التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
73 [ ص: 358 ] 15 - باب: الاغتباط في العلم والحكمة

وقال عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا.

73 - حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد - على غير ما حدثناه الزهري - قال: سمعت قيس بن أبي حازم قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها". [1409، 7141، 7316 - مسلم: 816 - فتح: 1 \ 165]


حدثنا الحميدي، نا سفيان، نا إسماعيل بن أبي خالد -على غير ما حدثناه الزهري - قال: سمعت قيس بن أبي حازم قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواته: وقد سلف التعريف بهم أجمع.

ثانيها:

هذا الحديث ترجم عليه البخاري هنا كما ترى، وفي الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، وفي الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، وفي الاعتصام، ما جاء في اجتهاد القضاة، أخرجه في الزكاة عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، وفي البابين عن شهاب بن [ ص: 359 ] عباد، عن إبراهيم بن حميد، وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر، ووكيع، وعن ابن نمير، عن أبيه، وعن محمد بن بشر كلهم عن إسماعيل، عن قيس به.

ثالثها:

أثر عمر رواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن الأحنف، عنه أخرجه البيهقي في "مدخله" عن الروذباري، عن الصفار، عن سعدان بن نصر، ثنا وكيع، عن ابن عون به. وابن عبد البر، عن أحمد بن محمد، ثنا محمد بن عيسى، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عبيد، أنا ابن علية ومعاذ، عن ابن عون به.

ورواه الجوزي عن إسحاق بن الفيض، ثنا بشر بن أبي الأزهر، ثنا خارجة بن مصعب، عن ابن عون به. ورواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن عون به.

(ثالثها) واعلم أن في بعض النسخ بعد قول عمر : (تفقهوا قبل أن تسودوا)، قال أبو عبد الله : وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كبر سنهم.

[ ص: 360 ] ومطابقة هذا الأثر للتبويب أنه جعل السيادة من ثمرات العلم فأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، فإنه إذا كان العلم سببا للسيادة فهو جدير أن يغتبط به صاحبه; لأنه سبب لسيادته.

رابعها:

معنى: (قبل أن تسودوا): تعظموا، يقال: ساد قومه يسودهم سيادة وسؤددا فهو سيدهم، وسوده قومه فهو أسود من فلان، أي: أعظم منه، والمعنى: تعلموا العلم مادمتم صغارا قبل أن تصيروا سادة رؤساء ينظر إليكم، فإن لم تتعلموا قبل ذلك استحييتم أن تتعلموا بعد الكبر فبقيتم جهالا.

قال مالك : من عيب القاضي أنه إذا عزل لم يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه. قال: وكان الرجل إذا قام من مجلس ربيعة إلى خطة أو حكم لم يرجع إليه بعدها. وقال يحيى بن معين : من عاجل الرئاسة فاته علم كثير.

وقال الشافعي : إذا تصدر الحدث فاته علم كثير، وقال أيضا: تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه، وفيه قول ثان: أن معنى قول عمر (لا تأخذوا) عن الأصاغر فيزرى بكم ذلك، ويؤيده حديث عبد الله: "لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم".

[ ص: 361 ] وفيه قول ثالث أن معناه: قبل أن تزوجوا فتصيروا سادة بالحكم على الأزواج، والاشتغال بهن لهوا ثم تمحلا للتفقه، ومنه الاستياد وهو طلب السيد من القوم، حكاه صاحب "مجمع الغرائب" احتمالا وهو متجه، وجزم به البيهقي في "مدخله" ولم يذكر غيره فقال: معناه: قبل أن تتزوجوا فتصيروا أربابا، قاله شمر.

خامسها:

قوله: (على غير ما حدثناه الزهري ) القائل هو: سفيان بن عيينة، يقول سفيان : هو على خلاف حديثي عن الزهري وقد أخرجه البخاري في كتاب التوحيد نبه عليه القاضي عياض .

سادسها:

معنى قوله: (إلا في اثنتين)، أي: خصلتين أو طريقتين، ويجوز في رجل ثلاثة أوجه: البدل، وإضمار أعني، والرفع على تقدير خصلتين إحداهما خصلة رجل.

سابعها:

أصل الحسد: تمني الرجل أن تتحول إليه نعمة الآخر ويسلبها هو، يقال: حسده يحسده ويحسده حسدا، ورجل حاسد من قوم حسد، والأنثى بغير هاء وهم يتحاسدون، وحسده على الشيء وحسده إياه، [ ص: 362 ] وقال ابن الأعرابي : هو مأخوذ من الحسدل وهو القراد فهو يقشر القلب كما يقشر القراد الجلد فيمص الدم.

ومعنى الحسد هنا: شدة الحرص والرغبة من غير تمني زوالها عن صاحبها وهو المنافسة، وأطلق الحسد عليه; لأنهما سببه، وسماه البخاري اغتباطا; لأن من أوتي مثل هذا ينبغي أن يغبط به وينافس فيه، قال تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء: 32].

ثم قال: واسألوا الله من فضله وقد جاء في بعض طرق الحديث ما يبين ذلك فقال فيه: "فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل" ذكره البخاري في فضائل القرآن في باب: اغتباط صاحب القرآن من حديث أبي هريرة، فلم يتمن السلب، وإنما تمنى أن يكون مثله، وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار.

وفيه قول ثان: أنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد وإخراج له عن جملة ما حظر منه، كما رخص في نوع من الكذب، وإن كانت جملته محظورة فالمعنى لا إباحة لشيء من الحسد إلا فيما كان هذا سبيله، أي: لا حسد محمود إلا هذا، وقيل: إنه استثناء منقطع بمعنى لكن في اثنتين.

ثامنها: .

قوله: (على هلكته) أي: (إهلاكه)، أي: إنفاقه في الطاعات كما سيأتي، والحكمة المراد بها القرآن والله أعلم، كما جاء في حديث [ ص: 363 ] أبي هريرة السالف: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه"، وفي رواية "ينفقه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل". وفي مسلم نحوه من حديث ابن عمر .

تاسعها: في أحكامه:

أولها: حرمة الحسد وهو إجماع وهو المذموم، وأما المباح وهو الاغتباط كما سلف فمحمود، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فكرهتها وأحببت زوالها فحرام. قال بعضهم: إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر أو من يستعين بها على فتنة وإفساد.

ثانيها: أن الغني إذا قام بشرط المال وفعل فيه ما يرضي الله كان أفضل من الفقير .

ثالثها: تمني الطاعات .

التالي السابق


الخدمات العلمية