التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
996 [ ص: 300 ] 1043 - حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا شيبان أبو معاوية، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله". [1060، 6199 - مسلم: 915 - فتح: 2 \ 526]


الكسوف: من كسفت حاله، أي: تغيرت، وأصله: التغطية بنقصان الضوء، والأشهر في ألسنة الفقهاء: تخصيص الكسوف بالشمس، والخسوف بالقمر.

وادعى الجوهري أنه أفصح، وقيل: هما فيهما، وبوب له البخاري بابا كما سيأتي، وقيل: الكسوف للقمر والخسوف للشمس، عكس السالف ; وهو مردود، وقيل: الكسوف أوله والخسوف آخره.

وقال الليث بن سعد: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض فيهما. وعن ابن حبيب وغيره: الكسوف أن يكسف ببعضهما، والخسوف أن ينخسف بكلهما، قال تعالى: فخسفنا به وبداره الأرض [القصص: 81] وهو سنة، وأبعد من قال إنها فرض كفاية.

وعن مالك إجراؤها مجرى الجمعة.

ذكر في الباب أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث خالد - هو ابن عبد الله - عن يونس - هو ابن عبيد – عن [ ص: 301 ] الحسن، عن أبي بكرة - واسمه نفيع بن الحارث - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانكسفت الشمس.. الحديث.

ويأتي في الباب مكررا، وفي اللباس أيضا، وترجمة الحسن عن أبي بكرة من أفراد البخاري، وأخرجه النسائي في الصلاة والتفسير.

قال الدارقطني: مرسل، إنما يرويه الأحنف عنه ; ولما أورده الترمذي من طريق طاوس عن ابن عباس مرفوعا أنه حكي في كسوف. .. الحديث.

قال: وفي الباب عن علي، وعائشة، وعبد الله بن عمر، والنعمان ابن بشير ( د. س. ق ) والمغيرة، وأبي مسعود، وأبي بكرة، وسمرة بن جندب، وابن مسعود، وأسماء ابنة أبي بكر، وابن عمر، وقبيصة - يعني: ابن مخارق الهلالي - وجابر بن عبد الله، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي بن كعب.

وقال ابن العربي: روى الكسوف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر رجلا.

[ ص: 302 ] قلت: وهم ما في الترمذي.

وقال المنذري: رواه تسعة عشر نفسا. وذكر الطرقي أنه رواه أبو هريرة، وأنس، وأم سلمة، وسهل بن سعد، وجرهد.

وذكر غيره حذيفة، وسلمة بن الأكوع، وسعد بن أم عبد الرحمن، وحسان بن ثابت.

إذا عرفت ذلك ; فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

قوله: ( فانكسفت الشمس ) كذا هو بالكاف، وقد رواه جماعة من الصحابة بذلك، وآخرون بالخاء، وآخرون بهما، وهما بمعنى واحد، وهو تغيرها ونقصان ضوئها كما سلف.

ومن أنكر ( انكسف )، وأن صوابه ( كسف )، غلط، فالحديث مصرح به في مواضع.

وفي الكسوف فوائد أبداها ابن الجوزي: ظهور التصرف في الشمس والقمر، وتبيين قبح شأن من يعبدهما، وإزعاج القلوب الساكنة للغفلة عن مسكن الذهول، وليرى الناس أنموذج ما سيجري في القيامة من قوله: وخسف القمر وجمع الشمس والقمر [القيامة: 8 - 9] وأنهما يوجدان على حال التمام فيركسان، ثم يلطف بهما فيعادان إلى ما كانا عليه، فيشار بذلك إلى خوف المكر ورجاء العفو، وأن يفعل بهما صورة عقاب لمن لا ذنب له، وأن الصلوات المفروضات عند كثير من الخلق عادة لا انزعاج لهم فيها ولا وجود هيبة، فأتى بهذه الآية، وسنت لها الصلاة ; ليفعلوا صلاة على انزعاج وهيبة.

[ ص: 303 ] ثانيها:

قوله: ( "لا ينكسفان لموت أحد" ) وفي النسائي: "ولكن يخوف الله به عباده". وفي رواية: وثاب الناس إليه، فصلى ركعتين بهم، وفي أخرى: وذلك أن ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مات، يقال له: إبراهيم، وللدارقطني: "ولكن الله تعالى إذا تجلى لبشر من خلقه، خشع له، فإذا كسف واحد منهما فصلوا وادعوا"، وللبيهقي: صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه في كسوف الشمس والقمر.

ثالثها:

قوله: ( فصلى بنا ركعتين ) يستدل به من يقول: إن صلاة كسوف الشمس ركعتان كصلاة النافلة، فإن إطلاقه في الحديث يقتضي ذلك.

وفي رواية في هذا الحديث: كصلاتكم أو مثل صلاتكم.

وكذا قوله: كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة. وفي أخرى: كأحدث صلاة الصبح، وهي ركعتان. وهو ما اقتضاه كلام أصحابنا، أنه لو صلاها كهيئة سنة الظهر ونحوها صحت صلاته للكسوف، وكان [ ص: 304 ] تاركا للأفضل، وصرح به الجرجاني في "تحريره"، وخالف القاضي على ما نقله محكي عنه فمنع.

وقال ابن بطال: سنة صلاة الكسوف أن تصلى ركعتين في جماعة، هذا قول جمهور الفقهاء إلا أن في حديث عائشة وغيرها في كل ركعة ( ركوعان )، وهي زيادة يجب قبولها، منهم مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور على حديث ابن عباس، وعائشة، وابن عمر.

قال: وخالف في ذلك الكوفيون، وقالوا: إنها ركعتان كصلاة الصبح. ولما مر حديث الباب حجة لهم ; لأنه مجمل لا ذكر فيه لصفة الصلاة، وإنما قال فيه: فصلى ركعتين.

وبين غيره مذهب الكوفيين فقال: هو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وهو مذهب عبد الله بن الزبير.

ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس، واستدل لهم بغير ما حديث فيه: فصلى ركعتين.

حديث قبيصة، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم، وحديث [ ص: 305 ] النعمان، وعبد الله بن عمرو.

قال ابن حزم: وأخذ به طائفة من السلف منهم عبد الله بن الزبير.

وذكر ابن عبد البر أنه روي نحو قول العراقيين في صلاة الكسوف من حديث أبي بكرة، وسمرة، وعبد الله بن عمر، وقبيصة، والنعمان، وعبد الرحمن بن سمرة، وقال: الأحاديث في هذا الوجه في بعضها اضطراب، والمصير إلى حديث ابن عباس وعائشة أولى ; لأنهما أصح ما روي في هذا الباب ثم أطال بفوائد.

وأجاب ابن التين بأن يكون سكت عن بيان الركعتين أو فعله مرة، وذكر عن علي أنه فعله بالكوفة، وقال: إنما أول بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض أهل الحديث: إن ذلك كله كان مرات وإنما كان يتحرى التجلي.

[ ص: 306 ] رابعها:

فيه: تطويل صلاة الكسوف إلى الانجلاء ; عملا بقوله: "حتى يكشف ما بكم" فإن ظن قرب الانجلاء فلا يبتدئ بأخرى، وعليهم الدعاء والتضرع إلى الانجلاء.

خامسها:

في قوله أيضا: "حتى يكشف ما بكم" أنه لا ينبغي قطعها حتى تنجلي، كذا استدل به قوم، فيقال لهم: قد جاء في أوله: "فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم". وفي رواية: "فافزعوا إلى ذكر الله، ودعائه واستغفاره" فأمر بالدعاء والاستغفار عندهما، كما أمر بالصلاة، فدل ذلك أنه لم يرد عند الكسوف والصلاة خاصة، ولكن أريد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغيره.

واختلف بعض أصحاب مالك إن تجلت الشمس قبل فراغ الصلاة، فقال أصبغ: يتمها على ما بقي من سنتها حتى يفرغ منها ; ولا ينصرف إلا على شفع. وقال سحنون: يصلي ركعة واحدة وسجدتين ثم ينصرف، ويصلي باقي الصلاة على سنة الخسوف.

سادسها:

في قوله: "فقام يجر رداءه" ما كان عليه من خوف الله تعالى والبدار إلى طاعته، ألا ترى أنه قام إلى الصلاة فزعا، وجر رداءه شغلا بما نزل.

وهذا يدل أن جر الثوب لا يذم إلا ممن قصد ذلك واعتمده.

[ ص: 307 ] وفيه: إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقادهم أن الشمس تكسف لموت الرجل من عظمائهم، فأعلمهم أنها لا تنكسف لموت أحد ولا لحياته، وإنما هو تخويف وتحذير.

وفيه: رد على من زعم أن النجوم تسقط عند موت أحد، وأنه توجب تغيرات في العالم. وفيه: أن من تأول شيئا يرى أنه صواب وأخطأ ولم يخرج إلى بدعة ليس بآثم.

وفيه: أنه لا ينبغي السكوت عن الخطأ.

وفي قوله: "فإذا رأيتموهما فصلوا" دلالة أن تجمع في صلاة خسوف الشمس كما تجمع في القمر، وروي ذلك عن ابن عباس، وعثمان بن عفان، والليث، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال النخعي، وعطاء، والحسن، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأهل الحديث عملا بهذا الحديث. وقالوا: قد عرفنا كيف الصلاة في أحدهما، فكان ذلك دليلا على الصلاة عند الأخرى.

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن ليس في خسوف القمر جماعة، وإنما يصلونها في البيوت فرادى غير مجتمعين.

واستدلوا بأنه لم يجتمع فيه كما في الشمس، وقد قال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وحملوا قوله: "فافزعوا إلى الصلاة" أي: جماعة في الكسوف، وفرادى في الخسوف. قال مالك:

[ ص: 308 ] لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع لكسوف القمر، ولا نقل عن أحد من الأئمة بعده - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع فيه. قال المهلب: ويمكن أن يكون تركه - والله أعلم - رحمة للمؤمنين ; لئلا تخلو بيوتهم بالليل فيحطمهم الناس ويسرقونهم. يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة - ليلة نزول التوبة على كعب بن مالك وصاحبيه - قالت لهم: ألا أبشر الناس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخشى أن يحطمكم الناس" ; وفي حديث آخر: "أخشى أن يمنع الناس نومهم". وقد قال تعالى: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه جعل السكون في الليل من النعم التي عددها على عباده، وقد سمي ذلك رحمة.

وقد أشار ابن القصار إلى نحو هذا المعنى، وقال: خسوف القمر يتفق ليلا فيشق الاجتماع له، وربما أدرك الناس نياما، فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغي أن يقاس على كسوف الشمس ; لأنه يدرك الناس مستيقظين متصرفين ولا يضر اجتماعهم كالعيدين والجمعة والاستسقاء.

قلت: وصلى ابن عباس بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين، ثم قال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي. رواه الشافعي في “مسنده"، وذكره ابن التين بلفظ: أنه صلى في خسوف القمر، ثم خطب وقال: يا أيها الناس، إني لم أبتدع هذه الصلاة بدعة، وإنما [ ص: 309 ] فعلت كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل. وقد علمنا أنه صلاها في جماعة لقوله: ( خطب ) لأن الفرد لا يخطب.

وروى الدارقطني، عن عروة، عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات، وأربع سجدات، ويقرأ في الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بياسين فيه إسحاق بن راشد، وهو من رجال البخاري والأربعة صدوق. وروى الدارقطني أيضا من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف القمر والشمس ثماني ركعات في أربع سجدات، وروى ابن عبد البر من حديث أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انكسفت الشمس أو القمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها مكتوبة". وقوله هنا: "فإذا رأيتموهما فصلوا" يعني: آية الشمس والقمر، وفي رواية: "فإذا رأيتموها" يعني: الآية.

الحديث الثاني:

حدثنا شهاب بن عباد، ثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس سمعت أبا مسعود يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا، ويأتي في بدء الخلق.

[ ص: 310 ] و ( أبو مسعود ): هو عقبة بن عمرو.

و ( قيس ) هو ابن أبي حازم تابعي، و ( إسماعيل ) هو ابن أبي خالد.

و ( إبراهيم ) ثقة مات سنة ثمان وسبعين ومائة.

وشيخ البخاري ( شهاب بن عباد ) ثقة، أخرج له مسلم أيضا، مات سنة أربع وعشرين ومائتين. ولهم شهاب بن عباد آخر، روى له البخاري في "الأدب" خارج "الصحيح".

و ( الآية ): العلامة، ويحتمل هنا أن المراد: من آياته التي يستدل بها على الوحدانية، والعظمة، والقدرة، أو أنهما من علامات تخويفه وتحذيره وسطوته، قال تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [الإسراء: 59].

الحديث الثالث:

حديث ابن عمر مرفوعا: "إن الشمس والقمر لا يخسفان.. " الحديث. ويأتي في بدء الخلق، وأخرجه مسلم أيضا.

[ ص: 311 ] الحديث الرابع:

حديث المغيرة قال: كسفت الشمس. .. الحديث وأخرجه مسلم والنسائي أيضا، ويأتي قريبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية