التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
7069 [ ص: 429 ] 7508 - حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم، قال كلمة يعني - : " أعطاه الله مالا وولدا - فلما حضرت الوفاة قال لبنيه أي أب كنت لكم قالوا خير أب. قال: فإنه لم يبتئر - أو: لم يبتئز - عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال: فاسحكوني - فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها ". فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله - عز وجل - : كن. فإذا هو رجل قائم. قال الله: أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك" أو: "فرق منك" قال: "فما تلافاه أن رحمه عندها". وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها". فحدثت به أبا عثمان فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه" أذروني في البحر". أو كما حدث. [ انظر: 3478 - مسلم: 2757 - فتح: 13 \ 466 ].


حدثنا موسى، حدثنا معتمر وقال: "لم يبتئر". وقال خليفة: حدثنا معتمر وقال: "لم يبتئز". فسره قتادة: لم يدخر.

ثم ذكر فيه أحاديث عدتها سبعة عشر:

أحدها:

حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله - عز وجل - : يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار".

ثانيها:

حديث أبي صالح، عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به".

[ ص: 430 ] وقد سلف.

والبخاري أخرجه عن أبي نعيم: ثنا الأعمش به، وكذا إسناده عند جميع الرواة خلا ابن السكن; فإنه زاد فيه: سفيان بن سعيد، فقال: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان ثنا الأعمش به، والصواب: من خالفه من جميع الرواة.

ثالثها:

حديث همام، عنه: "بينما أيوب يغتسل عريانا". الحديث.

وقد سلف.

رابعها:

حديث أبي عبد الله الأغر: "يتنزل ربنا" الحديث.

واسمه: سلمان مولى جهينة من أصبهان، وفي طبقته مسلم الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد واشتركا في عتقه فهو مولاهما، كان قاضيا من أهل المدينة، قال أحمد: وأغر وسليمان واحد.

خامسها:

حديث الأعرج عنه: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة". وبه: "قال الله - عز وجل - : أنفق أنفق عليك".

سادسها:

حديث أبي زرعة عنه: فقال: "هذه خديجة أتتك بإناء فيه طعام - أو: إناء فيه شراب - فأقرئها من ربها السلام".

[ ص: 431 ] سلف.

سابعها:

حديث همام عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت " الحديث سلف أيضا.

ثامنها:

حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تهجد من الليل قال: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض". الحديث.

تاسعها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - في حديث الإفك: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى. الحديث.

في إسناده عبد الله بن عمر بن غانم النميري شيخ شيخ البخاري، نزل إفريقية، انفرد ( به ) البخاري، مات سنة تسعين ومائة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين ومائة.

العاشر:

حديث الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله - عز وجل - إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها". الحديث.

[ ص: 432 ] الحادي عشر:

حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني سليمان بن بلال، عن معاوية بن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم، ( فقال ): مه" الحديث.

وإسماعيل بن عبد الله هذا هو: أبو عبد الله إسماعيل بن أبي أويس، عبد الله بن عبد الله بن أويس، أخي أنس ونافع والربيع أولاد مالك بن أبي عامر، نافع بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن حنبل - ويقال: خثيل بخاء معجمة وثاء مثلثة فيهما - ابن عمرو بن الحارث ذى أصبح أخي يحصب، ابني مالك بن زيد الحميري الأصبحي، حليف عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، ابن أخت مالك بن أنس، اتفقا عليه، وقد تكلم فيه، مات سنة ست وعشرين ( ومائتين ) ويقال: سنة سبع وعشرين ومائتين في رجب، روى عن سليمان بن بلال، وروى عن أخيه أبي بكر عبد الحميد بن أبي أويس الأعشى عن سليمان بن بلال، ومات الأعشى سنة ثنتين ومائتين، ومات سليمان سنة اثنتين وسبعين، وقيل سنة سبع وسبعين بالمدينة.

ومعاوية بن أبي مزرد عبد الرحمن أخي أبي الحباب سعيد بن يسار، مولى شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اتفقا عليه وعلى عمه سعيد بن يسار، ومات سنة سبع عشرة ومائة مع نافع وقتادة وعبد الله بن أبي مليكة وأبي [ ص: 433 ] رجاء عمران بن ملحان على قول، وقيل: مات سعيد أبو رجاء في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقيل: ولاء سعيد بن يسار للحسن ( بن ) علي بن أبي طالب.

الحديث الثاني عشر:

حديث زيد بن خالد قال: مطر الناس، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي". وقد سلف.

الثالث عشر:

حديث الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تعالى: إذا أحب عبدي لقائي". الحديث.

الرابع عشر:

حديث الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا عند ظن عبدي بي".

الخامس عشر:

حديثه أيضا في الرجل لم يعمل خيرا قط، وقد سلف.

السادس عشر:

حديث عبد الرحمن بن أبي ( عمرة ) قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن عبدا أصاب ذنبا - وربما قال: أذنب ذنبا - فقال: رب أذنبت - وربما قال: أصبت - فاغفر لي".

[ ص: 434 ] وعبد الرحمن بن أبي عمرة بشير أخي ثعلبة وأبي عبيدة وحبيب أولاد ( عمرو ) بن محصن بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول، وهو عامر بن مالك بن النجار، ويقال: لمبذول أيضا: أسد بن مالك، لأبيه ولإخوته صحبة، فأما أبوه ( أبو عمرة ) بشير فقتل مع علي - رضي الله عنه - بصفين.

روى عنه ابنه عبد الرحمن، روى له أبو داود والنسائي، وقد اتفقا على ولده عبد الرحمن قاضي المدينة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وروى له مسلم عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وزيد بن خالد.

وأم عبد الرحمن وعبد الله بن أبي عمرة هند بنت المقوم بن عبد المطلب، وأما عمه ثعلبة بن عمرو بن محصن، فشهد بدرا وما بعدها، مات في خلافة عثمان، وقيل: قتل يوم جسر أبي عبيد، روى عنه ابنه عبد الرحمن بن ثعلبة حديثه في قطع يد عمرو بن سمرة في سرقة الجمل، رواه ابن ماجه.

وأما أبو عبيدة بن عمرو بن محصن فقتل شهيدا يوم بئر معونة.

وأما حبيب بن عمرو بن محصن فمات في طريق اليمامة ذاهبا إليها مع خالد بن الوليد، فهو معدود من شهداء اليمامة.

[ ص: 435 ] الحديث السابع عشر: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي أوصى بإحراقه. . . إلى آخره، وقد سلف بالاختلاف فيه: يبتئر أو لم يبتئز، وقال فيه: فسره قتادة: ( لم ) يدخر.

الشرح:

غرضه في هذا الباب كغرضه في الأبواب التي قبلها، ومعنى قوله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله : هو أن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك واعتذروا بما علم الله إفكهم فيه، فأمر الله رسوله أن يقرأ عليهم ( قوله ): فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا [ التوبة: 83 ]، فأعلمهم بذلك، وقطع أطماعهم ( بخروجهم ) معه، فلما رأوا الفتوحات قد تهيأت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرادوا الخروج معه رغبة منهم في المغانم، فأنزل: سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها الآية [ الفتح: 15 ].

فهذا معنى الآية: أن يبدلوا أمره - عليه السلام - بأن لا يخرجوا معه فإن يخرجوا معه، فقطع الله أطماعهم من ذلك مدة أيامه - عليه السلام - بقوله: لن تخرجوا معي أبدا الآية [ التوبة: 83 ]، ثم قال الله آمرا لرسوله: قل للمخلفين من الأعراب [ الفتح: 16 ] يعني: المريدين تبديل كلامه تعالى ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون الآية [ الفتح: 16 ] يعني: توليهم عن إجابته - عليه السلام - حين دعاهم إلى الخروج معه في سورة براءة، والداعي لهم غيره ممن يقوم بأمره من خلفائه.

[ ص: 436 ] فقيل: إنه الصديق دعاهم لقتال أهل الردة، وقيل: الفاروق دعاهم لقتال المشركين، وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامه تعالى، وقد مر القول ( في ) أنه صفة قائمة به لا يصح مفارقتها له، وأنه لم يزل متكلما ولا يزال كذلك.

فصل:

وأما قوله - عليه السلام - : ( "يؤذيني ابن آدم..." ) فقد سلف في كتاب الأدب في باب: لا تسبوا الدهر، وقريبا في باب: إني أنا الرزاق.

أي: يؤذيني: ( يقتضي ) ليس له اتصال إليه تعالى عن ذلك، ولا يلحق به أذى وإنما يلحق من تتعاقب عليه الحوادث ويلحقه العجز والتقصير عن الانتصار، وإنه تعالى عن ذلك; فوجب رجوع الأذى المضاف إليه إلى أنبيائي ورسلي بسب الدهر; لأن ذلك ذريعة إلى سب خالق الدهر ( يعنون ) أقضيته وحوادثه.

وقوله: ( "أنا الدهر" ). أي: أن الأشياء التي ينسبون إليها الدهر أنا مقدرها وخالقها على إرادتي، ألا ترى قوله تعالى: "بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" والأيام والليالي ظروف الحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل شيئا فقد وقع السب على الله; لأن الساب للدهر من أجلها إنما سبه إذ لا فعل للدهر، وكانت الجاهلية تقول: لعن الله هذا الدهر، ولهذا قال قائلهم:


أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع



[ ص: 437 ] ومنهم ما حكى عنه تعالى في قوله: وما يهلكنا إلا الدهر [ الجاثية: 24 ].

وقال ابن فورك: وزعم بعض أهل العلم أن هذا الحديث اختصره بعض الرواة وغيروا معناه عن جهته; لأن في الحديث كلاما إذا ذكر بان تأويله.

فذكر سند هذا الحديث: الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - قال: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار وأنا الدهر" فبان أن التأويل كما تقدم.

قال: ويروى: "أنا الدهر" بفتح الراء، ومعناه: أنه جعل ذلك وقتا للفعل المذكور، ويرجع معناه إلى أني أنا الباقي المقلب الأحوال التي يتغير بها الدهر، قال: وروي بضمها، ومعناه ما سلف، أي: أنا المغير للدهر المحدث للحوادث لا الدهر كما يتوهمون، ويكون ( فاعله ) تكذيب من اقتصر على الدهر والأيام والليالي في حدوث الحوادث وتغييرها من الملاحدة والزنادقة.

فصل:

قوله في الحديث الثاني: ( "الصوم لي" ): يريد أنه عمل لا يظهر على صاحبه، ولا يعلم حقيقته إلا الله. وقد سلف فيه أقوال أخر.

ومعنى ( "أجزي به" ): أجازي، وهو غير مهموز.

وقوله: ( "وفرحه حين يلقى ربه" ): يريد لقبوله بعمله، والخلوف بضم الخاء على المشهور، وكذا هو عند أهل اللغة، مثل: القعود والجلوس، يقال: خلف فاه خلوفا إذا تغيرت رائحته، واختلف [ ص: 438 ] أيضا. وأما الخلوف بفتح الخاء فليس من هذا; لأنه الذي يكثر الخلف في وعده، والخلوف تغير فم الصائم من خلو المعدة بترك الأكل فلا يذهبه بالسواك إذا، وهو حجة لمن لم يكرهه; لأنه رائحة النفس الخارجة من المعدة، وإنما يذهب به ما كان في الأسنان من التغيير.

وقال ابن حبيب (... ): والخلوف: تغير طعم فيه وريحه; لتأخر الطعام. قال بعض المتأخرين: هذا ليس على أصل مالك، وإنما هو جار على مذهب الشافعي حيث كرهه بعد نصف النهار; لأنه وقت وجود الخلوف فيه.

وأباحه مالك; لأن الخلوف عنده لا يزول بالسواك كما مر; لأن أصله عنده من المعدة، ولو زال بالسواك لمنع قبل الزوال; لأن تعاهده بالسواك قبله يمنع وجوده فيه بعده، ودليله أيضا إطلاق قوله - عليه السلام - : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ولم يخص صوما من غيره.

فصل:

وقوله: ( "أطيب عند الله من ريح المسك" ): يحتمل أن ينال عليها من الثواب أكثر مما ينال المتطيب بالمسك من طيبه، أو أنها تعلق في موضع يوصف أنه عند الله أطيب من عبق ريح المسك - وقد روي أيضا - أو أن الله تعالى يغير الطعام أكثر مما يغير ريح المسك، فإن رائحته عندهم ثقيلة، وهي عند الله أطيب من ريح المسك، ولما كان المسك أطيب الروائح جوزي به; لأنه أفضل الجزاء.

[ ص: 439 ] فصل:

وقوله في الحديث الثالث: "رجل جراد من ذهب" الرجل: الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة، وهو جمع على لفظ الواحد، ومثله: صوار: لجماعة البقر، وخيط: لجماعة ( النعام )، وعانة: لجماعة الحمير.

وقوله: "فجعل يحثي" يقال: حثا يحثو ويحثي.

فصل:

وقوله في الرابع: ( "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة" ) سلف تأويله، ويروى: "في ليلة النصف من شعبان".

[ ص: 440 ] قال ابن فورك: والمراد: إقباله على أهل الأرض بالرحمة والعطف بالتذكير والتنبيه الذي يلقى في قلوب أهل الخير منهم حتى يزعجهم إلى الجد في التوبة، ووجدنا الله تعالى خص المستغفرين بالأسحار.

والمراد: الإخبار عما يظهر من ألطافه، وتأييده لأهل ولايته في مثل هذا الوقت بالزواجر التي يقيمها في أنفسهم والمواعظ التي ينهاهم عنها بقوة الترغيب والترهيب، قال: ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره، فيضاف ذلك إلى الوجه الذي يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى في البلد.

قال: وروى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا ) يؤيد هذا التأويل، وهو ضم ( ياء ) "ينزل"، وذكر أنه ضبطه عمن سمعه منه من الثقات الضابطين، وإذا كان ذلك كذلك كان شاهدا لما ذكرناه.

وروي عن الأوزاعي أنه قال لما سئل عن هذا الخبر: يفعل الله ما يشاء، وهذا إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه تعالى.

وذكر ابن حبيب كاتب مالك عنه أنه قال: ينزل أمره في كل سحر، فأما هو فهو دائم لا يزول. ( وقيل عن مالك أيضا: ينزل بعلمه. فإن قلت: كيف يفارق علمه، قيل: أراد سرعة الإجابة )، وقيل: أراد التقرب.

[ ص: 441 ] وقد أسلفنا ذلك وأعدناه ( واضحا ) لبعده.

فصل:

قوله في الخامس: ( "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" ) قيل: هذه الأمة أول من يحاسب وأول من يدخل الجنة.

فصل:

قوله في السادس: ( "بيت من قصب" ) قال الداودي: يعني قصب اللؤلؤ، وقيل: أنابيب من جوهر، كذا فسر الحديث في "الصحاح".

وقال الهروي: أراد يبشرها بقصر من زمردة مجوفة أو من لؤلؤة مجوفة، وبيت الرجل: قصره، وبيته: داره، وبيته: شرفه.

وقوله: ( "لا صخب فيه" ). أي: لا صياح ولا جلبة.

قال الداودي: يعني العيب.

( "ولا نصب" ) أي: لا تعب، وقال الداودي: يعني لا عوج.

فصل:

وقوله في السابع: ( "أعددت لعبادي ( الصالحين ) " ) إلى آخره، هو من قوله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [ السجدة: 17 ].

[ ص: 442 ] قال المهلب: وأما قوله: "أعددت" إلى آخره فهو كقوله تعالى: ويخلق ما لا تعلمون [ النحل: 8 ] مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا توهمه قلب بشر هو على الحقيقة ما لا يعلمه بشر ممن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصه قلب بشر بأن لا يعلمه، يدل - والله أعلم - أنه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة إلا أنه أفردنا بالمخاطبة في قوله: ويخلق ما لا تعلمون . فدل على جواز أن يعلمه غيرنا.

فصل:

والتهجد في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - سلف قريبا بأقوالهم فيه، وأنه من الأضداد، السهر وغيره و"نور" منور، قاله ابن عرفة، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : هاديهم، وعنه وعن مجاهد: مدبرها بشمسها وقمرها ونجومها.

و"قيم" قيل: الدائم حكمه، وقيل: القائم على كل شيء أي: حافظ على كل نفس لا يغفل ولا يمل فمعناه: الحافظ لها، والرب المالك والسيد المطاع، قال تعالى: فيسقي ربه خمرا [ يوسف: 41 ] أي: سيده، والمصلح: من رب الشيء إذا أصلحه فعلى الأول يكون ملكهما، ويحتمل على قول بعض المفسرين سيدهما، وأنكر مالك الدعاء بـ: يا سيدي، ولعله كره اللفظ دون المعنى.

ويحتمل أن صلاحهما به ولولاه لم يكن صلاحهما، قال تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض الآية [ فاطر: 41 ].

[ ص: 443 ] وقوله: " ( أنت ) الحق" يحتمل أن يريد به اسما من أسمائه، ويحتمل أن يريد أنه أحق ( ممن ) يدعي المشركون أنه إله، من قوله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق [ الحج: 6 ]، وظاهر قوله في هذا الحق يعود إلى معنى الصدق، ويتعلق بتسميته إلها، بمعنى أن من سماه إلها وأخبر عنه بذلك فقد صدق، وقال الحق، ومن سمى غيره إلها فقد كذب.

وقوله: ( "ووعدك الحق" ) أي: وعد الجنة للطائع والنار للكافر، فوفى بوعده فهو عائد إلى معنى الصدق، ويحتمل أن يريد أن وعده حق بمعنى: إثبات أنه وعد بالبعث والحشر والنشر والثواب والعقاب، إنكارا لقول من أنكر وعده بذلك، وكذلك الرسل فيه. و ( "أنبت" ): رجعت.

وقوله: ( "والجنة حق والنار حق" )، يحتمل وجهين:

أحدهما: أن إخباره تعالى حق.

والثاني: أن إخبار من أخبر عنه بذلك وبلغه حق، ومعنى "أسلمت": انقدت.

وقوله: ( "وبك آمنت" ) ظاهره: صدقت، قال تعالى: وما أنت بمؤمن لنا [ يوسف: 17 ] وقيل: معناه: بهدايتك اهتديت.

وقوله: ( "وبك خاصمت" ) قيل: يريد من خاصم فيه بلسان أو بيد، قال تعالى: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان [ غافر: 35 ]، وقال وجادلوا بالباطل [ غافر: 5 ]. وقيل: بما آتيتني من البرهان احتججت.

[ ص: 444 ] وقوله: ( "وإليك حاكمت" ) قيل: ظاهره أنه لا يحاكمهم إلا إلى الله، ولا يرضى إلا بحكمه، قال تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [ الأعراف: 89 ]، وقال: أفغير الله أبتغي حكما [ الأنعام: 114 ]، وقيل: كان - عليه السلام - عند القتال يقول: "اللهم أنزل الحق" ويستنصر.

وقوله: ( "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت" ) قيل: يحتمل ما قدم وأخر مما مضى، ويحتمل أن يريد بما قدم: ما مضى، وما أخر: ما يستقبل، ويكون ذلك من قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك الآية: [ الفتح: 2 ] وكانت الأنبياء يستغفرون، وإن كان غفر لها; ليزدادوا رفعة في الدرجات.

فصل:

قوله: ( "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها سيئة حتى يعملها" ).

قيل: معنى الإرادة هنا مرور الفكر بذلك من غير استقرار ولا توطين نفس، هذا قول أبي الطيب أنه إن وطن نفسه على المعصية وعزم عليها بقلبه فهو مأثوم، وخالفه كثيرون من القدماء والمحدثين وأخذوا بظاهر الأخبار أنه لا شيء عليه حتى يعمل كما هو ظاهر الحديث هنا، والهم في الآية إما على مذهب القاضي، فيحمل ذلك على الهم الذي ليس بتوطين النفس أو على من يجوز الصغائر عليهم، وإما على طريقة الفقهاء فهو مغفور له غير مؤاخذ به إذا كان شرعه في ذلك كشرعنا، وقيل في الآية: إنه لم يهم.

وقوله: "وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة". يريد: إن إرادته لعملها عمل كترك السيئة هو عمل أيضا.

[ ص: 445 ] فصل:

وقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( "قامت الرحم فقال: مه" ) هو زجر وردع. وقال الداودي: أي: ما هذا المقام؟ ولعله يريد أنه استفهام بمعنى الإنكار، وقال الجوهري: مه: كلمة مبنية على السكون، وهو اسم يسمى به الفعل، ومعناه: اكفف; لأنه زجر فإن وصلت نونت تقول: مه مه.

وقوله: ( "فلما فرغ منه" ) أي: من الخلق.

وهذا الحديث لا تعلق فيه لمن يقول: يحدث كلامه تعالى من أجل أن الفاء في قوله ( تعالى ) "فقال": توجب في الظاهر كون قوله تعالى عقب قول الرحم، وذلك مقتض للحديث; لقيام الدليل على أنه تعالى لم يزل قائلا قبل أن يخلق خلقه بما لا أول له، وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل قوله تعالى على معنى كلامه الذي لم يزل به متكلما وقائلا، وعلى هذا المعنى يحمل نحو هذا اللفظ إذا أتى في الحديث، وقد يحتمل أن يكون تعالى يأمر ملكا من ملائكته بأن يقول هذا القول عنه وأضافه إليه، إذ كان قول الملك عن أمره تعالى ( له ).

ويدل على صحة رواية من روى في حديث الشفاعة: "فأستأذن على ربي وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك" بترك إسناد القول إليه تعالى، جاءت هذه الرواية في الباب بعده.

[ ص: 446 ] فصل:

قد أسلفنا أن مه: زجر ( وردع )، كذا هو في لسان العرب ومحال توجه ذلك إلى الرب - جل جلاله - ، فوجب توجيهه إلى من عاذت الرحم بالله تعالى من قطيعته إياها.

فصل:

قوله: "مطر" قد أسلفنا أن مطر في الرحمة وأمطر في العذاب، وجاء غيره.

قال تعالى: هذا عارض ممطرنا [ الأحقاف: 24 ] والعرب تقول: مطرت السماء وأمطرت، ذكره الهروي.

وفي "الصحاح": مطرت وأمطرت، وقد مطرنا، قال ابن فارس: يقولون مطرت السماء وأمطرت بمعنى.

وقوله: ( "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي" ). بينه في الحديث ( الآخر ) قال: ( "فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" ). واختلف إذا جعله دليلا على المطر فقيل: هو مخطئ، وقيل: لا بأس به; لأن عمر - رضي الله عنه - لما استسقى التفت إلى العباس - رضي الله عنه - فقال: يا عم رسول الله، كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها، قال: [ ص: 447 ] فما مضت سابعة حتى مطرنا، وقد بوب عليه البخاري فيما مضى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : شكركم.

فصل:

وقوله: ( "إذا أحب عبدي لقائي" ) قيل: يريد عند الموت إذا بشر بالجنة، ويكره ( ذلك ) إذا بشر بالنار.

فصل:

وقوله: ( "أنا عند ظن عبدي بي" ) يريد أنه يخشى ويرجو أن لا ينقطع الرجاء عند الذنب، وهذا لا يتوجه إلا إلى المؤمنين خاصة، أي: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، وفي التنزيل آيات تشهد أن عباده المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسهم أنه عند ظنهم به من المغفرة والرحمة، وإن أبطأت حينا وتراخت وقتا لإنفاذ ما ختم به على من سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلة القسم; لأنه قد كان له أن يعذب بذنب واحد أبدا كإبليس فهو عند ظن عبده، وإن عاقب برهة، فإن كان ظنه به أنه لا يعذبه برهة ولا يخلد، فإنه كذلك يجده كما ظن إن شاء الله تعالى، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

فصل:

وأما حديث الذي لم يعمل خيرا قط.

[ ص: 448 ] ففيه دليل على أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله كما قال - عليه السلام - ، وفيه أن الإنسان يدخل الجنة بحسن نيته في صفته; لقوله: ( "خشيتك يا رب" ).

وفيه: أن من جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافا لبعض المتكلمين; لأن الجهل بها هو العلم، إذ لا يبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل بها المؤمن حقيقة. ولهذا قال بعض السلف: عليكم بدين العذارى، أفترى العذارى تعلم حقيقة صفات الله تعالى؟! وللأشعري في تأويل هذا الحديث قولان، كان قوله الأول: إن من جهل القدرة أو صفة من صفات الله ( تعالى ) فليس بمؤمن.

وقوله هو في هذا الحديث ( إن ) قدر الله علي أن لا يرجع إلى القدرة، وإنما يرجع إلى معنى التقدير الذي هو بمعنى التضييق، كما قال تعالى في قصة يونس: فظن أن لن نقدر عليه [ الأنبياء: 87 ] أي: أن لن نضيق عليه. ثم رجع عن هذا القول، وقال: لا يخرج المؤمن من الإيمان بجهله صفة من صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاته تعالى إذا لم يعتقد في ذلك اعتقادا يقطع على أنه الصواب والدين المشروع.

ألا ترى أن الرجل قال: "لئن قدر الله عليه ليعذبنه" فأخرج ذلك مخرج الظن دون القطع على الله تعالى [ أنه ] غير قادر على جمعه، إخراج خائف من عذاب ربه ذاهل به.

[ ص: 449 ] فصل:

يدل على ذلك قوله: مجيبا لربه قال: ( "لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت ( تعلم ) " ) فأخبر بالعلة التي لها فعل ما فعل.

ويدل على صحة هذا قول من روى قوله: "لعلي أضل الله" ولعل في كلام العرب موضوعة لتوقع مخوف لا يقطع على كونه ولا على انتفائه.

ومعنى قوله: ( "لعلي أضل الله" ) لعلي أخفى عليه وأغيب، وكان الواجب في اللغة: لعلي أضل على الله، فحذف حرف الجر وذلك مشهور في اللغة; لقوله: أستغفر الله ذنبا. أي: أستغفر من ذنب.

ومن كان خائفا عند حضور أجله، جدير أن تختلف أحواله لفرط خوفه وينطق بما لا ( يعتقده، ومن كان هكذا فغير جائز إخراجه من الإيمان الثابت له إذا لم ) يعتقد ما قاله دينا وشرعا، وإنما يكفر من اعتقده تعالى على خلاف ما هو، وقطع على أن ذلك هو الحق لو كفر من جهل بعض الصفات لكفر عامة الناس إذ لا يكاد يجد من يعلم منهم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة وكثيرا من الخاصة وسألتهم: هل ( له ) قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة؟

[ ص: 450 ] وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصلح كونه معلوما لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على من جهل صفة من الصفات لوجب الحكم به على جميع العامة وأكثر الخاصة، وهذا محال.

والدليل على صحة قولنا حديث السوداء أنه - عليه السلام - قال لها: "أين الله؟! " قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ " فقالت: إنك رسول الله، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة" فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو كان علم ذلك شرطا في الإيمان لسألها عنه، كما سألها عن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وكذلك سأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عمر بن الخطاب وغيره رسول - صلى الله عليه وسلم - عن القدر، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق؟ فقال: " ( بل ) لأمر قد سبق" قال: ففيم يعمل العاملون؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين ولا يسع مسلما أن يقول غير ذلك فيهم، وإن كان لا يسعهم جهل القدرة، وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد لعله عمودا سادسا للإسلام.

[ ص: 451 ] فصل:

قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( "قال رجل لم يعمل خيرا قط" ) وقال بعده: "فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به"، وروي أنه لم يعمل حسنة إلا التوحيد، وفي "مسند الجوهري": أن هذا ذكر عن بني إسرائيل.

فصل:

وقوله: "لم يبتئر" قد سلف أنه بالراء وبالزاي، وأن قتادة فسره بقوله: لم يدخر، وكذا هو في اللغة.

قال الجوهري: البئيرة على فعيلة الذخيرة وقد بأرت الشيء وأبأرته: ادخرته والزاي ليست معروفة في اللغة كما قال ابن التين قال: وروي يبتئن بالنون ويأتبر ليس لهما أيضا أصل في اللغة.

وقوله في حديث أبي سعيد: "فاسحكوني". هو من السحك، وأورده ابن التين بلفظ: "فاسهكوني"، وقال: هو من السهك، كما أبدلت القاف من الكاف في الكافور والقافور.

قال أبو سليمان: وروي: "فاسحكوني"، ومعناه: أبردوني ( بالمسحك ) "وهو المبرد، وفي "الصحاح": سحكت الشيء سحقته.

[ ص: 452 ] وقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "واذروا نصفه في البر ونصفه في البحر" هو ثلاثي من قوله: تذروه الرياح [ الكهف: 45 ]. أي: تفرقه، ووقع هنا رباعيا في قوله: "ففعلوا ثم أذروه". هو في اللغة ثلاثي كما وقع في القرآن، قال ابن التين: ورويناه بفتح الهمزة ( حيث ) ما وقع هنا.

فصل:

قد سلف الكلام على قوله: ( "لئن قدر الله علي" ) قال ابن فورك وغيره: معنى ( "قدر" )، للتقدير أي: إن كان قدر وحكم علي بالعقوبة فإنه يعاقبني، وإنما روي بالتشديد.

وقيل معناه: ضيق علي وناقشني حسابا مثل: ومن قدر عليه رزقه [ الطلاق: 7 ]. أي: ضيق، وهذا إحراقه نفسه، ثم إن الله تعالى تفضل عليه وغفر له بخشيته إياه، وهذا يدل أنه كان مقرا بالله موحدا له، وقد سلف، وذكر أن الشيخ أبا عمران قال: قد يحتمل أن يكون هذا الرجل ظن أن من أحرق حتى يصير رمادا، وذري في البحر لا يبعث، أو لعله لم يبلغه عن أحد من الرسل علم ( هذا ) قيل: ولعل أبا عمران يريد أنه كان عالما بفعله وجود الله واستحقاقه أن يعبد وخفي عليه علم وجوب إعادة جميع الموتى; لأن طريق علم الله السمع.

وقيل: إنما غفر له، وإن كان ما قاله كفرا ممن ( يعقل ) ; لأنه قاله حالة لا يعقل، وقد غلب عليه الجزع من عذاب الله تعالى على ما سلف [ ص: 453 ] من ذنوبه، وعارضه بعضهم فقال: لأن قوله: "من خشيتك" يدل أنه قصد لفعل ذلك.

وقالت المعتزلة: إنما غفر له من أجل توبته التي تابها; لأن الله تعالى واجب عليه - عندهم - قبول التوبة من جهة العقل، وأبو الحسن الأشعري شيخ أهل السنة يقطع بقبولها من جهة السمع، ويقول: إن الله سبحانه وعد التائب في كتابه بقبولها، وسواه من أهل السنة يجوز قبولها كسائر الطاعات، فعلى هذا يجوز أن ( يكون ) الله سبحانه غفر له بتفضله عليه بقبول توبته، وقالت المرجئة: إنما غفر له بأصل توحيده الذي لا يضر معه معصية.

فصل:

وقوله: ( "فما تلافاه أن رحمه" ) أي: تداركه، يقال: تلافيت الشيء: تداركته.

فصل:

وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكور قبل حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - في مواقعة الذنب مرة بعد مرة ثم استغفر ربه فغفر له.

فيه دليل على أن العصر في ( مشيئة ) الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، معلنا بخشيته التي جاء بها، وهي اعتقاده أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له، واستغفاره إياه على ذلك يدل على ذلك قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام: 160 ] ولا حسنة أعظم من التوحيد والإقرار بوجوده، والتضرع إليه في المغفرة.

[ ص: 454 ] فصل:

فإن قلت: إن استغفار ربه توبة منه ولم يكن مصرا.

قيل له: ليس الاستغفار أكثر من طلب غفرانه تعالى، وقد يطلب الغفران المصر والتائب، ولا دليل في الحديث على أنه قد تاب مما سأل ( الغفران ) منه; لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم أن لا يعود إلى مثله، والإقلاع عنها، والاستغفار لا يفهم منه ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية