التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
863 905 - حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا حميد، عن أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة. [940 - فتح: 2 \ 387]


ثم ساق حديث يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم.

وحديث أنس أنه - عليه السلام - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.

وحديثه أيضا: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة.

الشرح:

إنما صدر البخاري رحمه الله بالصحابة الباب; لأنه قد روي عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال من طريق لا يثبت، كما قال ابن بطال: رواه وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي عن عبد الله بن سيدان السلمي، قال: [ ص: 473 ] شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره.

رواه الدارقطني، وأحمد في رواية ابنه عبد الله، وثابت ثقة، كما قاله أبو داود وغيره، وابن سيدان وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في "ثقاته" وابن سعد في جملة الصحابة ، وكذا ابن شاهين وبعده أبو موسى وغيره.

[ ص: 474 ] وأما ابن بطال فقال: عبد الله بن سيدان لا يعرف، والصحيح عن الصحابة ما ذكره البخاري، ونحوه ذكر عن مالك عن عمر في قصة طنفسة عقيل.

قلت: ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن وكيع، عن جعفر بن برقان به.

وقال ابن حزم: روينا عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع الصديق، فذكره، ثم ذكر حديث "الموطأ" السالف. وفيه: ثم يرجع بعد صلاة الجمعة فيقيل قائلة الضحى. قال: وهذا يوجب أن صلاة عمر الجمعة كانت قبل الزوال; لأن ظل الجدار ما دام في المغرب منه شيء فهو قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صار الظل في الجانب الشرقي ولابد.

وطريق علي قد ذكره ابن أبي شيبة عن وكيع عن (أبي العنبس عن عمرو بن مروان) عن أبيه قال: كنا نجمع مع علي إذا زالت الشمس.

[ ص: 475 ] وعن علي بن مسهر، ثنا إسماعيل بن سميع، عن ابن أبي رزين قال: كنا نصلي مع علي الجمعة، فأحيانا نجد فيئا وأحيانا لا نجد، وهو إسناد جيد.

وقال ابن حزم: روينا عن أبي إسحاق: شهدت عليا يصلي الجمعة إذا زالت الشمس.

وقال ابن الأثير: روى زهير، عن أبي إسحاق أنه صلى خلف علي الجمعة، فصلاها بالهاجرة بعدما زالت الشمس، وأنه رآه قائما يصلي.

وطريق النعمان رواه ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن عبيد الله بن موسى، ثنا حسن بن صالح، عن سماك قال: كان النعمان يصلي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس.

والنعمان بن بشير هذا قتل بأرض حمص سنة أربع وستين.

وطريق عمر بن حريث رواه ابن أبي شيبة أيضا بإسناد جيد: حدثنا محمد بن بشر العبدي، ثنا عبد الله بن الوليد، عن الوليد بن العيزار قال: ما رأيت إماما كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، كان يصليها إذا زالت الشمس.

وعمرو هذا والي الكوفة، مات بها سنة خمس وثمانين، كانت أمه [ ص: 476 ] حاملا به يوم بدر، وقال الواقدي: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثنتي عشرة سنة.

وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم أيضا، ولأبي داود: "مهان أنفسهم".

وللبيهقي: "عمال أنفسهم" وللإسماعيلي: كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة، فكان يكون لهم تفل.

ومناسبة الحديث للباب أن في الحديث: فكانوا إذا راحوا إلى الجمعة. والرواح لا يكون إلا بعد الزوال، وقد سلف ما نحن فيه.

"ومهنة أنفسهم" أي: يباشرون خدمة أموالهم، وهي بفتح الميم، وقد تكسر. قال ابن التين: رويناه بفتح الميم والهاء، جمع ماهن، وهو الخادم. وفي رواية أبي ذر: المهنة -بكسر الميم وسكون الهاء- الخدمة. يكون معناه بإسقاط محذوف. أي: ذو خدمة أنفسهم.

وأما حديث أنس الأول فهو من أفراده، وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وفي لفظ: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة إذا زالت الشمس.

[ ص: 477 ] وشيخ البخاري فيه سريج بن النعمان بالسين المهملة. أما بالمعجمة فتابعي، عن علي ليس في "الصحيح".

وأما حديثه الثاني فهو من أفراده أيضا، وعبد الله المذكور في إسناده هو ابن المبارك.

قال الترمذي: وفي الباب عن سلمة بن الأكوع وجابر والزبير بن العوام، وهو الذي أجمع عليه أكثر أهل العلم أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس كوقت الظهر، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. قال: ورأى بعضهم أن صلاة الجمعة إذا صليت قبل الزوال أنها تجوز أيضا. وقال أحمد: ومن صلاها قبل الزوال كأنه لم ير عليه إعادة، وحديث سلمة وجابر أخرجهما ابن أبي شيبة.

ومعنى: (نبكر بالجمعة): أي: نصليها بعد الزوال في أول الوقت، وهو وقت الرواح عند العرب، قاله ابن بطال.

وأغرب ابن التين فقال: يبكر، أي: يعجل بذلك قبل الزوال ما بين الغدو إلى أن تزول الشمس بكرة وغدوة.

وقوله: (نقيل بعد الجمعة) يعني: أنهم كانوا يقيلون بعد الصلاة به، بدلا من القائلة التي امتنعوا منها بسبب تبكيرهم إلى الجمعة.

[ ص: 478 ] ويقيل بفتح أوله; لأنه ثلاثي، قال تعالى: بياتا أو هم قائلون [الأعراف: 4] وقد أجمع العلماء على أن وقت الجمعة بعد زوال الشمس، إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: جائز فعلها في وقت صلاة العيد؛ لأنها صلاة عيد، كذا نقل الإجماع، وحكى هذه الحكاية عن مجاهد ابن بطال في "شرحه" ثم قال: وقال أحمد: يجوز قبل الزوال.

وقد أسلفنا عن الترمذي إجماع أكثر أهل العلم أيضا على أن وقتها بعد الزوال، وكذا قال ابن العربي: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس ولا يجزئه قبل الزوال، إلا ما روي عن أحمد بن حنبل أنه يجوز قبل الزوال.

ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق، ونقله الماوردي عن ابن عباس في السادسة.

قال ابن المنذر: وروي ذلك بإسناد لا يثبت عن أبي بكر وعمر وابن مسعود ومعاوية.

وقال ابن قدامة: المذهب جوازها في وقت صلاة العيد، وقد أسلفنا ذلك في أثناء باب الجمعة في القرى والمدن بزيادة.

[ ص: 479 ] قال ابن حزم: وفرق مالك بين آخر وقت الجمعة وبين آخر وقت الظهر على أنه يوافق أن وقتها هو أول وقت الظهر.

ونقل ابن التين أن آخر وقتها عند ابن القاسم وأشهب ومطرف آخر وقت الظهر ضرورة واختيارا; لأنها بدلا عنها.

وعند ابن الماجشون وأصبغ وابن عبد الحكم: إلى صلاة العصر.

واحتج الإمام أحمد بأحاديث:

أحدها: حديث جابر: كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة ثم نذهب بجمالنا -يعني: النواضح- فنريحها حين تزول الشمس. أخرجه مسلم.

نعم في النسائي: ثم نرجع فنريح نواضحنا. قال محمد بن علي: قلت: أية ساعة؟ قال: زوال الشمس . وأيضا فإنه أخبر أن الصلاة والرواح كانا حين الزوال; لأن الصلاة قبله.

فإن قلت: قوله: (حين تزول الشمس) لا يسع هذه الجملة، فالجواب أن المراد نفس الزوال ما يدانيه.

ثانيها: حديث سلمة بن الأكوع: "كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به" أخرجاه، وفي رواية لهما: وليس للحيطان ظل. وهذه حجة للجماعة في كونها [ ص: 480 ] بعد الزوال; لأنه ليس فيه نفي الظل مطلقا، وإنما هو نفي فيء كثير يستظل به المار، ويوضحه الرواية الأخرى: نتتبع الفيء. فصرح بوجود الفيء، لكنه قليل، ومعلوم أن حيطانهم قصيرة وبلادهم متوسطة من الشمس، فلا يظهر هناك الفيء بحيث يستظل به إلا بعد زمن طويل، وقد جاء في رواية لمسلم: كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء.

ولم يذكر البخاري هذه الزيادة، وهي: إذا زالت الشمس. وهي محل الحاجة.

الثالث: حديث سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجاه وسيأتي.

الرابع: حديث أنس الذي ذكره البخاري آخر الباب، ونستدل له أيضا مما رواه عطاء قال: اجتمع يوم فطر ويوم جمعة على عهد ابن الزبير فجمعهما جميعا، فصلاهما ركعتين بكرة، ثم لم يزد عليهما حتى صلى العصر. رواه أبو داود، وفي رواية: فسئل ابن عباس عن ذلك. فقال: أصاب السنة.

وأسلفنا أثر عبد الله ومعاوية في الباب المشار إليه.

[ ص: 481 ] وفي "الموطأ" عن عمرو بن يحيى، عن ابن أبي سليط، عن عثمان بن عفان: صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل. قال ابن أبي سليط: وكنا نصلي الجمعة مع عثمان وننصرف وما للجدر ظل. قال مالك: وذلك التهجير وسرعة السير.

وقال ابن حزم: بين المدينة وملل اثنان وعشرون ميلا ، ولا يجوز البتة أن تزول الشمس ثم يخطب ويصلي الجمعة، ثم يمشي هذه المسافة قبل اصفرار الشمس، إلا من ركض ركض البريد.

ولأن الجمعة عيد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان" ولقوله: "إن هذا يوم جعله الله عيد المسلمين" فصار كالفطر والأضحى، فيصح في وقتها، ولأنها جهر شابهته.

[ ص: 482 ] واحتج الجمهور بحديث أنس الأول: كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وفي رواية: إذا مالت الشمس.

ورجح بعضهم حديثه هذا على حديثه الآخر بأمرين:

أحدهما: أن هذه الرواية أضافها أنس إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الأخرى.

الثاني: أن قوله: (كنا نبكر) أي: نأتيها بكرة لأجل البدنة وما بعدها، وكان يؤخر القيلولة إلى بعد صلاة الجمعة; لأنه لو قال قبلها لفاتهم فضيلة البدنة، وهذا سبب إخراج البخاري له في هذا الباب.

واحتجوا أيضا بحديث عائشة في الباب، وبحديث سلمة وجابر السالف، وبحديث الزبير بن العوام: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم نبتدر الفيء فما يكون إلا موضع القدم أو القدمين. أودعه الحاكم في "مستدركه" ثم قال: صحيح الإسناد.

وروى ابن أبي شيبة، عن سفيان، عن عمرو، عن يوسف بن ماهك قال: قدم معاذ مكة وهم يجمعون في الحجر، فقال: لا تجمعوا حتى تفيء الكعبة من وجهها.

ورواه الشافعي عن سفيان، وقال: وجهها الباب. يريد معاذ: حتى تزول الشمس.

[ ص: 483 ] وروى هشيم، عن منصور، عن الحسين قال: وقت الجمعة عند الزوال. وعنه عن مغيرة عن إبراهيم قال: وقت الجمعة وقت الظهر. وبالآثار السالفة.

وقال ابن حزم: روينا عن ابن عباس: خرج علينا عمر حين زالت الشمس، فخطب. يعني: للجمعة.

وفي "المصنف" عن المغيرة، قال: وقت الجمعة وقت الظهر. وعن بلال العبسي: أن عمارا صلى بالناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول: زالت الشمس. وبعضهم يقول: لم تزل.

وقال ابن عون: كانوا يصلون الجمعة في عهد عمر بن عبد العزيز والفيء هنيهة.

وعن الحسن: وقت الجمعة عند زوال الشمس.

وعند ابن ماجه عن سعد القرظ قال: كان يؤذن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الفيء مثل الشراك ، وهو المعروف من فعل السلف والخلف قاطبة.

قال الشافعي: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان والأئمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال، وأما حديث جابر وما بعدها فكلها [ ص: 484 ] محمولة على شدة المبالغة في تعجيلها بعد الزوال من غير إبراد ولا غيره.

والإبراد بها ستعلمه بعد هذا إثر الباب.

وأما حديث سهل فلأنهم ندبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فواتها أو فوات التبكير إليها، فكانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى بعد الصلاة، وقد أسلفنا ذلك، ويؤيده فعل عمر في حديث الطنفسة السالف، وأما الأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان فقد أسلفناها.

وادعى النووي الاتفاق على ضعفها قال: لأن ابن سيدان ضعيف عندهم، كذا قال، وقد عرفت حاله. قال: ولو صح لكان متأولا لمخالفة الأحاديث الصحيحة.

وكأنه استند إلى قول ابن المنذر: "الأثر عن أبي بكر وعمر وابن مسعود في جواز صلاة الجمعة قبل الزوال" لا يثبت. وقال ابن بطال: الآثار عن هؤلاء الصحابة لا تثبت. وكذا قال ابن التين.

ثم الجمعة لا تخلو إما أن تكون ظهر اليوم فوقتها لا يختلف، أو بدلا عنها فكذلك; لأن الأبدال لا تتقدم مبدلاتها، كالقصر في السفر لا يخرج الصلاة عن أوقاتها.

وقد أسلفنا أن البخاري إنما صدر الباب بالصحابة; لأنه قد روي عنهم خلافه من طريق لا يثبت، وهو أولى من قول أبي عبد الملك; لأنه لم يجد من الشارع في وقت صلى فيه حديثا; بل هو عجيب، فقد ذكر فيه حديث أنس، وهو صريح فيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية