

الحادي عشر:

استنبط ابن بطال وغيره جواز الاستخلاف من هذا الحديث ووجهه أن الصديق صار مأموما بعد أن كان إماما، وبنى القوم على صلاتهم، فكذا إذا خرج من الصلاة لسبق حدث ونحوه يقدم رجلا، وهو أظهر قولي الشافعي، وبه قال عمر، وعلي، والحسن، وعلقمة وعطاء، والنخعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وقال الشافعي مرة وأهل الظاهر: لا يستخلف، وادعى بعض المالكية أن تأخر الصديق وتقدم الشارع من خواصه؛ لأنهم كانوا يقدموه بالإحرام ولا يفعل ذلك بعده، وليس بظاهر.

وعن ابن القاسم في الإمام يحدث فيستخلف ثم ينصرف، فيأتي ثم يخرج المستخلف ويتم الأول بالناس أن الصلاة تامة، فإذا تمت الصلاة فينبغي أن يشير إليهم حتى يتم لنفسه، ثم يسلم ويسلموا، فيجوز التقدم والتأخر في الصلاة. قال ابن بطال: وهذا القول مطابق للحديث، وبه ترجم البخاري، وأكثر الفقهاء لا يقولون ذلك؛ لأنه لا يجوز عندهم الاستخلاف في الصلاة إلا لعذر، وقال أولا: هذا الحديث رد على الشافعي وأهل الظاهر في إنكارهم الاستخلاف. وقد عرفت أنه قول عنده، وأن أظهر قوليه جوازه.

[ ص: 509 ] الثاني عشر:

قوله: "من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء"، وفي رواية أخرى للبخاري: "فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت".

التصفيق: هو التصفيح - بالحاء - سواء صفق بيده أو صفح، وقيل:

هو بالحاء: الضرب بظاهر اليد وإحداهما على باطن الأخرى. وقيل: بل بإصبعين من أحديهما على صفحة الأخرى، وهو الإنذار والتنبيه، وبالقاف: ضرب إحدى الصفحتين على الأخرى، وهما للهو واللعب.

وقال أبو داود: قال عيسى بن أيوب: التصفيح للنساء. يحتمل أنهم ضربوا بأكفهم على أفخاذهم.

قلت: وإن ضربت المرأة كان ببطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر، ولا يضرب ببطن كف على كف على وجه اللعب واللهو، فإن فعلت ذلك على وجه اللعب بطلت صلاتها؛ لمنافاة الصلاة، واحتج به الجماعة - كما قال ابن التين - من الحذاق على أبي حنيفة في قوله: إن سبح الرجل لغير إمامه لم تجزه صلاته.

ومذهب مالك والشافعي: إذا سبح الأعمى خوف أن يقع في بئر أو خوفا من دابة أو حية أنه جائز. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن معنى قوله: "فليسبح" أي: لإمامه إذا سهى؛ لأن سهو إمامه سهو له،

[ ص: 510 ] فأجاز له هذا؛ لأنه من مصلحة الصلاة. وأجاب عند بعضهم بأن الخبر خرج على سبب كما سلف، فتصفيقهم؛ ليعلموا الصديق بمجيئه - عليه السلام -، وإنما كان السبب مع غير الإمام، وهذا لا يعود إلى الإمام، فما كان مثل هذا السبب جائز، لكن قوله: "من نابه شيء" عام فيما كان مع الإمام وغيره. وقال مالك: إنما قال ذلك على معنى العتب لما فعل، أي: ذلك للنساء فهو ذم للتصفيق، فالمرأة تسبح كالرجل؛ لقوله - عليه السلام - "من نابه شيء" و (من) تقع على الذكور والإناث. قال: والتصفيق منسوخ بقوله: "من نابه شيء في صلاته فليسبح" وأنكره بعضهم. وقال: لأنه لا يختلف أن أول الحديث لا ينسخ آخره، ومذهب الشافعي والأوزاعي يخصص النساء بالتصفيق وهو ظاهر الحديث.

وفي أبي داود: "وإذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء"، وسيأتي في البخاري في بابه من حديث أبي هريرة، وهو في مسلم: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في الصلاة.

التالي السابق


الخدمات العلمية