التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
711 744 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا عمارة بن القعقاع قال: حدثنا أبو زرعة قال: حدثنا أبو هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة -قال: أحسبه قال: هنية- فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" .. [مسلم: 598 - فتح: 2 \ 227]


ذكر فيه حديثين:

أحدهما:

حدثنا حفص بن عمر ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة ب الحمد لله رب العالمين .

وهو حديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة رواه عن أنس جماعة منهم قتادة وإسحاق بن عبد الله ومنصور بن زاذان وأيوب على اختلاف فيه، وأبو نعامة قيس بن عباية الحنفي وعائذ بن شريح بخلاف عنه، والحسن وثابت البناني.

[ ص: 11 ] وأما حديث قتادة فرواه شعبة وهشام وأبو عوانة وأيوب وسعيد بن أبي عروبة والأوزاعي وشيبان، رواه عن شعبة خلق: حفص بن عمر كما سلف عن البخاري.

وفي رواية عنه: القراءة بدل الصلاة .

وعن شعبة أيضا غندر في مسلم، ولفظه: صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم ، ورواه أبو يعلى بلفظ: فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم .

قال الدارقطني في "سننه": وكذا رواه معاذ بن معاذ، وعدد جماعة عن شعبة مثل قول غندر وعلي بن الجعد، عن شعبة سواء.

ورواه وكيع وأبو قيس عامر، عن شعبة بلفظ: فلم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: وتابعه عبيد الله بن موسى، عن شعبة، وهمام، عن قتادة. ورواه من طريق زيد بن الحباب، عن شعبة. وفيه: فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.

قال: ورواه يزيد بن هارون، وعدد جماعة، ثم قال: وغيرهم عن شعبة كانوا يفتتحون القراءة، وكذا رواه الأعمش، عن قتادة وثابت، عن أنس قلت: وأخرجه أبو نعيم من حديث أبي داود عنه قال شعبة: قلت لقتادة أنت سمعته منه؛ قال: نعم، نحن سألناه. وحديث هشام، عن قتادة أخرجه أبو داود بلفظ: القراءة .

[ ص: 12 ] وحديث أبي عوانة أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: القراءة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح .

وحديث أيوب أخرجه الشافعي والنسائي وابن ماجه بلفظ: القراءة. عدا النسائي ، فلفظه: فافتتحوا بالحمد ، قال الدارقطني: اختلف فيه علي (أيوب) ، فقيل: عن قتادة، عن أنس، وقيل: عن أبي قلابة، عن أنس، وقيل: عن أيوب، عن أنس، قال: وعسى أن يكون القولان محفوظان .

وحديث ابن أبي عروبة أخرجه النسائي بلفظ: يجهر .

وحديث الأوزاعي أخرجه مسلم حدثنا محمد بن مهران، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك .

وعن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدثه، فقال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ الحمد لله [ ص: 13 ] رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها .

وعن الأوزاعي، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك يذكر ذلك، وليس للأوزاعي، عن قتادة، عن أنس في الصحيح غير هذا ، وحديث شيبان أخرجه النسائي بلفظ: يجهر .

قال البيهقي عقب حديث: كانوا يستفتحون القراءة بـ الحمد لله رب هذا اللفظ أولى أن يكون محفوظا، فقد رواه أصحاب قتادة عن قتادة بهذا اللفظ، منهم: حميد الطويل وأيوب السختياني وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد العطار وحماد بن سلمة وغيرهم، وقال: قال الدارقطني وهو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس .

وأما حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس فأخرجه مسلم كما سلف . وحديث منصور، عن أنس أخرجه النسائي وقال: فلم يسمعنا قراءتها .

وحديث أيوب ذكره الدارقطني كما سلف، وحديث أبي نعامة أخرجه البيهقي بلفظ: لا يقرءون. بمعنى: لا يجهرون بها. وفي لفظ: لا يقرءون. فقط .

[ ص: 14 ] وحديث عائذ بن شريح قال الدارقطني: اختلف عنه فقيل عنه عن أنس، وقيل: عنه عن ثمامة، عن أنس .

وحديث الحسن، عن أنس رواه الطبراني بلفظ: كان يسر بها .

وحديث ثابت ذكره البيهقي .

إذا تقرر ذلك:

فالمراد بافتتاح الصلاة: القراءة، والقراءة تسمى صلاة. قال تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها [الإسراء: 110].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" فذكر فاتحة الكتاب ولو كان ما ترجم به الباب لكان حديثه الثاني فيما يقول بين التكبير والقراءة مرفوعا بهذا وهذا بذاك؛ لأن هذا قول شيء بعد التكبير سوى الفاتحة.

وقد تمسك بالحديث أصحاب مالك وغيرهم على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة، وأنها ليست منها وتأوله الشافعي.

والأكثرون القائلون بأنها من الفاتحة على أن المراد: يستفتح القراءة بسورة الحمد لا بسورة أخرى.

وقد قامت أدلة على أن البسملة منها في عدة أحاديث، وقد صنف [ ص: 15 ] في ذلك وفي الجهر بها: سليم الرازي والخطيب حتى ابن عبد البر من المالكية . وشفي فيها أبو شامة في مجلد .

[ ص: 16 ] وعندنا وعند أحمد أنها آية منها .

وقال أبو حنيفة ومالك: ليست آية منها ولا من غيرها .

وعندنا يستحب الجهر بها في ما يجهر فيه . وبه قال أكثر العلماء.

وخالف أحمد وأبو حنيفة . ثم الأحاديث الواردة في الجهر كثيرة [ ص: 17 ] متعددة عن جماعة من الصحابة يرتقي عددهم إلى أحد وعشرين صحابيا رووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من صرح بذلك ومنهم من فهم من عبارته ولم يرد تصريح بالإسرار عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا روايتان أحدهما: عن ابن مغفل وهي ضعيفة . والثانية: عن أنس وهي معللة بما أوجب سقوط [ ص: 18 ] الاحتجاج بها . ومنهم من احتج بحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" ولا دليل فيه للإسرار.

وأما حديث الجهر فالحجة قائمة بما شهد له بالصحة منها، وهو ما روي عن ستة من الصحابة: أبي هريرة وأم سلمة وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب، نبه على ذلك كله أبو شامة في "مصنفه" ولا مزيد عليه ، ثم مذهبنا ومذهب الجمهور تعيين الفاتحة كل ركعة، وبه قال مالك وأحمد .

[ ص: 19 ] وقال أبو حنيفة: لا تتعين بل تستحب. وفي رواية عنه: تجب ولا تشرط. قال: ولو قرأ غيرها من القرآن أجزأه وفي قدر الواجب روايات عنده.

قال الرازي: وأصحها ما تناوله الاسم ولا يجب في غير الركعتين الأوليين عنده، وليس هذا محل الخوض في ذلك وبسطه، فإنه يطول، ومحله كتب الخلافيات.

الحديث الثاني:

حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة -قال: أحسبه قال: هنية- فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد .. " الحديث.

وهو حديث أخرجه مسلم أيضا وهو دال على الاستفتاح.

وخالف فيه مالك فقال: لا شيء بعد التكبير إلا قراءة الفاتحة، وكره السكوت؛ لأنه- عليه السلام - لما علم الأعرابي قال: "كبر، ثم اقرأ" .

أما ابن العربي فذكر عنه أنه كان يقول كلمات عمر بعد التكبير: سبحانك اللهم وبحمدك .. إلى آخره .

[ ص: 20 ] وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد: يستحب . وأخذ الشافعي بحديث علي الثابت في "صحيح مسلم": "وجهت وجهي .. " إلى آخره .

وزاد عليه أبو يوسف التسبيح في أوله ، واقتصر عليه أبو حنيفة ومحمد، فقالا: يسبح ، وكذا قال أحمد، فيقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك . والأصح وقفه على عمر كما قاله الدارقطني والحاكم وابن خزيمة والبيهقي . وهو في مسلم من حديث عبدة عنه، ولم يسمع منه. كما قاله أبو علي الجياني وغيره وبعض أصحابنا. هذا الأول أيضا.

وفي "المحيط" من كتب الحنفية: يستحب قوله: وجهت وجهي ، قبل التكبير، وقيل: لا يستحب؛ لتطويل القيام مستقبل القبلة من غير [ ص: 21 ] صلاة، وإنما قدم الشافعي الاستفتاح بـ "وجهت وجهي .. "؛ لموافقة ألفاظ القرآن، وإلا فحديث أبي هريرة في الباب أقوى منه.

وأجاب عنه ابن الجوزي بأنه كان في أول الأمر أو في النافلة. قلت: في النسائي من حديث محمد بن مسلمة أنه - عليه السلام - كان إذا قام يصلي تطوعا قاله. لكن في "صحيح أبي حاتم بن حبان": كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قاله .

وقال ابن قدامة: العمل به متروك، فإنا لا نعلم أحدا استفتح بالحديث كله، وإنما يستفتحون بأوله وهو عجيب منه!

قال الشافعي في "الأم" باستحباب جميعه . وممن نقله عنه: ابن الأثير في "شرح المسند"، وأما المزني فروى عنه إلى قوله: والمسلمين . وهو في حق الإمام فقط. ووقع في ابن بطال أن الشافعي قال: أحب للإمام أن تكون له سكتة بين التكبير والقراءة؛ ليقرأ المأموم فيها. ثم قال: وحديث أبي هريرة يرد على العلة التي علل بها الشافعي هذه السكتة؛ لأن أبا هريرة سأل الشارع عنها فقال: "أقول: اللهم باعد .. " إلى آخره، ولو كانت ليقرأ من وراء الإمام فيها لذكر ذلك، فبين أن السكتة لغير ما قاله الشافعي .

[ ص: 22 ] وهذا الذي قاله عن الشافعي غلط من أصله فإن الذي استحبه الشافعي السكتة فيها؛ لأجل قراءة المأموم الفاتحة إنما هو السكتة الثالثة بعد قوله: آمين، فتنبه لذلك، ثم قال ابن بطال: ولو كانت هذه السكتة فيما واظب عليها الشارع لم يخف ذلك، ولنقلها أهل المدينة عيانا وعملا، فيحتمل أنه - عليه السلام - فعلها في وقت ثم تركها، فتركها واسع .

قلت: الحديث ورد بلفظ: كان إذا قام إلى الصلاة، وبلفظ: كان إذا قام يصلي تطوعا. وبلفظ: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قاله. وكان هنا تشعر بكثرة الفعل أو المداومة عليه.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

قوله: (إسكاتة): هو بكسر الهمزة: إفعالة من السكوت.

قال ابن التين: معناه: سكوتا يقتضي كلاما بعده أو قراءة مع قصر المدة. والمراد بالسكوت هنا سكوت عن الجهر لا سكوت مطلق عن القول لا عن الذكر والدعاء بدليل قوله بعده: ما تقول؟ فإنه مشعر بأنه فهم في سكوته قولا.

ثانيها:

(هنية) القليل من الزمان، وأصله: هنة، ثم صغر هنية -كما في رواية الكتاب- ثم أبدلت الياء المشددة هاء في رواية أخرى . وضبطها [ ص: 23 ] القرطبي بالهمز عن رواية الجمهور . وخالف النووي في "شرحه لمسلم" فقال: من همزها فقد أخطأ .

ثالثها:

فيه تفدية الشارع بالأباء والأمهات، وهو إجماع، وهل يجوز تفدية غيره من المؤمنين؟ فيه مذاهب أصحها: نعم بلا كراهة، وثانيها: المنع وذلك خاص به، وثالثها: يجوز تفدية العلماء الصالحين الأخيار دون غيرهم؛ لأنهم هم الوراث المنتفع بهم بخلاف غيرهم . رابعها: المراد بالمباعدة ترك المؤاخذة، وكذا الغسل. والدنس: الوسخ، ولا شك أنه في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان، ولذا وقع التشبيه به.

وقوله: "بالماء والثلج والبرد": فيه استعارة للمبالغة في التنظيف من الذنوب، والمراد: أذاقه لذة غفران ذنوبه. وقد أوضحت الكلام على هذا الحديث في "شرح العمدة" فليراجع منه .

وفي "مسند البزار" الأمر بذلك أخرجه من حديث خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم فليقل: اللهم باعد بيني وبين خطيئتي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك أن تصد عني بوجهك يوم القيامة، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم [ ص: 24 ] أحيني مسلما وأمتني مسلما" ، خبيب ووالده، وثقهما ابن حبان فرد ابن القطان حديثه لجهالتهما غير جيد .

قال الشافعي: قال بعض من خالفنا: استفتح بسبحانك اللهم وبحمدك. وأن أول ما يبدأ بقوله وفعله ما كان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، قال: قد رويت هذا القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث بعض أهل مدينتكم، قلنا له ولبعض من حضره: أحافظ من رويت عنه هذا القول وتحتج بحديثه؟ قال عامة من حضره: لا ليس بحافظ. قال: قلت: فكيف يجوز أن يعارض برواية من لا يحفظ ولا يقبل حديث مثله على الانفراد رواية من يحفظ ويثبت حديثه؟

قال البيهقي في "المعرفة": وإنما أراد أبو عبد الله حديث حارثة عن عائشة . أي: في أبي داود والترمذي والدارقطني.

قال الترمذي: لا نعرفه من حديث عائشة إلا من هذا الوجه.

وأعله أبو داود، وقال الدارقطني: ليس بقوي. وقال البيهقي: غير محفوظ. وأما الحاكم فصححه من طريق أبي داود على شرط الشيخين ثم قال: وله شاهد صحيح الإسناد، فذكر حديث حارثة، قال: وإن لم يكن مالك يرضاه فقد رضيه أقرانه من الأئمة، قال: ولا أحفظ في [ ص: 25 ] قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" أصح من هذين الحديثين.

قلت: الأول من رواية أبي الجوزاء عن عائشة، وبينهما انقطاع كما نبه عليه أبو عمر في "تمهيده" .

[ ص: 26 ] وفي الدارقطني من حديث جابر: كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك.

قال ابن الجوزي وابن قدامة: رجال إسناده كلهم ثقات.

وضعفه البيهقي. وقال أبو زرعة. كذب لا أصل له .

[ ص: 27 ] قلت: ويلي حديث أبي هريرة وعلي في الصحة حديث أنس الثابت في "صحيح مسلم" أن رجلا جاء إلى الصلاة وقد حفزه النفس فقال: الله أكبر الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم المتكلم فإنه لم يقل بأسا لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهما يرفعها" .

وفي الباب عدة أحاديث لا تقاوم بما ذكرناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية