التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
800 [ ص: 276 ] 150 - باب: ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب

835 - حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا: السلام على الله. فإن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" [انظر: 831 - مسلم: 402 - فتح: 2 \ 320]


ذكر فيه حديث ابن مسعود السالف، وقال في آخره: "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو".

وحديث أبي بكر قد أخرجه البخاري كما ترى، وأخرجه في الدعوات والتوحيد .

وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" عن أبي الطاهر فقال: عن ابن عمرو أن أبا بكر .. فجعله من مسند ابن عمرو.

ورواه مسلم عن أبي الطاهر فجعله من مسند أبي بكر ، والله أعلم.

[ ص: 277 ] وصح في الباب أحاديث منها حديث علي: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" أخرجه مسلم .

ومنها حديث أبي هريرة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" أخرجاه .

ومنها حديث ابن عباس: "اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ونعوذ بك من عذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات" أخرجه مسلم .

ومنها حديث عائشة: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل" أخرجه مسلم . ومنها حديث محجن بن الأدرع: "اللهم إني أسألك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم" أخرجه ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين .

[ ص: 278 ] ومنها حديث شداد بن أوس: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأستغفرك لما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم" رواه أحمد والنسائي .

ومنها حديث عمار بن ياسر: "اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".

رواه أحمد من حديث عطاء بن السائب، عن أبيه عنه ، وغير ذلك.

واختلف العلماء في هذا الباب، فقال مالك والشافعي وجماعة:

لا بأس أن يدعو الرجل في صلاته مما شاء من أمر الدين والدنيا.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو في الصلاة إلا بالأدعية المأثورة [ ص: 279 ] أو الموافقة، وهو قول النخعي وطاوس، زاد ابن أبي شيبة: وإبراهيم ومحمد بن سيرين ، واحتجوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمت الرجل في صلاته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وهو من أفراد مسلم .

قالوا: ولا يجوز أن يريد جنس الكلام؛ لأن جميع ما يوجد في الصلاة من الأذكار من نفس الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به في العادة.

وقوله: (يرحمك الله). دعاء، وقد نهى الشارع عنه، وهذا يمنع من فعل الدعاء بهذا الجنس، والجواب: أن هذا وشبهه يعني أن يوجه دعاءه إلى إنسان يخاطبه به في الصلاة، وكأنه جواب: على شيء كان منه، فأما أن يدعو لنفسه ولغيره ابتداء من غير أن يخاطب فيه إنسانا فلا، فصار قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" متوجها إلى هذا.

ومن حجة الأولين: حديث ابن مسعود "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" ولم يخص دعاء من دعاء، ولو كان لا يجوز الدعاء إلا بما قاله المخالف بينه - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يخص عم الجميع، واستعاذة الشارع بما في حديث عائشة وغيره ليس شيء منه في القرآن، وقد روي عن جماعة من السلف مثل ذلك.

روي عن ابن عمر أنه قال: إني لأدعو في صلاتي حتى لشعير حماري وملح بيتي.

[ ص: 280 ] وعن عروة بن الزبير مثله، وكان الشارع يدعو في صلاته على أحياء من العرب ، لا يقال: إن ذلك كان وقت إباحة الكلام في الصلاة ثم نسخ؛ لأنه قد روي عن السلف استعمال الحديث، ولا يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نسخ، وكان علي يقنت في صلاته على قوم يسميهم، وكان أبو الدرداء يدعو لسبعين رجلا في صلاته، وعن ابن الزبير أنه كان يدعو للزبير في صلاته .

وإذا انضاف قول هؤلاء إلى قول ابن عمر وعروة جرى مجرى الإجماع إذ لا مخالف لهم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو في سجوده: "أعوذ برضاك من سخطك .. " إلى آخره .

وروي عن ابن شبرمة أنه قال: يجوز الدعاء في المكتوبة بأمر الآخرة، فأما الدنيا فلا.

وقال ابن عون: أليس في القرآن واسألوا الله من فضله [النساء: 32] فسكت، وقد ترجم البخاري في كتاب الدعاء: باب: الدعاء في الصلاة، وستعلمه إن شاء الله .

وانفرد ابن حزم قال بفرضية التعوذ الذي في حديث عائشة، ولأن مسلما ذكر عن طاوس أنه أمر ابنه بإعادة صلاته التي لم يدع بها فيها .

[ ص: 281 ] وفي الحديث: إثبات عذاب القبر وقد مضى ما فيه.

و (المسيح الدجال): بفتح الميم وتخفيف السين، ويروى بكسر الميم وتشديد السين، أي: لأنه ممسوح العين، أو لتمرده، أو شبه بالدرهم الأطلس الذي لا نقش عليه، والتخفيف من السياحة.

قال خلف بن عامر: لا فرق بينهما، أحدهما عيسى - عليه السلام -، والآخر: الدجال، وقيل: سمي المسيح لمسحه الأرض، وقيل: لأنه ممسوح العين اليمنى أعورها.

قال ابن فارس: المسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب، وبذلك سمي الدجال مسيحا؛ لأنه ممسوح العين .

وأما عيسى - عليه السلام - فقيل: سمي مسيحا لحسنه أو لسياحته، أو لأنه كان يقطع الأرض ويمسحها، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بلا دهن، أو لأنه لا أخمص لرجله وهو ما حفي عن الأرض من باطن الرجل، أو لأن زكريا مسحه، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، أو أنه اسم خصه الله به، أو المسيح: المدبر.

قال أبو عبيد: أصله (بالعبرانية: مشيحا) فعرب ، كما عرب موسى. والدجال قال ابن دريد : سمي بذلك؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، وقيل: لتغطيته الحق بكذبه، وفي "الغريبين": لأنه يقطع الأرض. قال ثعلب: الدجال: المموه، وهذا من معنى الكذب؛ لأنه يموه بتكذيبه ويلبس.

[ ص: 282 ] وقال ابن دحية في "تنويره": قيل: إنه من طلي البعير بالقطران، سمي بذلك؛ لتغطيته نواحي الأرض أو لوطئه جميع البلاد إلا ما استثني، أو لأنه (بمخرق) وعن أبي عمرو أن منهم من قال: إنه بالخاء المعجمة، وهو خطأ.

والمراد بـ"المحيا والممات": الحياة والموت. ويحتمل زمن ذلك؛ لأن ما كان معتل العين من الثلاثي فقد يأتي منه المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد.

ويريد بذلك: محنة الدنيا وما بعدها حالة الاحتضار، وحالة المساءلة في القبر، فكأنه لما استعاذ من فتنة هذين المقامين سأل التثبت فيهما، كما قال تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم: 27] وأما المأثم: فهو: الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة. والمغرم: الذي غرم بكسر الراء: أدان.

وكل هذا منه تعليم لنا لندعو به، وأما هو فقد عوفي من ذلك كله واستعاذ من الغرم؛ لأنه إما أن يكون في مباح ولكن لا وجه عنده لقضائه فهو، متعرض لهلاك مال أخيه، وإما مستدين وله إلى القضاء سبيل، غير أنه يرى ترك القضاء.

ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن جعفر يرفعه: "إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله -عز وجل-". وكان ابن جعفر يقول لخازنه: اذهب فخذ لي بدين فإني أكره أن أبيت الليلة إلا والله معي .

[ ص: 283 ] فإن قلت: كيف استعاذ من الدجال وقد ثبت أن الدجال إذا رأى المسيح - عليه السلام - يذوب، فكيف نبينا؟

قلت: أراد تعليمنا، أو أنه تعوذ منه لأمته، أو أنه معصوم ويظهر الاستعاذة.

وأما قوله: (كثيرا). فهو بالثاء المثلثة، وفي مسلم بالباء الموحدة وينبغي جمعهما كما قاله النووي أو يقول: ذا مرة وذا أخرى .

فإن قلت: المغفرة لا تكون إلا من عند الله، فكيف قال: مغفرة من عندك؟

قلت: المعنى: هب لي الغفران بفضلك وإن لم أكن أهلا له بعملي، وقد أوضحت الكلام على هذا الحديث في "شرحي للعمدة" فراجعه منه تجد نفائس، وكذا على حديث أبي هريرة وهو في معنى حديث عائشة الذي في "العمدة".

ومعنى: "يتخير من الدعاء أعجبه" ما يجوز الدعاء به، كما قال الداودي.

تنبيه: هذا حكم التشهد الأخير، فأما الأول فلا دعاء فيه؛ لثباته على التخفيف، وعن مالك كذلك، وروى عنه ابن نافع: بأس أن (يدعى) بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية