التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
904 [ ص: 36 ] 5 - باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء

وقال الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر الدابة، فقال كذلك الأمر عندنا إذا تخوف الفوت، واحتج الوليد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة".

- باب

946 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال: حدثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعنف واحدا منهم. [4119 - مسلم: 1770 - فتح: 2 \ 436]


ذكر فيه حديث ابن عمر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة.. " الحديث.

كذا في بعض النسخ: ( باب ). وفي شرح شيخنا حذفه.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في المغازي ومسلم أيضا هناك.

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع، ثنا ابن عون، عن رجاء بن حيوة الكندي قال: كان ثابت بن السمط - أو السمط بن ثابت - في مسير في خوف، فحضرت الصلاة فصلوا ركبانا، فنزل الأشتر. فقال: ما له ؟

[ ص: 37 ] قالوا: نزل يصلي. قال: ما له خالف خولف به.

وذكر ابن حبان أن ثابت بن السمط أخو شرحبيل بن السمط، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكونا كانا في ذلك الجيش فنسب إلى كل منهما ; لأنهما كانا رئيسيه.

والسمط بفتح السين وكسر الميم، قيده الجياني. وعن بعضهم بكسر السين وإسكان الميم، وقد ذكر شرحبيل جماعة في الصحابة، وثابتا في التابعين، وشرحبيل هو الذي كان على حمص، وهو الذي افتتحها.

قال أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي صاحب "تاريخ حمص": مات بسلمية سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة أربعين، هاجر إلى المدينة زمن عمر. وقال أبو داود: مات بصفين.

واختلفت الرواية: هل قال: "لا يصلين أحد الظهر" أو"العصر" ؟

ففي البخاري عن شيخه عبد الله بن محمد بن أسماء، عن جويرية: "العصر". ووافقه أبو غسان عن جويرة، أخرجهما الإسماعيلي.

وروى عنه مسلم "الظهر"، وكذا رواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق أبي غسان ( عنه ).

[ ص: 38 ] واختلف على أبي يعلى الموصلي عنه، فرواه عنه الإسماعيلي بلفظ: "العصر" ورواه أبو نعيم في “مستخرجه" على البخاري "الظهر"، ورواه ابن سعد، عن مالك كذلك أيضا.

وذكر ابن إسحاق: لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخندق راجعا إلى المدينة، والمسلمون قد وضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد وضعت السلاح ؟ قال: "نعم". قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

قال ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة عقب الخندق.

والاختلاف في الخندق هل هي سنة خمس أو أربع ؟ فحاصرهم خمس عشرة ليلة، وقيل: خمسا وعشرين ليلة.

وقال ابن عبد البر: بضعا وعشرين ليلة. وذكر ابن حزم: وتتابع المسلمون، ولما كانت صلاة العصر وهم في الطريق ذكروا الصلاة، فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة ؟ فصلت طائفة منهم، وأخرت طائفة منهم العصر فصلوها في بني قريظة بعد العشاء.

وفي الجمع بين روايتي الظهر أو العصر احتمالان:

[ ص: 39 ] أحدهما: أنه كان بعد دخول وقت الظهر، وقد صلاها بالمدينة بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوها: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة. وللذين صلوها بالمدينة: لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة.

الثاني: أنه قيل ذلك للجميع، ويحتمل ثالثا وهو أنه قيل للذين ذهبوا أولا: لا تصلوا الظهر إلا في كذا. وللذين ذهبوا بعدهم: العصر.

إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

صلاة شرحبيل ظاهرها أنها كانت في الوقت، وهو من قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [البقرة: 239] واحتجاج الوليد بحديث بني قريظة لا حجة فيه كما قاله الداودي ; لأنه كان قبل نزول صلاة الخوف، أو لأنه إنما أراد سرعة سفرهم، ولم يجعل لهم في بني قريظة موضعا للصلاة، وقيل: إنما صلى شرحبيل على ظهر الدابة ; لأنه طمع بالفتح للحصن فصلى إيماء ثم فتحه، وجوز ذلك بعض أصحاب مالك، وهو نحو ما سلف عن ابن حبيب، وقاله مالك أيضا والأوزاعي في الأصل.

وقال عطاء والحسن والثوري والشافعي: لا يصلي الطالب إلا بالأرض، ويحتمل أن يكون لما أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بتأخير العصر ترك الفرض، وهو فرض ولم يعنفهم بذلك فشرع للطالب أن يصلي راكبا في الوقت إيماء، قياسا على ترك الوقت.

الثاني:

اختلف العلماء في صلاة الطالب على ظهر الدابة بعد اتفاقهم على [ ص: 40 ] جواز صلاة المطلوب راكبا، فذهبت طائفة إلى أن الطالب لا يصلي على دابته وينزل فيصلي بالأرض، هذا قول عطاء - ومن أسلفناه - وأحمد وأبي ثور.

وقال الشافعي: إلا في حالة واحدة، وهو أن يقطع الطالبون من أصحابهم فيخافوا عودة المطلوبين إليهم، فإذا كان هكذا جاز لهم الإيماء ركبانا.

وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم قال: صلاة الطالب بالأرض أولى من الصلاة على الدواب وفيها قول ثان.

قال ابن حبيب: هو في سعة، وإن كان طالبا لا ينزل فيصلي إيماء ; لأنه مع عدوه لم يصل إلى حقيقة أمن، وقاله مالك، وهو مذهب الأوزاعي وشرحبيل، وذكر المدائني عن الأوزاعي قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال ; لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام الطلب.

ونقل ابن النقيب في "تفسيره" عن أبي حنيفة أن المطلوب يصلي وهو مسايف، والطالب لا يصلي على الدابة.

وعن مالك وجماعة من أصحابه: هما كل واحد منهما يصلي على دابته. وعن الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث كقول أبي حنيفة ; لأن الطلب تطوع والصلاة المكتوبة فرضها أن يصلي الرجل [ ص: 41 ] حيثما أمكن ذلك، وهو قول عطاء ومن سلف، وعن الأوزاعي مرة: إن كان الطالب قرب المطلوب أومأ وإلا فلا. وعن الشافعي ما سلف.

وروى أبو داود في صلاة الطالب حديث عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرفة وعرفات، وقال: "اذهب فاقتله". قال: فرأيته وحضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما أن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي، أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال: من أنت ؟

قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك قال: إني لفي ذلك قال: فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد.


قال ابن بطال: وطلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها لأبين هل كانوا طالبين أم لا ؟ فذكر الفزاري في "السير" عن ابن عون، عن رجاء بن حيوة، عن ثابت بن السمط - أو عكسه - قال: كانوا في سفر في خوف فصلوا ركبانا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال: خالف خولف به. فجرح الأشتر في الفتنة.

فبان بهذا الخبر أنهم كانوا طالبين حين صلوا ركبانا ; لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلي إلا راكبا، إنما اختلفوا في الطالب، [ ص: 42 ] وأما استدلال الوليد بقصة بني قريظة على صلاة الطالب راكبا، فلو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانا لكان ثبتا في الاستدلال، ولم يحتج إلى غيره، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بتأخير العصر إلى بني قريظة.

وقد علم بالوحي أنهم لا يأتونها إلا بعد مغيب الشمس، ووقت العصر فرض، فاستدل أنه كما ساغ للذين صلوا في بني قريظة ترك الوقت وهو فرض، ولم يعنفهم - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك سوغ للطالب أن يصلي في الوقت راكبا بالإيماء، ويكون تركه للركوع والسجود المفترض كترك الذين صلوا في بني قريظة الوقت الذي هو فرض، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المهلب.

قال: والأمر بالصلاة في بني قريظة أراد به إزعاج الناس إليها لما كان خبره جبريل أنه لم يضع السلاح بعد، وأمره ببني قريظة، وقد أسلفنا ذلك.

وقال ابن المنير: أشكل ذلك على ابن بطال ثم لخص كلامه السالف، وقال: والأبين عندي والذي أعلم على غير ذلك. وإنما استدل البخاري بالطائفة التي صلت فظهر له إنما لم تنزل ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالاستعجال إلى بني قريظة، والنزول ينافي مقصود الجد في الوصول، فمنهم من بنى أن النزول للصلاة معصية للأمر بالجد، فتركها إلى أن فات وقتها لوجود المعارضين، ومنهم من جمع بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع في هذا السير، فصلى راكبا، [ ص: 43 ] ولو فرضناها صليت نازلة لكان ذلك مضادة لما أمر به الرسول، وهذا لا يظن بأحد من الصحابة على تقوية أفهامهم وحسن أفئدتهم، وأما صلاة المطلوب فمأخوذ بالقياس على الطالب بطريق أولى.

وقال بعضهم: يحتمل أنه لما بوب ما سلف ثم ذكر قول الوليد أن هذا الأثر هو حكم التبويب، وأن الحديث الذي ساقه بعد ذلك لا تكون الترجمة له مطابقة، ولأجل ذلك فرق بينهما بباب كما سلف ولم يجعل فيه ترجمة، وأن يكون ما ذكره من قول الوليد والأوزاعي هو حكم صلاة الطالب والمطلوب عند البخاري، وأن يكون الحديث الذي أورده في الباب بعده حكم صلاة الطالب والمطلوب إما أن يصلي أو يؤخر، وهو قول بعضهم، أو يكون مراد البخاري لما ذكر استدلال الوليد بالحديث أورد لذلك الحديث سندا ليعلم صحة الحديث عنده، واستدلاله.

الثالث:

استنبط أبو حاتم بن حبان منه معنى حسنا حيث قال: لو كان تأخير المرء للصلاة عن وقتها إلى أن يدخل وقت الأخرى يلزمه بذلك اسم الكفر لما أمر المصطفى بذلك.

الرابع:

قال السهيلي: فيه دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان خطأ في حق غيره، فيكون من اجتهد في مسألة فأداه اجتهاده [ ص: 44 ] إلى الحل مصيبا في حلها، وكذا الحرمة، وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، وإنما عرفهم هذا الأصل على طائفتين:

الظاهرية: لأنهم علقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معا إلا على وجه النسخ.

والمعتزلة: فإنهم علقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه، فصار حسن العقل عندهم أو قبحه صفة عين، فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحسن في حق زيد والقبح في حق عمرو، كما يستحيل ذلك في الألوان والأكوان، وغيرها من الصفات القائمة بالذوات.

وأما ما عدا هاتين الطائفتين فليس الحظر عندهم والإباحة بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام.

ورد هذا الخطابي فقال: فيه حجة لمن يرى تساوي الأدلة ويقول: كل مجتهد مصيب، وليس كما ظنه، وإنما هو ظاهر خطاب خص بنوع من الدليل، ألا تراه قال: بل نصلي، لم يرد منا ذلك ; يريد أن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به من إقامة الصلاة في بني قريظة لا توجب تأخيرها عن وقتها على عموم الأقوال، وإنما هو كأنه قال: صلوا في بني قريظة إلا أن يدرككم وقتها قبل أن تصلوا إليها.

وكذا الطائفة الأخرى في تأخيرهم الصلاة، كأنه قيل لهم: صلوا الصلاة في أول وقتها، إلا أن يكون لهم عذر، فأخروها إلى آخر وقتها، وتخصيص العموم بناء على أصل متقرر، ومن خصه بدليل فإنه لا يخصه عن جملة أصله الموجوب، وفي القول بتساوي الأدلة [ ص: 45 ] تجويز أحكام متضادة.

وقال غيره: اختلاف الصحابة في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها سببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم، فإن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع أن المفهوم من قوله: "لا يصلين أحد - كذا - إلا في بني قريظة": المبادرة بالذهاب إليه، وأن لا يشتغل عنه بشيء ; لأن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث أنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم، ونظر إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا الفوت، وأخر آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته، ولم يعنف الشارع واحدا منهما ; لأنهم مجتهدون، ففيه دليل لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى، ولمن يقول بالظاهر أيضا.

وفيه: أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في الاجتهاد. قال: وقد يستدل به على أن كل مجتهد مصيب وللقائل الآخر أن يقول: لم يصرح بإصابة الطائفتين، بل ترك تعنيفهم، ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد وإن أخطأ إذا بذل وسعه في الاجتهاد.

الخامس: فيه أيضا: كما قال الداودي: إن المتأول إذا لم يتعد في التأويل ليس بمخطئ، وأن السكوت على فعل أمر كالقول بإجازته.

فرع:

في جواز الجمع بالخوف قولان في مذهب مالك، وقال ابن القاسم: لا بأس به، أي: لأن مشقته أكثر من مشقة السفر والمطر.

التالي السابق


الخدمات العلمية