التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
818 856 - حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز قال: سأل [ ص: 334 ] رجل أنسا: ما سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الثوم؟ فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا" أو: "لا يصلين معنا". [5451 - مسلم: 562 - فتح: 2 \ 339]


ذكر فيه أحاديث ثلاثة:

أحدها:

حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر "من أكل من هذه الشجرة -يعني: الثوم- فلا يقربن مسجدنا".

ثانيها: حديث جابر من طريقين:

أحدهما: قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة -يريد الثوم- فلا يغشانا في مساجدنا". قلت: ما يعني به؟ قال: ما أراه يعني إلا نيئه. وقال مخلد بن يزيد، عن ابن جريج: إلا نتنه.

ثانيهما: من حديث ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، زعم عطاء أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا -أو قال: فليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته".

وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، قال: "كل، فإني أناجي من لا تناجي".

قال أحمد بن صالح بعد حديث يونس عن ابن شهاب: نثبت قول يونس.

وقال أحمد بن صالح عن ابن وهب: أتي ببدر. قال ابن وهب يعني طبقا فيه خضرات ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القدر، فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث.

[ ص: 335 ] ثالثها:

حديث عبد العزيز بن صهيب قال: سأل رجل أنسا: ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثوم؟ فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا".

الشرح:

هذه الأحاديث الثلاثة أخرجها مسلم أيضا ولفظه في حديث ابن عمر: "فلا يأتين المساجد" . وفي لفظ له: "من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها" يعني: الثوم ، وأورده ابن بطال في "شرحه" بلفظ: "فلا يغشنا في مسجدنا". قلت: ما يعني به؟ قال: ما أراه يعني إلا نيئه . وهذا لم يرد في حديث ابن عمر، إنما هو في حديث جابر الذي بعده ، ولفظه في حديث جابر الأول من طريق أبي الزبير عنه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة المنتنة فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" .

ولفظه في الثاني لرواية البخاري، وفي رواية له: "من أكل من هذه البقلة، الثوم" وقال مرة: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" وفي أخرى له:

[ ص: 336 ] "من أكل من هذه الشجرة -يريد الثوم- فلا يغشنا في مسجدنا" . ولفظه في حديث أنس كالبخاري وقال: "ولا يصلي معنا" . وفي بعض ألفاظ البخاري: "فلا يقربن مسجدنا" وأخرجه البخاري أيضا في الأطعمة .

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

اعترض ابن التين على تبويب البخاري من وجهين:

أحدهما: ليس فيما أورده من الأحاديث ذكر الجوع.

ثانيهما: لم يذكر في الكراث حديثا، وكأنه قاسه على البقلتين.

والجواب عن الأول أن ما ذكره من الأحاديث إطلاقها يدخل فيه حالة الجوع، وما أوردناه من عند مسلم صريح فيه، فإن الحاجة هي الجوع.

وفي "صحيح مسلم" أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك البقلة -الثوم- والناس جياع، فأكلنا منها أكلا شديدا ثم رحنا إلى المسجد، فوجد - صلى الله عليه وسلم - الريح فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد" فقال الناس: حرمت حرمت. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة [ ص: 337 ] أكره ريحها" وإنما لم يذكره البخاري، وكذا حديث أبي الزبير عن جابر السالف؛ لأنهما ليسا على شرطه.

والجواب عن الثاني أنه لم يقع له على شرطه ذكر الكراث فلذا قاس عليه، وقد علمت أن مسلما أخرجهما من حديث أبي الزبير عنه، ومن غير طريقه أيضا كما سلف، وسيأتي أيضا.

وفي "مسند الحميدي" بإسناد على شرط الصحيح: سئل جابر عن الثوم، فقال: ما كان بأرضنا يومئذ، إنما الذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه البصل والكراث .

ولابن خزيمة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلهما، ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم . وفي "مسند السراج": نهى - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الكراث فلم ينتهوا، ثم لم يجدوا بدا من أكلها، فوجد ريحها، فقال: "ألم أنهكم؟ " الحديث .

ثم تقييد البخاري في تبويبه الثوم بكونه نيئا اعتمادا على ما وقع في تفسيره على إحدى الروايتين المذكورتين.

[ ص: 338 ] الثاني:

لما أخرجه الترمذي من حديث عطاء عن جابر قال: وفي الباب عن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن سمرة وقرة وابن عمر . وقد علمت من أخرجه من طريق ابن عمر وأبي سعيد، وطريق أبي هريرة أخرجه مسلم منفردا به بلفظ: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم" .

وأخرجه ابن ماجه بلفظ: "من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يؤذينا في مسجدنا هذا".

قال إبراهيم بن سعد أحد رواته: وكان أبي يزيد فيه الكراث والبصل .

وطريق عمر أخرجاه بلفظ: ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا .

وفي "علل ابن أبي حاتم": وقيل: سئل عن حديث عمرو بن ميمون عن عمر: كان - صلى الله عليه وسلم - يكره الكراث، فمن أكل منكم فلا يحضر المساجد وتلاوة القرآن، فقال: إنما هو مرسل عن هلال بن يساف عن عمر .

[ ص: 339 ] وحديث أبي أيوب أخرجه الترمذي ، وحديث قرة أخرجه البيهقي بلفظ: "من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا، فإن كنتم لا بد آكليهما فأميتوهما طبخا" .

قلت: وفي الباب أيضا عن حذيفة وأبي ثعلبة الخشني والمغيرة بن شعبة وعلي، أما حديث حذيفة فأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما: "من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا"

وأما حديث أبي ثعلبة فأخرجه الطبراني في "الأوسط"، وفي إسناده بقية، ولفظه: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصبنا بصلا، فأكلوا منه والقوم جياع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة" الحديث ، وحديث المغيرة عند الترمذي ، وحديث علي في "الحلية" لأبي نعيم .

الثالث:

قوله: (وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب). في بعض النسخ ساق حديث سعيد بن عفير عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، زعم عطاء السالف عنه، والصواب تقديمه عليه كما أسلفناه؛ لأن شأن التعليق أن يبين بعض الحديث الذي قبله وهو حديث سعيد بن عفير، وقد أخرجه في كتاب الاعتصام عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب إلى آخره ،

[ ص: 340 ] وأخرج رواية يونس عن ابن شهاب هنا. وفي الأطعمة والاعتصام، ومسلم في الصلاة .

الرابع: في ألفاظه:

قوله: (زعم) السالف ليس على معنى التهمة، لكن لما كان أمرا مختلفا فيه عبر عنه بالزعم، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب فيه، نبه عليه الخطابي وغيره .

والنيئ -بكسر النون ممدود مهموز- ضد المطبوخ، وكذا قوله: (إلا نيئه) و (نتنه) على رواية ابن جريج بفتح النون، أي: الرائحة الكريهة.

قال ابن التين: كذا رويناه بفتحها، وضبط في بعض الكتب المصححة بكسرها، ولا أعلم له وجها.

والثوم بضم الثاء المثلثة، وفي قراءة ابن مسعود: (وثومها) ومعنى: "لا يقربنا": لا يدنو منا، و"مسجدنا" لأبي ذر ولأبي الحسن: "مساجدنا".

وقوله: (بقدر) هو ما اقتصر عليه مسلم. وذكر البخاري بعده رواية: ببدر -بباءين موحدتين- وهو الصواب أي: بطبق، سمي بدرا؛ لاستدارته . و (خضرات) بفتح أوله وكسر ثانيه قال ابن التين: كذا [ ص: 341 ] روايتنا. وضبطه بعضهم على خلاف الأصل بضم الخاء وفتح الضاد قال: وأنكر بعض أهل اللغة فتح الخاء.

والبقول: جمع بقل، وهو كل نبات اخضرت به الأرض، وسماها: شجرة وهو خلاف الأصل، فإنها من البقول، والشجر في كلام العرب ما كان على ساق تحمل أغصانه، وإلا فهو نجم، وتسميتها: خبيثة. في رواية مسلم المراد به: المستكره.

وقوله: (فيه خضرات). الضمير يعود إلى القدر، وقد أنثها بعد قوله: (بما فيها). وهما لغتان، ولو قلنا بالتأنيث فالضمير يعود إلى الطعام الذي فيه، والضمير في: (قربوها) عائد إلى البقول، ويحتمل عوده إلى (خضرات) .

وقوله: ("فإني أناجي من لا تناجي") أي: أسارر من لا تسارر.

وقوله: (في غزاة خيبر). يعني: حين أراد الخروج أو حين قدم، قاله أبو جعفر الداودي، ولا يصح، فإن ظاهر الكلام أنه قاله وهو في الغزاة نفسها.

الخامس: في أحكامه مختصرة، وهي موضحة في "شرح العمدة" .

فيه: إباحة أكل الثوم والبصل ونحوهما، وهو إجماع، وشذ أهل الظاهر فحرموها؛ لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين ،

[ ص: 342 ] وقد أسلفنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها" . بل الأصح أنه يكره في حقه ولا يحرم، وقد أكله جماعة من السلف.

وفيه: احترام الملائكة، ولا دلالة فيه على تفضيلهم على البشر؛ لأنه سوى بينهم وبين بني آدم في الأذى، ولا تختص بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بل المساجد كلها سواء عملا برواية: "مساجدنا" و"المساجد" ، وشذ من خصه بمسجده، فالنهي في مسجده ثابت في الباقي عملا بالعموم.

قال الداودي: ويحمل قوله: "مسجدنا" على "مساجدنا"، ويلحق بما نص عليه في الحديث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، وخصه بالذكر؛ لكثرة أكلهم لها، وقد ورد الفجل أيضا في الطبراني في "أصغر معاجمه" ، ولم يظفر به القاضي عياض ولا النووي بل ألحقاه مما ذكر .

وقال مالك -فيما حكاه ابن التين- الفجل إن كان يؤدي ويظهر فكذلك، وألحق بذلك بعضهم من بفيه بخر أو به جرح له رائحة،

[ ص: 343 ] وكذا القصاب والسماك والمجذوم والأبرص أولى بالإلحاق، وصرح بالمجذوم ابن بطال ، ونقل عن سحنون: لا أرى الجمعة تجب عليه. واحتج بالحديث .

وألحق بالحديث كل من آذى الناس بلسانه في المسجد، وبه أفتى ابن عمر وهو أصل في نفي كل ما يتأذى به، وقاس العلماء على المساجد مجامع الصلاة في غيرها، وكذا مجامع العلم والولائم، وخصها بعضهم بالمحيطة المبنية، ويمتنع الدخول بهذه الروائح المسجد وإن كان خاليا؛ لأنه محل الملائكة، ولا يبعد أن يعذر من كان معذورا بأكل ما له ريح كريهة، وقد صرح به ابن حبان -من أصحابنا- في "صحيحه" . وحكم رحبة المسجد حكمه؛ لأنها منه، وقد سلف أنه كان يخرج به إلى البقيع .

وخص القاضي عياض الكراهة مما إذا كان معهم غيرهم ممن يتأذى، أما إذا أكلوه كلهم فلا، لكن يبقى احترام الملائكة، وليس المراد بالملائكة الحفظة.

وفيه: التعليل بعلتين فصاعدا، والنهي إذا لم يطبخ دون ما إذا طبخت، وقد يستدل به على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك الجماعة. وقد يقال: إن ذلك خرج مخرج الزجر عنها، فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، لكن يبعده تقريبه إلى بعض أصحابه، فإن ذلك ينافي الزجر .

[ ص: 344 ] وفيه: أن الخضر كانت عندهم بالمدينة، وفي إجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن الشارع لم يأخذ منها الزكاة، ولو أخذ منها لم يخف على جميعهم، ولنقل ذلك، وهو قول مالك والشافعي وجماعة، خلافا لأبي حنيفة .

وفيه: اختصاص البر بطائفة حيث خص أهل المسجد دون الأسواق.

وفيه: أن من ترك طعاما لا يحبه أنه لا لوم عليه، كما فعل في الضب .

التالي السابق


الخدمات العلمية