التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
[ ص: 320 ] 10 - باب: العلم قبل القول والعمل

لقول الله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد: 19] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة . وقال جل ذكره: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28] وقال: وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت: 43] وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك: 10] وقال: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرا يفهمه في الدين " و: " إنما العلم بالتعلم ".

وقال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها . وقال ابن عباس: كونوا ربانيين [آل عمران: 79] علماء فقهاء. ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. [فتح: 1 \ 159]


الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه:

وقد سلف التعريف بابن عباس وبأبي ذر، وكرره شيخنا قطب الدين .

[ ص: 321 ] ثانيها:

الخطاب في قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد: 19] للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به غيره، ويجوز كما قال الواحدي : أن يكون المعنى: أقم على ذلك العلم واثبت عليه، ويجوز أن يكون متعلقا بما قبله على معنى: إذا جاءتهم الساعة فاعلم ذلك وأنه لا ملك لأحد إلا له.

وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ بـ: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [محمد: 19]، فأمر بالعمل بعد العلم، وقال تعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة [الأنفال: 28]، ثم قال: فاحذروهم [التغابن: 14]، وقال تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض [يونس: 101]، فالنظر الموصل إلى المعارف واجب وهو أول (الواجبات) ويكفي (فيه) الاعتقاد الجازم وإن لم يعرف الأدلة على المختار.

ثالثها:

قوله: ("وإن العلماء ورثة الأنبياء ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر") هذا حديث مطول أخرجه الترمذي من حديث محمود بن خداش، عن محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن قيس بن كثير عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها [ ص: 322 ] لطالب العلم رضاء، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ".

ثم قال: كذا حدثناه محمود، وإنما يروى عن عاصم، عن داود (ابن) جميل، عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء، وهذا أصح ولا يعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم، وليس إسناده عندي بمتصل.

وأما ابن حبان : فأخرجه في "صحيحه" من حديث عاصم عن داود به، وقال في "ضعفائه": روي: " العلماء ورثة الأنبياء " بأسانيد صالحة. والتزم الحاكم صحته. وحسنه حمزة مع الغرابة. وأما الدارقطني فضعفه.

والحق: أن إسناده مضطرب وقد سقت لك بعضه، ورواه الأوزاعي، عن كثير بن قيس، عن يزيد بن سمرة، عن أبي الدرداء، قال الدارقطني في "علله": وليس بمحفوظ.

[ ص: 323 ] وقال ابن عبد البر : لم يقمه الأوزاعي، وقد خلط فيه. وقال حمزة : رواه الأوزاعي، عن عبد السلام بن سليم، عن يزيد بن سمرة وغيره من أهل العلم عن كثير بن قيس .

قال ابن عبد البر : وعاصم بن رجاء هذا ثقة مشهور، وقال الدارقطني : عاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء، وقال؟ وداود بن جميل مجهول.

وقال البزار : لا يعلم إلا في هذا الحديث. وكذا كثير بن قيس، قال: ولا يعلم روى عن كثير غير داود والوليد بن مرة، ولا يعلم روى عن داود غير عاصم .

وذكر ابن القطان : أنه اضطرب عاصم فيه فرواه عبد الله بن داود، عن عاصم كما سلف، ورواه أبو نعيم، عن عاصم عمن حدثه، عن كثير، ورواه محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم، عن كثير لم يذكر بينهما أحدا، قال: والمتحصل من علة هذا الخبر هو الجهل بحال راويين من رواته، والاضطراب فيه ممن لم تثبت عدالته.

قلت: وقد رواه عن محمد، عن قيس بن كثير كما سلف، وقيل: الوليد بدل داود، وقيل جميل بن قيس، ذكره ابن عبد البر في "بيان العلم" له، ثم قال: والقلب إلى ما قاله محمد بن يزيد، عن عاصم، عن كثير، أميل.

وزعم ابن قانع أن كثير بن قيس صحابي وأنه راوي هذا الحديث [ ص: 324 ] وتبعه ابن الأثير، وهو غريب فتنبه لذلك كله.

وسموا ورثة الأنبياء لقوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [فاطر: 32] وسيأتي قريبا حديث ابن عمر في الرؤيا لأبيه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوله بالعلم.

رابعها:

قوله: " ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" ، قد علمت أن هذا أول الحديث المذكور، لكنه ثابت في "صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة في حديث طويل أوله: "من نفس عن مؤمن كربة.. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له (به) طريقا إلى الجنة".

خامسها:

معنى (يخشى): يخاف، قال ابن عباس : إنما يخاف الله من خلقه من علم جبروته وعزته وسلطانه، وقال مقاتل : أشد الناس لله خشية أعلمهم به. وقال مسروق : كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.

وقال مجاهد والشعبي : العالم من خاف الله، وقال ابن عباس : من خشي الله فهو عالم، ومعنى قوله: وما يعقلها إلا العالمون [ ص: 325 ] [العنكبوت: 43] أي: وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله، وروى جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما تلى هذه الآية قال: "العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه".

ومعنى قوله: لو كنا نسمع أو نعقل [الملك: 10] الآية أي: لو كنا نسمع سمع من يعي أو يفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار، قاله الزجاج .

وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا: "إن لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله فبقدر ما يعقل يعبد ربه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل " الآية.

وروى أنس مرفوعا: "إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم ".

[ ص: 326 ] سادسها:

قوله: "إنما العلم بالتعلم" هذا قد ورد في حديث مرفوع بإسناد منقطع رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" من حديث مكحول، عن معاوية ولم يسمع منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه".

سابعها:

قوله: (وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرا يفهمه في الدين") ، هذا التعليق قد أسنده قريبا من حديث معاوية - رضي الله عنه -.

ثامنها:

قوله: (وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة) إلى آخره روشاه من حديث الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مرثد بن أبي مرثد، عن [ ص: 327 ] أبيه قال: جلست إلى أبي ذر الغفاري إذ وقف عليه رجل فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال أبو ذر: والله لو وضعتم (هذه) الصمصامة على هذه -وأشار إلى حلقه- على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنفذتها قبل أن يكون ذلك .

أنبأنيه شيخنا قطب الدين عبد الكريم الحلبي، حدثني الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي، أنبأنا الحسين الخليلي، أنا ابن كاره، أنا ابن عبد الباقي، عن ابن حيوية، عن ابن معروف، عن الحسين بن فهم، عن محمد بن منيع، عن سليمان، (عن) عبد الرحمن، عن الوليد به.

تاسعها:

الصمصامة -بفتح الصادين المهملتين-: السيف بحد واحد، قال ابن سيده والجوهري وغيرهما: الصمصامة والصمصمام: السيف الصارم [ ص: 328 ] الذي لا ينثني.

ومعنى قوله: (قبل أن تجيزوا علي)، أي: تقطعوا رأسي، أراد - رضي الله عنه - بذلك الحض على العلم والاغتباط بفضله، حيث سهل عليه قتل نفسه في جنب ما يرجو من ثواب نشره وتبليغه.

ويؤخذ منه: أنه يجوز للعالم أن يأخذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشدة ويحتمل الأذى ويحتسبه رجاء ثواب الله، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى كما قال أبو هريرة : لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطع (مني) هذا البلعوم. وعنه: لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر. قال الحسن : صدق. وكأنه أراد والله أعلم عنى به ما يتعلق بالفتن مما لا يتعلق بذكره مصلحة شرعية.

عاشرها:

قوله: (وقال ابن عباس : كونوا ربانيين [آل عمران: 79] علماء فقهاء)، هذا التعليق رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" بإسناد صحيح عن أبي بكر الجيري، (ثنا) أبو محمد [ ص: 329 ] حاجب بن أحمد الطوسي، (ثنا) عبد الرحيم بن منيب، (نا) الفضيل بن عياض، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عنه.

ورواه ابن أبي عاصم في كتاب "العلم" عن المقدمي، (ثنا) أبو داود عن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عنه.

الحادي عشر:

الرباني: المتأله العارف بالله تعالى، قاله الجوهري وغيره، وربيت القوم: سستهم أي: كنت فوقهم. وقال أبو نصر : من الربوبية أي: معرفتها، كما قاله صاحب "العين".

وقال الإسماعيلي : منسوب إلى الرب كأنه الذي يقصد قصد ما أمره الرب، وقال أحمد بن يحيى : إنما قيل للعلماء: الربانيون; لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، وقيل: لأنهم أصحاب العلم وأربابه، وزيدت الألف والنون للمبالغة. وقيل: أصله من رب الشيء إذا ساسه وقام به ثم زيد ياء. وقيل: من معنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلم قبل كباره وهو ما حكاه البخاري، وقال ابن الأعرابي : لا يقال للعالم رباني حتى يكون عاملا معلما.

وفي موضع آخر: هو العالي الدرجة في العلم. وقال مجاهد فيما [ ص: 330 ] حكاه الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه": الربانيون: الفقهاء وهم فوق الأحبار.

وقال أبو عبيد : أحسب الكلمة ليست بعربية وذلك أن أبا عبيدة

زعم أن العرب لا تعرف الربانيين، سمعت رجلا عالما بالكتب يقول: الربانيون: العلماء بالحلال والحرام.

وفي "جامع القزاز" الربي: والجمع الربيون هم: العباد الذين يصحبون الأنبياء ويصبرون معهم، وهم الربانيون، نسبوا إلى عبادة الرب -سبحانه وتعالى-. وقيل: هم العلماء الصبر. وقال القزاز: وأنا أرى أن يكون عربيا.

الثاني عشر:

مقصود البخاري -رحمه الله- فيما ترجمه أن العمل لا يكون إلا مقصودا به معنى متقدما وهو العلم بما يفعله وما يترتب عليه من الثواب، فعند ذلك يخلص فيه ويقصد به الثواب، ومتى خلى العمل عن ذلك فليس بعمل.

التالي السابق


الخدمات العلمية