التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4 [ ص: 233 ] 3 - باب

3 - حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ. قال "ما أنا بقارئ". قال "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ. قلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم . فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر "لقد خشيت على نفسي". فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة -وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أومخرجي هم". قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحى. [3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982 - مسلم 160 - فتح 22 \ 1]
[ ص: 234 ] الحديث الثالث:

قال البخاري رحمه الله:

نا يحيى بن بكير، نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ. فقلت: "ما أنا بقارئ". قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم . فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر "لقد خشيت على نفسي". فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي -فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله [ ص: 235 ] - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى.

يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أومخرجي هم". قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.


الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث من مراسيل الصحابة كما نبهنا عليه في الفصول السابقة أول الشرح. فإن عائشة لم تدرك هذه (القصة) فروتها إما سماعا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي آخر.

ثانيها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير والتعبير، عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق ، عن معمر، وفي: التفسير، عن سعيد بن مروان، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن أبي صالح سلمويه، عن ابن المبارك، عن يونس، وفي الإيمان عن ابن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، وعن عبد الملك، عن أبيه، عن جده، عن عقيل، وعن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن يونس كلهم عن الزهري.

[ ص: 236 ] وأخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي، والنسائي في التفسير.

ثالثها: في التعريف برواته:

أما عائشة وعروة فسلفا في الحديث قبله، وأما ابن شهاب فهو: الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري المدني، سكن الشام وهو تابعي صغير، سمع أنسا وربيعة بن عباد وخلقا من الصحابة، وسعيد بن المسيب وعطاء وخلقا من كبار التابعين، ورأى ابن عمر، وروى عنه، ويقال: (سمع منه حديثين)، وعنه جماعات من كبار التابعين منهم: عطاء وعمر بن عبد العزيز، ومن صغارهم ومن الأتباع أيضا، صح عنه أنه قال: ما استودعت حفظي شيئا فخانني. وصح عنه أنه أخذ القرآن في ثمانين ليلة، وجمع علم التابعين، واتفقوا على جلالته وبراعته وإمامته وحفظه وإتقانه.

قال الشافعي: لولا الزهري ذهبت السنن من المدينة. مات بالشام وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها: (شغب وبدا) في [ ص: 237 ] رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، ابن اثنتين وسبعين سنة.

وأما الراوي عنه فهو أبو خالد، عقيل -بضم العين كما سلف في الفصول السابقة أول الكتاب- ابن خالد بن عقيل -بفتح العين- الأيلي -بالمثناة تحت- (القرشي) الأموي مولى عثمان بن عفان، الحافظ، روى عن عكرمة والقاسم وسالم والزهري وخلق، وعنه الليث وضمام بن إسماعيل.

قال يحيى بن معين: أثبت من روى عن الزهري مالك ثم معمر ثم عقيل. وقيل: عقيل أثبت من معمر، مات سنة إحدى وأربعين ومائة، وقيل: سنة أربع بمصر فجأة، وليس في الكتب الستة من اسمه عقيل بضم العين غيره.

وأما الراوي عنه فهو الإمام أبو الحارث، الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم المصري، عالم أهل مصر من تابعي التابعين، مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي، وقيل: مولى خالد بن ثابت، وفهم بن قيس غيلان، ولد بقرقشندة -على نحو أربع فراسخ من بلدنا مصر- سنة ثلاث أو أربع وتسعين، سمع عطاء وابن [ ص: 238 ] أبي مليكة وخلقا. وعنه قتيبة ومحمد بن رمح وعيسى زغبة، وخلائق من التابعين وغيرهم، ومنهم: محمد بن عجلان، وهو من كبار التابعين، ومن شيوخه.

وإمامته وبراعته وجلالته وحفظه وإتقانه وجوده وإفضاله وورعه وعبادته مجمع عليه، وغير ذلك من المحاسن والمكارم، ووصفه الشافعي بكثرة الفقه، إلا أنه ضيعه أصحابه -يعني: لم يعتنوا بكتبه ونقلها والتعليق عنه- ففات الناس معظم علمه، وكان دخله في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط، ولما قدم المدينة أهدى له مالك من طرفها، فبعث إليه ألف دينار.

قال يحيى بن بكير: كان الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك، ورأيت من رأيت فما رأيت مثل الليث، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن، ويحفظ الحديث والنحو والشعر، حسن المذاكرة، ومازال يعقد خصالا جميلة حتى عقد عشرة.

وقال ابن وهب: ما كان في كتب مالك: (أخبرني من أرضى من أهل العلم) فهو الليث.

وقال أيضا: لولا أن الله أنقذني به وبمالك لضللت.

وقال أحمد: كان كثير العلم، صحيح الحديث، ما في هؤلاء المصريين أثبت منه، ما أصح حديثه! وقال أحمد بن صالح: الليث إمام أوجب الله تعالى علينا حقه.

[ ص: 239 ] وقال شرحبيل بن جميل: أدركت الناس أيام هشام، وكان الليث بن سعد حديث السن، وهم يعرفون له فضله وورعه مع حداثة سنه. وقال ابن سعد: استقل بالفتوى في زمانه بمصر، وكان سريا نبيلا سخيا ومناقبه جمة.

قال الشافعي: ماندمت على أحد ما ندمت على الليث.

مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وقبره عندنا بمصر يزار، وعليه من الجلالة والبهاء ما هو لائق به، وليس في الكتب [ ص: 240 ] الستة من اسمه الليث بن سعد سواه، نعم في الرواة ثلاثة غيره: أحدهم: بصري وكنيته أبو الحارث أيضا، وهو ابن أخي سعيد بن الحكم.

ثانيهم: يروي عن ابن وهب. ذكرهما ابن يونس في "تاريخ مصر".

وثالثهم: تنيسي حدث عن بكر بن سهل نبه على ذلك الخطيب.

وأما الراوي عنه فهو أبو زكريا، يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه البخاري إلى جده، القرشي المخزومي مولاهم، المصري الحافظ [ ص: 241 ] المفتي، الثقة الواسع العلم، روى عن مالك، والليث، وابن الماجشون، وغيرهم، وعنه: البخاري، ويحيى بن معين، والذهلي، وأبو زرعة، وخلائق، وهو راوي "الموطأ" عن مالك، وقد تكلم أهل الحديث في سماعه منه كما نبه عليه الباجي، ولد سنة أربع وقيل: خمس وخمسين ومائة، ومات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، واعلم أن البخاري روى عن يحيى هذا في مواضع، وروى عن محمد بن عبد الله -هو الذهلي- عنه، قاله أبو نصر الكلاباذي. قال المقدسي: نسبه إلى جده يدلسه، وتارة يقول: ثنا محمد ولا يزيد عليه، وتارة: محمد بن عبد الله، وإنما هو محمد بن عبد الله (بن خالد بن فارس) [ ص: 242 ] ابن ذؤيب الذهلي، وتارة ينسبه إلى جده فيقول: محمد بن عبد الله، وتارة محمد بن خالد بن فارس فتنبه لذلك.

وروى مسلم عن أبي زرعة عنه -أعني: عن ابن بكير- حديثا، وروى ابن ماجه عن رجل عنه.

[ ص: 243 ] قال أبو حاتم: كان يفهم هذا الشأن ولا يحتج به، يكتب حديثه.

وقال النسائي: ليس بثقة. ووثقه غيرهما، وقال الدارقطني: عندي ما به بأس. وأخرج له مسلم عن الليث، وعن يعقوب بن عبد الرحمن، والمغيرة، ولم يخرج له عن مالك شيئا; ولعله -والله أعلم- للعلة السالفة عن الباجي قال -أعني الباجي-: وكان ثبتا في الليث، وكان جاره، وكان عنده ما ليس عند غيره، ووثقه الخليلي أيضا في "إرشاده".

فائدة: هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى هذا، فعلى شرط البخاري ومسلم وابن ماجه، وكلهم ما بين مصري ومدني كما عرفته، [ ص: 244 ] وفيه أيضا من طرف الإسناد رواية تابعي عن تابعي وهما: الزهري عن عروة.

الوجه الثالث: في الكلام على مفرداته وفوائده:

الأول: قولها: (من الوحي) في (من) هنا قولان:

أحدهما: أنها لبيان الجنس.

وثانيهما: للتبعيض، قال القزاز بالأول، كأنها قالت: من جنس الوحي، وليست الرؤيا من الوحي حتى تكون (من) للتبعيض، ورده القاضي، وقال: بل يجوز أن تكون للتبعيض، لأنها من [ ص: 245 ] الوحي، كما جاء في الحديث أنها جزء من النبوة. والوحي: الإعلام كما سلف، فرؤيا المنام إعلام وإنذار وبشارة، ورؤيا الأنبياء حق وصدق.

الثاني: جاء هنا: (الرؤيا الصالحة)، وفي "صحيح مسلم": (الصادقة)، وكذا رواه البخاري في كتاب التعبير أيضا، وساقه شيخنا في "شرحه" هنا بلفظ: (الصادقة) وهما بمعنى، وكأن ما وقع في "شرح شيخنا" من طغيان القلم، فإنه بعد أن ساقه قال: جاء هنا: (الصالحة) وفي مسلم: (الصادقة) وقد زدنا عليه أن البخاري ساقه في التعبير كما ساقه مسلم، ورأيته أيضا في تفسير سورة: اقرأ ، [العلق: 1] وذكر ابن المرابط أن رواية معمر ويونس: (الصادقة).

[ ص: 246 ] قال المهلب : الرؤيا الصالحة هي تباشير النبوة; لأنه لم يقع فيها ضغث، قال: وهي التي لم يسلط عليه فيها ضغث ولا تلبيس شيطان (فيتساوى) مع الناس في ذلك بل خص - صلى الله عليه وسلم - بصدقها كلها، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ: إني أرى في المنام أني أذبحك [الصافات: 102]، وكان - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه دون قلبه، فكان صدق الرؤيا في النوم في ابتداء النبوة مع رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام [ ص: 247 ] الحجر والشجر عليه بالنبوة، ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك في اليقظة، وكشف له عن الحقيقة كرامة له منه، صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي وغيره: وإنما ابتدئ - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة فلا تحتملها قوى البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا مع سماع الصوت وغيره.

الثالث: الرؤيا: قال أهل اللغة: يقال: رأى في منامه رؤيا، بلا تنوين على وزن فعلى كحبلى، وجمعها: رؤى بالتنوين على وزن رعى، قاله الجوهري وغيره.

[ ص: 248 ] الرابع: في هذا تصريح من عائشة رضي الله عنها بأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة أقسام الوحي، وهو محل وفاق.

الخامس: قولها: (مثل فلق الصبح): مثل: منصوب على الحال أي: جاءت الرؤيا مشبهة فلق الصبح أي: ضياءه إذا انفلق وانماز عن ظلام الليل، وذلك حتى يتضح فلا يشك فيه. قال أهل اللغة والغريب: فلق الصبح وفرقه -بفتح أولهما وثانيهما- ضياؤه. أي: إنارته وإضاءته وصحته، وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين، يقال: هو أبين من فلق الصبح، وقال ابن عباس في قوله تعالى: فالق الإصباح [الأنعام: 96]: ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، حكاه البخاري في كتاب التعبير عنه وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره; لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا، إلى أن تم برهانها وظهرت أشعتها.

السادس: قولها: (ثم حبب إليه الخلاء) هو بالمد أي: الخلوة، وهو شأن الصالحين، والحب: الميل. قال الخطابي : إنما حبب إليه الخلوة; لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على الفكر، والبشر [ ص: 249 ] لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر، فينسى المألوفات من عادته، فيجد الوحي منه مرادا سهلا لا حزنا وعرا، ولمثل هذا المعنى كانت مطالبة الملك له بالقراءة وضغطه.

وقال ابن المرابط: تحبيبها له قيل: إنه من وحي الإلهام (فكان) يخلو بغار حراء اعتبارا وفكرة، كاعتبار إبراهيم لمناجاة ربه، والضراعة إليه، ليريه السبيل إلى عبادته على صحة إرادته.

السابع: الغار: النقب في الجبل، وهو قريب من معنى الكهف، وجمعه: غيران، وتصغيره غوير، والمغار والمغارة بمعنى الغار.

الثامن: حراء: بكسر المهملة وتخفيف الراء والمد، وهو مصروف على الصحيح، ومنهم من منع صرفه، مذكر على الصحيح أيضا، ومنهم من أنثه، ومنهم من قصره أيضا فهذه ست لغات.

قال القاضي عياض: يمد ويقصر، ويذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، والتذكير أكثر، فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه، يعني: على إرادة البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، وضبطه الأصيلي بفتح الحاء والقصر وهو غريب، وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى منى.

[ ص: 250 ] فائدة:

(حراء) هو الذي نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له ثبير: اهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب-: إلي يا رسول الله.

فلعل هذا هو السر في تخصيصه التحنث به من بين سائر الجبال، وقال سيدي (أبو عبد الله) ابن أبي جمرة : لأنه يرى بيت ربه منه، وهو عبادة، وكان منزويا مجموعا لتحنثه.

فائدة ثانية:

ذكر الكلبي أن حراء وثبيرا سميا بابني عم من عاد الأولى.

[ ص: 251 ] التاسع: قولها: (وكان يخلو بغار حراء). هذا هو الذي نعرفه (هنا) في البخاري، وأبدل بعض شيوخنا لفظة: (يخلو) بـ (يجاور) ثم تكلم على مادة جاور وشرع ينقل الفرق بينه وبين الاعتكاف، بأن المجاورة قد تكون خارج المسجد بخلاف الاعتكاف ولا حاجة إلى ذلك كله فتنبه له، نعم لفظ الجوار ورد في حديث جابر الآتي في كتاب: التفسير، كما ستعلمه، وفي "صحيح مسلم" فيه: "جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي" الحديث.

العاشر: قولها: (فيتحنث فيه). هو بحاء مهملة ثم نون ثم مثلثة، وقد فسر في الحديث بأنه التعبد، وهو صحيح، وأصله اجتناب الحنث -وهو: الإثم- وكأن المتعبد يلقي بعبادته عن نفسه الإثم، وقال ابن هشام: التحنث: التحنف يبدلون الفاء من الثاء يريدون الحنيفية، وقال أبو(أحمد) العسكري: رواه بعضهم: يتحنف -بالفاء- ثم نقل عن بعض أهل العلم أنه قال: سألت أبا عمرو الشيباني عن ذلك فقال: لا أعرف (يتحنث) إنما هو (يتحنف) من الحنيفية أي: يتتبع دين الحنيفية، [ ص: 252 ] وهو دين إبراهيم عليه السلام. وقال المازري وغيره: يتحنث: يفعل فعلا يخرج به من الحنث، والحنث: الذنب كما أسلفناه ومثله: تحرج، وتأثم، وتحوب، إذا ألقى ذلك عن نفسه، وفعل فعلا يخرج به (عن) الحرج والإثم والحوب، ومنه قوله: فأخبر بها معاذ عند موته تأثما، ومنهم من ألحق بها (تهجد) إذا خرج من الهجود -وهو النوم- بالصلاة، كما يقال: تحنث إذا احتنثه وتنجس إذا فعل به فعلا يخرج به من النجاسة.

وهذه الأفعال التي ذكرت جاءت مخالفة لسائر الأفعال; لأن غيرها من الأفعال إنما يكون بفعل فيه بمعنى: تكسب، لا بمعنى ألقى، وكذا قال السهيلي: التحنث: التبرر، تفعل من البر، وتفعل يقتضي الدخول في الشيء وهو الأكثر فيها مثل: تفقه وتعبد وتنسك، وقد جاءت ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء وإطراحه، كالتأثم والتحرج والتحنث بالثاء المثلثة; لأنه من الحنث، والحنث: الحمل الثقيل وكذلك التقذر إنما هو تباعد عن القذر، وأما التحنف بالفاء فهو من باب التبرر; لأنه من الحنيفية دين إبراهيم، وإن كانت الفاء مبدلة من الثاء فهو من باب التقذر والتأثم، وهو قول ابن هشام، كما سلف.

وقال أبو المعالي في "المنتهى": تحنث: تعبد مثل: تحنف، [ ص: 253 ] وفلان يتحنث من كذا بمعنى: يتأثم فيه، وهذا أحد ما جاء تفعل إذا تحنث تجنب الحنف والجور، وتحوب: تجنب الحوب، وقال الثعالبي : فلان يتهجد: إذا كان يخرج من الهجود، وتنجس إذا فعل فعلا يخرج به عن النجاسة.

قلت: والحاصل من ذلك ثمانية ألفاظ: تحنث، وتأثم، وتحرج، وتحوب، وتهجد، وتنجس، وتقذر، وتحنف.

الحادي عشر: قولها: (وهو التعبد). يحتمل أن يكون من تفسير عائشة وأن يكون من تفسير من دونها.

[ ص: 254 ] الثاني عشر: قولها: (الليالي ذوات العدد). هو متعلق بيتحنث أي: يتحنث الليالي لا بالتعبد; لأنه يفسد المعنى حينئذ: فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على القليل والكثير، والليالي منصوب على الظرف، (وذوات) : بكسر التاء فيه علامة (على) النصب.

الثالث عشر: عبادته -عليه السلام- قبل البعثة هل كانت بشريعة أحد أم لا؟ فيه قولان لأهل العلم وعزي الثاني إلى الجمهور، وإنما كان يتعبد بما يلقى إليه من نور المعرفة. واختار ابن الحاجب والبيضاوي أنه كلف التعبد بشرع.

واختلف القائلون بالثاني: هل ينتفي ذلك عنه عقلا أم نقلا فقيل بالأول; لأن في ذلك تنفيرا عنه ومن كان تابعا فبعيد منه أن يكون [ ص: 255 ] متبوعا وهذا خطأ كما قال المازري فالعقل لا يحيل ذلك، وقال حذاق أهل السنة بالثاني; لأنه لو فعل لنقل; لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولافتخر به أهل تلك الشريعة.

والقائل بالأول اختلف فيه على ثمانية أقوال:

أحدها: أنه كان يتعبد بشريعة إبراهيم.

ثانيها: بشريعة موسى.

ثالثها: بشريعة عيسى.

رابعها: بشريعة نوح حكاه الآمدي.

خامسها: بشريعة آدم كما نقل عن حكاية ابن برهان.

سادسها: أنه كان يتعبد بشريعة من قبله من غير تعيين.

[ ص: 256 ] سابعها: أن جميع الشرائع شرع له. حكاه بعض شراح "المحصول" عن المالكية.

ثامنها: الوقف في ذلك وهو مذهب أبي المعالي الإمام، واختاره الآمدي.

وقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [النحل: 123]، المراد: في توحيد الله تعالى وصفاته، (أو) المراد اتباعه في المناسك، كما علم جبريل إبراهيم، ولا خلاف بين أهل التحقيق كما قال القاضي عياض أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته وسائر الأنبياء منشرحو الصدر بالتوحيد والإيمان، فإنهم لا يليق بهم الشك في شيء من ذلك ولا الجهل به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك.

فإن قلت: ما كان صفة تعبده؟ قلت: لم أر فيه نقلا بخصوصه، وسمعت بعض مشيختنا يقول: سمعت الشيخ أبا الصبر أيوب السعودي يقول: سألت سيدي أبا السعود: بم كان - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في حراء؟ فقال: بالتفكر. وقد أسلفنا هذا في الوجه السادس أيضا.

فرع:

اختلف الأصوليون: هل كلف بعد النبوة بشرع أحد من الأنبياء؟ والأكثرون على المنع، واختاره الإمام والآمدي وغيرهما.

وقيل: بل كان مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم ويعبر عنه بأن شرع [ ص: 257 ] من قبلنا شرع لنا، واختاره ابن الحاجب، وللشافعي في المسألة قولان، أصحهما الأول، واختاره الجمهور.

الرابع عشر: قولها: (قبل أن ينزع إلى أهله). هو بكسر الزاي أي: يرجع، وقد رواه مسلم كذلك فقال: نزع إلى أهله إذا حن إليهم فرجع إليهم، ونزعوا إليه: حنوا إليه، وهل نزعك غيره؟ أي: هل جاء بك وجذبك سواه؟! وناقة نازع: إذا حنت إلى أوطانها ومرعاها، ونزع بالفتح ينزع بكسر ثالثه قال صاحب "الأفعال": والأصل في فعل يفعل إذا كان صحيحا وكانت عينه ولامه حرف حلق أن يكون مضارعه مفتوحا إلا أفعالا يسيرة جاءت بالفتح والضم مثل: جنح يجنح، ودبغ يدبغ، وإلا ما جاء من قولهم نزع ينزع بالفتح والكسر، وهنأ يهنئ.

وقال غيره: (هنأني) الطعام، يهنؤني ويهنئني بالفتح والكسر.

الخامس عشر: قولها: (ثم يتزود لذلك). قال أهل اللغة: الزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر، ويقال: زودته فتزود.

[ ص: 258 ] السادس عشر: فيه مشروعية اتخاذ الزاد ولا ينافي التوكل، فقد اتخذه سيد المتوكلين.

السابع عشر: قولها: (ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها) الضمير في مثلها يعود إلى الليالي، وخديجة ذكر البخاري في المناقب قطعة من مناقبها، وسيأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله الوصول إليه.

وهي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي أم أولاده كلهم، خلا إبراهيم فمن مارية، ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقيل: بخمس وقيل: بأربع فأقامت معه أربعا وعشرين سنة وأشهرا، ثم توفيت، وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام. وروى البخاري في مناقب خديجة عن عروة، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة بثلاث سنين، وفيه أيضا في باب: مناقب عائشة، عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - لبث بعد موت خديجة سنتين أو قريبا منها فنكح عائشة، واسم أم خديجة: فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي، وخديجة أول من آمن من النساء باتفاق، بل [ ص: 259 ] أول من آمن مطلقا على قول.

وفي "الصحيح" من حديث علي مرفوعا: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة"، وفي البخاري في حديث عن جبريل أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذه خديجة، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربي، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب". ووقع في كتاب الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن زيد قال آدم -عليه السلام-: مما فضل الله به ابني علي أن زوجه كانت عونا له على تبليغ أمر الله، وأن زوجي كانت عونا لي على المعصية.

[ ص: 260 ] الثامن عشر: قولها: (حتى جاءه الحق). أي: الأمر الحق وهو الوحي الكريم، (وللبخاري) في التفسير، ولمسلم: (حتى فجئه الحق). أي: أتاه بغتة، يقول: فجئ يفجأ بكسر الجيم في الأول وفتحها في المضارع، وفجأ يفجأ بالفتح فيهما، وقوله: (فجاءه الملك) يعني: جبريل.

فائدة:

روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -يومئذ ابن أربعين سنة.

التاسع عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("ما أنا بقارئ") ما هنا نافية، واسمها "أنا" وخبرها: "بقارئ" والباء زائدة لتأكيد النفي، أي: ما أحسن القراءة، وقد جاء في رواية: "ما أحسن أن أقرأ" وغلط من جعلها استفهامية لدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، واحتج من (قال) استفهامية بأنه جاء في رواية لابن إسحاق: "ما أقرأ؟ " أي: أي أقرأ؟ ولا دلالة فيه; (لجواز أن تكون ما) هنا نافية أيضا.

وقال السهيلي في "روضه": قوله: "ما أنا بقارئ" أي: أنا أمي، فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له: اقرأ باسم ربك الذي خلق أي: إنك لا تقرؤه بحولك ولا بصفة نفسك ولا بمعرفتك، ولكن [ ص: 261 ] اقرأه مفتتحا باسم ربك مستعينا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان. فالآيتان المتقدمتان والأخريان لأمته وهما قوله: الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [العلق: 4 - 5] لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم، وتعلمه نبيهم تلقيا (من) جبريل نزله على قلبه (بإذن الله) ليكون من المرسلين.

العشرون: قوله: ("فغطني") هو بغين معجمة، ثم طاء مهملة مشددة أي: عصرني وضمني، يقال: غطني، وغتني، وضغطني، وعصرني، وغمرني، وخنقني، كله بمعنى، قال الخطابي: ومنه الغط في الماء، وغطيط النائم، وهو: ترديد النفس إذا لم يجد مساغا عند انضمام الشفتين، وقيل: الغت: حبس النفس مرة وإمساك (اليد أو الثوب) على الفم والأنف. والغط: الخنق وتغييب الرأس في الماء، (قال) : والغط في الحديث: الخنق.

قال (الخطابي) : وفي غير هذه الرواية "فسأبني" والسأب: الخنق.

[ ص: 262 ] وقال السهيلي: ويروى أيضا "فسأتني" فهذه ثلاث روايات، قال: وأحسبه (يروى) أيضا: "فذعتني" وكلها بمعنى واحد وهو: الخنق، والغم، ومن الذعت حديثه الآخر أن الشيطان عرض له وهو يصلي "فذعته حتى وجدت برد لسانه ثم ذكرت قول (سليمان أخي) : رب هب لي ملكا.. " الحديث، قال: وكان في ذلك إظهارا للشدة والجد في الأمر، وأن يأخذ الكتاب بقوة ويترك الأناة، فإنه أمر ليس بالهوينا.

قال: وعلى رواية ابن إسحاق أن هذا الغط كان في النوم، يكون في تلك الغطات الثلاث من التأويل ثلاث شدائد يبتلى بها أولا ثم يأتي الفرج والروح، وكذلك كان، لقي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه شدة من الجوع في الشعب حين تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم (ولا يصلوا إليهم)، وشدة أخرى من الخوف والإيعاد بالقتل، وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليهم ثم كانت العاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.

الحادي بعد العشرين: فيه المبالغة في التنبيه والحض على التعليم ثلاثا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا; لتفهم عنه، وانتزع بعض التابعين وهو شريح القاضي من هذا الحديث ألا يضرب الصبي إلا ثلاثا على القرآن، كما غط جبريل محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا.

[ ص: 263 ] الثاني بعد العشرين: قوله: ("حتى بلغ مني الجهد") يجوز في الجهد ضم الجيم وفتحها ونصب الدال ورفعها، ومعناه: الغاية والمشقة، فعلى الرفع معناه: بلغ الجهد مبلغه، فحذف مبلغه، وعلى النصب معناه: بلغ الملك مني الجهد، قال في "المحكم" : الجهد والجهد: الطاقة وقيل: الجهد: المشقة، والجهد: الطاقة، وفي "الموعب": الجهد: ما جهد الإنسان من مرض أو من مشاق، والجهد (أيضا بلوغك) غاية الأمر الذي لا يألو عن الجهد فيه (وجهدته: بلغت مشقته وأجهدته) على أن يفعل كذا. وقال ابن دريد : (جهدته) (حملته) على أن يبلغ مجهوده. وقال [ ص: 264 ] ابن الأعرابي : جهد في العمل وأجهد. وقال أبو عمرو: وأجهد في حاجتي وجهد، وقال الأصمعي : جهدت لك نفسي، وأجهدت نفسي.

الثالث بعد العشرين: الحكمة في الغط شغله عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا، والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله (له)، وقيل: أراد أن يوقفه على أن القراءة ليست من قدرته، ولو أكره، وكلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه، فلما لم يكن عنده ما يقرأ كان ذلك (تنبيها له على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه، فكان الغط) تنبيها له كقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى [طه: 17]، لئلا يلحقه ريب عند انقلابها حية، فكذلك (أراد جبريل) أن يعلمه أن ما ألقي إليه ليس في قدرته إذ قد عجز بعد الثلاث، وهي حد (للإعذار)، (وقد روى) ابن سعد [ ص: 265 ] بسنده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في شيء مثل (صوت) الجرس حتى يخالط قلبي، فذلك (الذي) لا ينفلت مني" وقيل: سببه أن التخيل (والوهم) والوسوسة إنما تقع بالنفوس لا بالجسم فوقع ذلك بجسمه; ليعلم أنه من الله تعالى.

الرابع بعد العشرين: يؤخذ منه أنه ينبغي للمعلم والواعظ أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأمره بإحضار قلبه.

الخامس بعد العشرين: قوله: ("فقال: اقرأ باسم ربك ") هذا دليل الجمهور أنه أول ما نزل، وقول من قال: إنما نزل يا أيها المدثر [المدثر: 1] بعد علم الإنسان ما لم يعلم [العلق: 5]، عملا بالرواية الآتية في الباب، فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر محمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، كما هو ظاهر إيراد الحديث.

وأبعد من قال: إن أول ما نزل الفاتحة. بل هو شاذ، وجمع [ ص: 266 ] بعضهم بين القولين الأولين بأن قال: يمكن أن يقال: أول ما نزل من التنزيل في تنبيه الله على صفة خلقه: اقرأ ، وأول ما نزل من الأمر بالإنذار: يا أيها المدثر .

وذكر ابن العربي عن كريب قال: وجدنا في كتاب ابن عباس: أول ما نزل من القرآن بمكة: اقرأ، والليل، ونون، ويا أيها المزمل، ويا أيها المدثر، وتبت، وإذا الشمس، والأعلى، والضحى، وألم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، والتكاثر، والدين، والكافرون، ثم الفلق، ثم الناس، ثم ذكر سورا كثيرة، ونزل بالمدينة ثمان وعشرون سورة، وسائرها بمكة، وكذلك يروى عن ابن الزبير.

وقال السخاوي : ذهبت عائشة (والأكثرون) إلى أن أول ما نزل: اقرأ باسم ربك إلى قوله: ما لم يعلم ثم: ن والقلم إلى قوله: ويبصرون و يا أيها المدثر ، والضحى، ثم نزل باقي سورة اقرأ بعد يا أيها المدثر ، و يا أيها المزمل .

السادس بعد العشرين: (قولها) : (فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 267 ] يرجف فؤاده). الضمير في (بها) يعود إلى الآيات: قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى آخرهن.

ومعنى (يرجف): يخفق. والرجفان: شدة التحرك والاضطراب. قال صاحب "المحكم": رجف الشيء يرجف رجفا ورجوفا ورجفانا ورجيفا، وأرجف: خفق واضطرب اضطرابا شديدا.

السابع بعد العشرين: الفؤاد: القلب على المشهور، وفي قول: إنه عين القلب، وفي قول: باطنه. وفي قول: غشاؤه. فهذه أربعة أقوال فيه.

وقال الليث: القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط، سمي قلبا لتقلبه، وأنشدوا:

ما سمي القلب إلا من تقلبه... (فاحذر على القلب من قلب وتحويل) الثامن بعد العشرين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("زملوني زملوني") هكذا هو في الروايات بالتكرار، والتزمل: الاشتمال والتلفف، و(مثله) التدثر، ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد: دثار، وأصلهما المتدثر والمتزمل، أدغمت التاء فيما بعدها، وجاء في أثر أنهما من أسمائه - صلى الله عليه وسلم - وقال ذلك -صلى الله عليه وسلم-; لشدة ما لحقه من هول الأمر، وشدة (الضغط)، ولولا ما جبل عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والقوى ما استطاع على تلقي ذلك; لأن الأمر جليل.

وللبخاري في التفسير من حديث جابر، ومسلم أيضا: "دثروني وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا"، فنزلت:

[ ص: 268 ]
يا أيها المدثر
.

التاسع بعد العشرين: ينعطف على ما مضى. قال السهيلي: وفي قوله تعالى: اقرأ باسم ربك : دليل من الفقه (وجوب) استفتاح القراءة ببسم الله، غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم من أسمائه يستفتح حتى جاء البيان بعد (بقوله) : بسم الله مجراها [هود: 41] ثم في قوله: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [النمل: 30]، ثم بعد ذلك كان (ينزل جبريل) ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة، وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة على ذلك، وحين نزلت بسم الله الرحمن الرحيم [الفاتحة: 1] سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمد الجبال، ذكره النقاش، وإن [ ص: 269 ] صح ما ذكره (فلذلك) معنى، وذلك أنها آية أنزلت على آل داود -عليه السلام- وقد كانت الجبال تسبح معه بنص القرآن العظيم.

الثلاثون: ذكر ابن إسحاق في "السيرة" أن جبريل -عليه السلام- أتاه بنمط من ديباج فيه كتاب، وهو دليل -كما قال السهيلي- وإشارة إلى أن هذا الكتاب به يفتح على أمته ملك الأعاجم ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان زينتهم (وزيهم) وبه ينال أيضا ملك الآخرة، إذ لباس أهل الجنة فيها الحرير والديباج.

وفي (سير) موسى بن عقبة، و(سليمان) بن المعتمر : وأتاه بدرنوك من ديباج منسوج بالدر والياقوت، فأجلسه عليه غير أن موسى بن عقبة قال: ببساط. ولم يقل: بدرنوك. وقال ابن المعتمر: فمسح جبريل -عليه السلام- صدره وقال: اللهم اشرح صدره، وارفع ذكره، وضع عنه وزره. ويصححه قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك الآيات، كأنه يشير إلى ذلك الدعاء الذي كان من جبريل.

[ ص: 270 ] فائدة:

قال بعض المفسرين في قوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة: 1 - 2]: إنه إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال له: اقرأ.

الحادي بعد الثلاثين: قولها: (فزملوه حتى ذهب عنه الروع) (الروع) هو بفتح الراء: وهو الفزع: قال صاحب "المحكم": الروع والرواع والتروع: الفزع. وقال الهروي: هو بالضم: موضع الفزع من القلب.

الثاني بعد الثلاثين: كونه لم يخبر بشيء حتى ذهب عنه الروع، يؤخذ منه أن الفازع لا ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه، حتى قال مالك: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره.

الثالث بعد الثلاثين: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ("لقد خشيت على نفسي") ليس معناه الشك في أن ما أتاه من الله تعالى، كما قال القاضي، لكنه خشي (أن) لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يطيق حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه وينخلع قلبه; لشدة ما لقيه أولا عند لقاء الملك (أو يكون هذا أول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك)، وتحققه رسالة ربه، فيكون خاف أن يكون من الشيطان، [ ص: 271 ] فأما بعد أن جاءه الملك برسالة ربه فلا يجوز الشك عليه ولا يخشى تسلط الشيطان عليه. وعلى هذا الطريق يحمل كل ما ورد من مثل هذا في حديث المبعث، وضعف النووي هذا الاحتمال; لأنه جاء في الحديث مبينا أنه كان بعد غط الملك وإتيانه بـ: اقرأ باسم ربك .

(قال) : ويحتمل أن يكون معنى الخشية: الإخبار بما حصل له أولا من الخوف لا أنه في الحال خائف، وجزم بما ضعفه النووي ابن الجوزي في "كشف مشكل الصحيحين" فقال: كان - صلى الله عليه وسلم - يخاف في (بداءة) الأمر أن يكون ما يراه من قبل الشيطان; لأن الباطل قد [ ص: 272 ] يلتبس بالحق وما زال يستقرئ الدلائل، (ويسبر) الآيات إلى أن وضح له الصواب، وكما يجب على أحدنا أن يسبر صدق الرسول إليه وينظر في دلائل صدقه من المعجزات، فكذلك الرسل يجب عليها أن تسبر حال المرسل إليها هل هو ملك أو شيطان؟ فاجتهادها في تمييز الحق من الباطل أعظم من اجتهادنا، ولذلك علت منازل الأنبياء لعظم ما ابتلوا به من ذلك.

قال: وكان نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قد نفر في بدايته من جبريل. ونسب الحال إلى الأمر المخوف، وقال لخديجة: "قد خشيت على نفسي" إلى أن بان لي أن الأمر حق، ثم استظهر بزيادة الأدلة حتى بان له اليقين، ثم ساق بإسناده من حديث حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجون فقال: "اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها من قريش" فقيل له: ادع هذه الشجرة فدعاها، فأقبلت على عروقها فقطعتها، ثم أقبلت تخد الأرض حتى وقفت بين يديه - صلى الله عليه وسلم - ثم قالت: ما تشاء؟ ما تريد؟ قال: "ارجعي إلى مكانك" فرجعت إلى مكانها، فقال: "والله ما أبالي من كذبني من قريش".

[ ص: 273 ] وقيل: إن الخشية كانت من قومه أن يقتلوه. حكاه السهيلي، ولا غرو أنه بشر يخشى من القتل والأذى، ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية، ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة، وقيل: إنها كانت (خوف) أن لا ينهض بأعباء النبوة ويضعف عنها، ثم أذهب الله خشيته ورزقه الأيد والقوة والثبات، حكاه السهيلي أيضا، وقال قبل ذلك: تكلم العلماء في معنى هذه الخشية بأقوال كثيرة، منها ما ذهب إليه أبو بكر الإسماعيلي أنها كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن (الذي) جاءه ملك من عند الله تعالى، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه شيء أو أنه خشي على الناس -يعني: من وقوعهم فيه - ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في مبدأ الأمر; لأن العلم الضروري لا يحصل دفعة واحدة، وضرب مثلا بالبيت من الشعر تسمع أوله ولا تدري (أنثر هو أم نظم؟) فإذا استمر الإنشاد علمت قطعا (أنه قصد به) قصد الشعر، فكذلك لما استمر الوحي واقترنت به القرائن المقتضية للعلم القطعي حصل العلم القطعي، وقد أثنى الله عليه بهذا العلم، فقال: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه [البقرة: 285] إلى قوله: وملائكته وكتبه ورسله فإيمانه - صلى الله عليه وسلم - بالله [ ص: 274 ] وملائكته إيمان كسبي، موعود عليه بالثواب الجزيل كما وعد على سائر أفعاله المكتسبة، كانت من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح.

[وقال سيدي أبو عبد الله ابن أبي جمرة: يحتمل أن تكون خشيته من الوعك الذي أصابه من قبل الملك. والأظهر أنها من الكهانة لكثرتها في زمنه، ثم ظهر له الحق بعد ذلك وأمر بالإنذار، وفي "السيرة" من حديث عمرو بن شرحبيل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي [ ص: 275 ] سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون هذا أمرا" فقالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك، إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث ].

الرابع بعد الثلاثين: قولها: (فقالت خديجة: كلا والله..) إلى آخره، معنى كلا (هنا) : النفي والإبعاد، وهذا أحد معانيها، وقد تكون بمعنى: حقا، وبمعنى: ألا، التي للتنبيه، يستفتح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن على أقسام، جمعها ابن الأنباري في باب من كتاب "الوقف والابتداء" له.

الخامس بعد الثلاثين: قولها: (والله ما يخزيك الله أبدا). هو بضم الياء وبالخاء المعجمة، وكذا رواه مسلم في "صحيحه" من رواية يونس وعقيل، عن الزهري، وهو من الخزي، وهو الفضيحة والهوان، وأصل الخزي على ما ذكره ابن سيده: الوقوع في بلية وشهرة تذله.

وأخزى الله فلانا: أبعده، (قاله) في "الجامع".

ورواه مسلم من رواية معمر عن الزهري: يحزنك، بالحاء المهملة وبالنون من الحزن، ويجوز على هذا فتح الياء وضمها.

[ ص: 276 ] يقال: حزنه وأحزنه لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع. قال اليزيدي : أحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، قال تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر [الأنبياء: 103] من حزن، وقال: ليحزنني أن تذهبوا به [يوسف: 13] من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء وهو الحزن، والحزن وهو خلاف السرور يقال: حزن -بالكسر- يحزن حزنا إذا اغتم وحزنه غيره وأحزنه، مثل شكله وأشكله، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: إذا جاء الحزن في موضع نصب فتحت الحاء، وإذا جاء في موضع رفع وجر ضممت، وقرأ: وابيضت عيناه من الحزن [يوسف: 84]، وقال: تفيض من الدمع حزنا [التوبة: 92].

قال الخطابي: وأكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن، وهما على اختلافهما يتقاربان في المعنى، إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع، والهم إنما هو فيما يتوقع ولا يكون بعد، وقولها: (أبدا). هو منصوب على الظرف.

[ ص: 277 ] السادس بعد الثلاثين: قولها: (إنك لتصل الرحم) هو بكسر الهمزة من: إنك على الابتداء، وكذا الرواية وهو الصواب، قال القزاز: يقال: وصل رحمه صلة، وأصله: وصلة، فحذف الواو، وكما قالوا: زنة من وزن، كذا أصل صلة من وصل، ومعنى: (لتصل الرحم): تحسن إلى قراباتك، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيفية صلة الرحم في بابها وبيان اختلاف طرقها.

السابع بعد الثلاثين: قولها: (وتحمل الكل) هو بفتح الكاف وأصله الثقل، ومنه قوله تعالى: وهو كل على مولاه [النحل: 76] وأصله من الكلال وهو الإعياء ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، والمعنى: إنك تنفق على هؤلاء وتعينهم، وقال الداودي: الكل: المنقطع.

الثامن بعد الثلاثين: قولها: (وتكسب المعدوم) هو بفتح التاء المثناة فوق على الصحيح المشهور في الرواية والمعروف في اللغة، وروي بضمها، وفي معنى المضموم قولان: أصحهما: معناه: تكسب غيرك المال المعدوم. أي: تعطيه له تبرعا. ثانيهما: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد ومكارم الأخلاق، يقال: أكسبت مالا وأكسبت غيري مالا، وفي معنى المفتوح قولان أصحهما: أن معناه كمعنى المضموم يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا، والأول أفصح وأشهر، ومنع القزاز الباقي وقال: إنه حرف نادر وأنشد على الثاني:


وأكسبني مالا وأكسبته حمدا

[ ص: 278 ] وقول الآخر:


يعاتبني في الدين قومي وإنما     ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

روي بفتح التاء وضمها، والثاني: أن معناه تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم، وكانت العرب تتمادح بذلك وعرفت قريش بالتجارة، وضعف هذا بأنه لا معنى لوصف التجارة بالمال في هذا الموطن إلا أن يريد أنه يبذله بعد تحصيله، وأصل الكسب طلب الرزق، يقال: كسب يكسب كسبا وتكسب واكتسب.

وقال سيبويه فيما حكاه ابن سيده:

(كسب) : أصاب، و(اكتسب) : تصرف واجتهد.

[ ص: 279 ] وقال صاحب "المجمل": يقال: كسبت الرجل مالا فكسبه، وهذا مما جاء على فعلته ففعل.

التاسع بعد الثلاثين: (المعدوم) كما قاله صاحب "التحرير": عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب، وسماه معدوما لكونه كالميت; حيث لم يتصرف في المعيشة، وذكر الخطابي أن صوابه (المعدم) بحذف الواو، أي: تعطي العائل وترفده; لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال، وفيه نظر لا جرم. قال النووي: ليس كما قال الخطابي بل ما رواه الرواة صواب.

الأربعون: قولها: (وتقري الضيف) هو بفتح الياء تقول: قريت الضيف أقريه، قرى بكسر القاف والقصر، وقراء بفتح القاف والمد، ويقال للطعام الذي (يضيف) به: قرى بالكسر والقصر، وفاعله قار كقضى فهو قاض، وقال ابن سيده: قرى الضيف قرى، وقراء: أضافه، واستقراني واقتراني (وأقراني) طلب مني القرى، وإنه لقري للضيف، والأنثى قرية عن اللحياني، وكذلك إنه لمقرى للضيف، ومقراء، والأنثى مقراة، الأخيرة عن اللحياني. وفي "أمالي الهجري": ما اقتريت الليلة يعني: لم آكل من القرى شيئا، أي: لم آكل طعاما.

الحادي بعد الأربعين: قولها: (وتعين على نوائب الحق) أي: تعين بما تقدر على من أصابته نوائب حق أعنته فيها، والنوائب جمع نائبة: وهي الحادثة والنازلة، ناب الأمر نوبة: نزل، وهي النوائب والنوب، [ ص: 280 ] وإنما قالت: نوائب الحق; لأنها تكون في الحق والباطل، قال لبيد – رضي الله عنه-:


فلا الخير ممدود ولا الشر لازب     نوائب من خير وشر كلاهما

الثاني بعد الأربعين: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعله الله -سبحانه وتعالى- فيك من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، ومحاسن الشمائل. وذكرت ضروبا من ذلك، وفي هذا أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء والمكاره، فمن كثر خيره حسنت عاقبته، ورجي له سلامة الدين والدنيا، وفيه مدح الإنسان في وجهه لمصلحة، وشرطه في غير الأنبياء انتفاء الفتنة أيضا.

الثالث بعد الأربعين: ذكر البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" خصلة أخرى، وهي: (وتصدق الحديث) وذكرها مسلم هنا، وهي من أشرف خصاله وكان يدعى بها من صغره، وفي "السيرة" زيادة: (إنك لتؤدي الأمانة) ذكرها من حديث عمر بن شرحبيل، وقد سلفت.

الرابع بعد الأربعين: فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له، وأن من نزلت به نازلة له أن يشارك فيها من يثق بنصحه ورأيه.

الخامس بعد الأربعين: فيه أيضا أبلغ دليل وأظهر حجة على كمال خديجة، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وعظيم فقهها.

السادس بعد الأربعين: قولها: (فانطلقت به خديجة حتى أتت به [ ص: 281 ] ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة)، إنما كان ابن عمها: لأنها خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد، فـ (ابن عم) تابع لورقة لا لعبد العزى، فينصب ابن، ويكتب بالألف لأنه بدل من ورقة. ولا يجوز جر ابن، ولا كتابته بغير ألف; لأنه يصير صفة لعبد العزى، فيكون عبد العزى ابن عمها وهو باطل، كما نبه عليه النووي رحمه الله، ومثله عبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن علي ابن الحنفية، والمقداد بن عمرو ابن الأسود، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم (ابن راهويه)، وعبد الله بن يزيد ابن ماجه; لأن بحينة أم عبد الله، وكذلك الحنفية، والأسود ليس بجده، وراهويه لقب إبراهيم، وعلية أم إسماعيل، وماجه لقب يزيد، فكل ذلك يكتب بالألف ونعربه بإعراب الأول، ومثل ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول ينون أبي ويكتب ابن سلول بالألف ويعرب إعراب عبد الله; لأن سلول أم عبد الله، هذا هو الصحيح، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في موضعه، ومقصودهم في كل هذه الأسماء تعريف الشخص بوصفه جميعا ليكمل تعريفه، فقد يكون الإنسان معروفا بأحد وصفيه دون الآخر، فإذا جمعا تم تعريفه لكل أحد.

السابع بعد الأربعين: اسم أم ورقة هند بنت أبي كبير بن عدي بن قصي ولا عقب له، وروينا في " مستدرك الحاكم" من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو(جنتان)" [ ص: 282 ] ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

وفي كتاب الزبير من حديث عبد الله بن معاذ، عن الزهري، عن عروة قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل، كما بلغنا قال: "لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض، فقد أظن أنه لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض".

ورواه الترمذي في كتاب الرؤيا من "جامعه" من حديث عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة فقالت له خديجة: إنه كان صدقك ولكنه مات قبل أن تظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض، ولو [ ص: 283 ] كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك" ثم قال: حديث غريب، وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي.

وقال السهيلي: في إسناده ضعف، لأنه يدور على عثمان هذا، ولكن يقويه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت القس -يعني: ورقة وعليه ثياب حرير; لأنه أول من آمن بي وصدقني" ذكره ابن إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل.

وقال المرزباني : كان ورقة من علماء قريش وشعرائهم، وكان يدعى القس، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيته وعليه حلة خضراء يرفل في الجنة"، وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه، فمن ذلك قوله:

[ ص: 284 ]

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم     أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم     فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
سبحان ذي العرش سبحانا يعود له     وقبله سبح الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له     لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته     يبقى الإله ويودى المال والولد
لم يغن عن هرمز يوما خزائنه     والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له     والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها     من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب     لابد من ورده يوما كما وردوا

نسبه أبو الفرج إلى ورقة، وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت، ومن قوله أيضا فيما خبرت به خديجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم:


يا للرجال لصرف الدهر والقدر     وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها     أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به     فيما مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره     جبريل: إنك مبعوث إلى البشر
فقلت: عل الذي ترجين ينجزه     لك الإله فرجي الخير وانتظري
وأرسلته إلينا كي نسائله     عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقا عجبا     يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني في     صورة أكملت من أهيب الصور
ثم استمر فكان الخوف يذعرني     مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني     أن سوف تبعث تتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم     من الجهاد بلا مر ولا كدر

ذكره بطوله الحاكم في " مستدركه"، ذكره عقيب حديث ابن عباس [ ص: 285 ] السالف، وقال: والغرض فيه ما حدثنيه ثم ساقه بإسناده.

وقال ابن منده : اختلف في إسلامه، وظاهر الحديث يدل على إسلامه من قوله: (يا ليتني كنت فيها جذعا). وما بعده، وذكر ابن إسحاق أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره قال له ورقة: إنك والذي نفسي بيده لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، وذكر الحديث، قال: ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.

الثامن بعد الأربعين: قولها: (وكان امرأ تنصر في الجاهلية). أي: صار نصرانيا وترك عبادة الأوثان وفارق طرائق الجاهلية، والجاهلية: ما قبل نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ، سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالات.

التاسع بعد الأربعين: قولها: (وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية) هكذا وقع هنا العبراني والعبرانية، ووقع في موضع آخر من "صحيح مسلم": العربي، فيكتب بالعربية من [ ص: 286 ] الإنجيل، وفي كتاب التعبير والتفسير من البخاري: يكتب الكتاب العبراني، فيكتب (بالعربية) من الإنجيل. وكله صحيح، أي: كان يكتب من الإنجيل ما شابهها لتمكنه من معرفة دينهم وكتابتهم، وقال الداودي: يكتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية بهذا الكتاب العربي، فنسبه إلى العبرانية إذ بها كان يتكلم عيسى -عليه السلام-.

وقولها: (وكان قد عمي) فيه جواز ذكر العاهة التي بالشخص ولا يكون ذلك غيبة.

الخمسون: قولها: (يا ابن عم) كذا وقع هنا، ووقع في مسلم: (يا عم) والأول صحيح; لأنه ابن عمها كما سلف، والثاني صحيح أيضا سمته عمها مجازا للاحترام وهذه عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بـ(يا عم) احتراما له ورفعا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: (يا ابن عم)، فعلى هذا يكون تكلمت باللفظين.

الحادي بعد الخمسين: قوله: (هذا الناموس الذي نزل الله على موسى) كذا هو في الصحيحين، وغيرهما، وجاء في غير الصحيح: (نزل الله على عيسى). وكلاهما صحيح. أما عيسى فلقرب زمنه، [ ص: 287 ] وأما موسى فأبدى له السهيلي معنى آخر وهو أن ورقة قد تنصر والنصارى لا يقولون في عيسى: إنه نبي يأتيه جبريل، وإنما يقولون: إن أقنوما من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح على اختلاف بينهم في ذلك الحلول، وهو أقنوم الكلمة، والكلمة عندهم عبارة عن العلم، فلذلك كان المسيح في زعمهم يعلم الغيب ويخبر بما في الغد في زعمهم الكاذب، فلما كان هذا مذهب النصارى عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه، ولاعتقاده أن جبريل كان ينزل على موسى، قال: لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ساق حديث الترمذي السالف.

الثاني بعد الخمسين: (الناموس) بالنون والسين المهملة وهو [ ص: 288 ] صاحب السر كما ذكره البخاري في أحاديث الأنبياء، قال صاحب "المحكم" و"المجمل" وأبو عبيد في "غريبه": ناموس الرجل: صاحب سره، وقال ابن سيده: الناموس: السر. وقال صاحب "الغريبين" : هو صاحب سر الملك.

وقيل: إن الناموس والجاسوس بمعنى واحد حكاه القزاز في "جامعه" وصاحب "الواعي"، وقال الخشني في "شرح السيرة": أصل الناموس: صاحب سر الرجل في خيره وشره، وقال ابن الأنباري في "زاهره": الجاسوس: الباحث عن أمور الناس وهو بمعنى تحسس سواء.

وقال بعض أهل اللغة: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، وبالحاء المهملة الاستماع لحديث القوم، وقيل: هما سواء، قال [ ص: 289 ] ابن ظفر، في "شرح المقامات": صاحب سر الخير: ناموس، وصاحب سر الشر: جاسوس، وقد سوى بينهما رؤبة وهو الصحيح.

ونقل النووي في "شرحه" عن أهل اللغة والغريب الفرق بينهما وأن الناموس في اللغة صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، قال: ويقال: نمست السر -بفتح النون والميم- أنمسه -بكسر الميم- نمسا أي: (كتمته)، ونمست الرجل ونامسته أي: ساررته، واتفقوا على أن جبريل يسمى الناموس وعلى أنه المراد في هذا الحديث، قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي الذي لا يطلع عليه غيره.

قال ابن الأعرابي فيما حكاه القاضي: لم يأت في الكلام فاعول لام الكلمة فيه سين إلا الناموس: صاحب سر الخير، والجاسوس للشر، والجاروس: الكثير الأكل، والفاعوس: الحية، والبابوس: الصبي الرضيع، والداموس: القبر، والقاموس: وسط البحر، والقابوس: الجميل الوجه، والعاطوس: دابة يتشاءم بها، والفانوس: النمام، والجاموس: ضرب من البقر، وقيل: أعجمي تكلمت به العرب، [ ص: 290 ] وقيل: الحاسوس بالحاء غير المعجمة (من تجسس بالجيم)، وفي "صحيح مسلم": إن كلماتك بلغن ناعوس البحر.

الثالث بعد الخمسين: قوله: (يا ليتني فيها جذعا)، الضمير فيها يعود إلى أيام النبوة ومدتها، قال ابن مالك : وأكثر الناس تظن أن (يا) التي تليها [ليت] حرف نداء. والمنادى (حذف فتقديره) يا محمد، ليتني كنت فيها حيا، وهذا الرأي عندي ضعيف; لأن القائل: يا ليتني قد يكون وحده ولا يكون معه منادى ثابت ولا محذوف، ولأنه لم يقع ملفوظا به حتى يؤنس بالتقدير.

الرابع بعد الخمسين: قوله: (جذعا). يعني: شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك ويكون لي كفاية تامة لذلك، والجذع في الأصل للدواب، وهو هنا استعارة، قال ابن سيده: قيل: الجذع الداخل في السنة الثانية، ومن الإبل: فوق الحق، وقيل: الجذع من الإبل لأربع [ ص: 291 ] سنين، ومن الخيل لسنتين، ومن الغنم لسنة والجمع جذعان وجذعان وجذاع.

قال الأزهري في "تهذيبه": والدهر يسمى جذعا; لأنه جديد الدهر. وقيل معناه: يا ليتني أدرك أمرك، فأكون أول من يقوم بنصرك، كالجذع الذي هو أول الأسنان، قال صاحب "المطالع": والقول الأول أبين.

الخامس بعد الخمسين: قوله: (جذعا). هكذا الرواية المشهورة هنا، وفي "صحيح مسلم" بالنصب، ووقع للأصيلي، هنا ولابن ماهان في "صحيح مسلم": (جذع)، بالرفع، فعلى الرفع لا إشكال، وفي النصب اختلفوا في وجهه على ثلاثة أوجه:

[ ص: 292 ] أحدها: نصبه على أنه خبر (كان) المقدرة، تقديره: ليتني أكون جذعا، قاله الخطابي، والمازري، وابن الجوزي في "مشكله"، وهي تجيء على مذهب الكوفيين كما قالوا في قوله تعالى: انتهوا خيرا لكم [النساء: 171]، أي: يكن الانتهاء خيرا لكم، ومذهب البصريين أن خيرا في الآية منصوب بفعل مضمر يدل عليه انتهوا تقديره: انتهوا وافعلوا خيرا لكم. وقال الفراء: انتهوا انتهاء خيرا لكم. وضعف هذا الوجه بأن كان الناصبة لا تضمر إلا إذا كان في الكلام لفظ ظاهر يقتضيها كقولهم: إن خيرا فخير.

ثانيها: أنه منصوب على الحال وخبر ليت قوله: فيها، والتقدير: ليتني كائن فيها. أي: مدة الحياة في هذا الحال شبيبة وصحة وقوة لنصرتك، إذ (قد كان) أسن وعمي عند هذا القول، ورجح هذا القاضي عياض، وقال: إنه الظاهر، وقال النووي: إنه الصحيح الذي اختاره المحققون.

ثالثها: أن تكون (ليت) عملت عمل تمنيت فنصبت اسمين كما قال الكوفيون وأنشدوا:

يا ليت أيام الصبا رواجعا السادس بعد الخمسين: قوله: (إذ يخرجك قومك). استعمل فيه إذ في المستقبل كإذا وهو استعمال صحيح كما نبه عليه ابن مالك، وقال: غفل عنه أكثر النحويين، ومنه قوله تعالى: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر [مريم: 39]،وقوله: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب [غافر: 18] [ ص: 293 ] وقوله: فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون [غافر: 70 - 71] قال: وقد استعمل كل منهما في موضع؛ يعني: إذ وإذا، ومن الثاني قوله تعالى: إذا ضربوا في الأرض [آل عمران: 156]، وإذا رأوا تجارة [الجمعة: 11]، و إذا ما أتوك لتحملهم [التوبة: 92].

السابع بعد الخمسين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("أومخرجي هم؟ ") هو بفتح الواو وتشديد الياء آخره وهو جمع مخرج، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيح التشديد، وبه جاءت الرواية، ويجوز في الياء المشددة الفتح والكسر، وهو نحو قوله تعالى: بمصرخي [إبراهيم: 22]، وقرئ بهما في السبعة فالياء الأولى ياء الجمع، والثانية ضمير المتكلم وفتحت للتخفيف لئلا تجتمع الكسرة وياءان بعد كسرتين، وقال ابن مالك: الأصل فيه: أومخرجوني هم، سقطت نون الجمع بالإضافة، واجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت قبل الواو كسرة تكميلا للتخفيف، وفتحت الياء في "مخرجي" للتخفيف. لئلا تجتمع الأمثال الكثيرة وياءان بعد كسرتين، وقال السهيلي: لا بد من تشديد الياء في: "مخرجي" لأنه جمع.

[ ص: 294 ] ثم ها هنا أمران:

أحدهما: وهو الثامن بعد الخمسين: الأصل تقديم حرف العطف على الهمزة كغيرها من أدوات الاستفهام، كما نبه عليه ابن مالك نحو: وكيف تكفرون [آل عمران: 101]، فما لكم في المنافقين) [النساء: 88]، فأي الفريقين [الأنعام: 81]، فأنى تؤفكون [الأنعام: 95]، فالأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كهذا المثل، وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل ومثله: فأتطمعون لأن همزة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام فيقال: (وأمخرجي) والعاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف، لكن خصت الهمزة بتقدمها على حرف العطف; تنبيها على أنها أصل أدوات الاستفهام; لأن الاستفهام له صدر الكلام، فقال تعالى: أفتطمعون [البقرة: 75]، أوكلما عاهدوا [البقرة: 100]، أثم إذا ما وقع [يونس: 51].

وقال الزمخشري : بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة ومعطوف عليها بالعاطف، ما بعده تقديره: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا؟ وكذلك يقدر بقية المثل ما يحسن فيها، وفيه من التكلف ومخالفة الأصول ما لا يخفى كما نبه عليه ابن مالك.

[ ص: 295 ] الثاني: وهو التاسع بعد الخمسين: ("مخرجي") خبر مقدم و"هم" مبتدأ ولا يجوز العكس كما نبه عليه ابن مالك; لأن "مخرجي" نكرة فإن إضافته غير محضة، وهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال فيؤدي إلى الإخبار بالمعرفة عن النكرة من غير مصحح. ويجوز أن يكون "هم" فاعلا سد مسد الخبر، و"مخرجي" مبتدأ على لغة: أكلوني البراغيث. ولو روي "مخرجي" بسكون الياء أو فتحها مخففة على أنه مفرد. وقد سلف جوازه; لصح جعله مبتدأ وما بعده فاعلا سد مسد الخبر كما تقول: أومخرجي بنو فلان؟ لاعتماده على حرف الاستفهام كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحي والداك؟ " والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر، ومنه قول الشاعر:


أمنجز أنتم وعدا وثقت به     أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب

وجزم السهيلي بأنه خبر مبتدأ مقدم، قال: ولو كان المبتدأ اسما ظاهرا لجاز تخفيف الياء ويكون الاسم الظاهر فاعلا لا مبتدأ.

الستون: إنما قال: "أو مخرجي هم؟ "); لأنها حرم الله، وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه، فأتى بهمزة الاستفهام على وجه الإنكار والتفجع لذلك والتألم، وقد ذكر ابن إسحاق في "السيرة" عن ورقة أنه قال بعد قوله: ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء [ ص: 296 ] موسى: وليكذبنه وليؤذينه وليخرجنه. لما قال: ليكذبنه وليؤذينه، ولم يقل شيئا فلما قال (الثالثة) قال ذلك، فاستبعد - صلى الله عليه وسلم - إخراجه من غير سبب فإنه لم يكن منه فيما مضى ولا فيما يأتي سبب يقتضي ذلك، بل كان منه أنواع المحاسن والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله ما هو لائق بمحله -أنفسنا له الفداء- لكن العادة أن كلما أتي للنفوس بغير ما تحب وتألف وإن كان ممن تحب وتعتقد تعافه وتطرده، وقد قال تعالى حكاية عنهم: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [الأنعام: 33].

الحادي بعد الستين: قوله: (نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) يعني: أن أهل الحق لا يخلو من أهل باطل يعادونه، وذكره في التفسير بلفظ: أوذي، من الأذى، وقوله: (وإن يدركني يومك) أي: وقت (إخراجك) أو وقت انتشار نبوتك (أنصرك نصرا مؤزرا) هو بضم الميم ثم بهمزة مفتوحة ثم زاي مفتوحة، أي: قويا بالغا من الأزر وهو: القوة والعون، ومنه قوله تعالى: فآزره [الفتح: 29]، أي: قواه، وفي "المحكم": آزره ووازره: أعانه على الأمر، الأخير على البدل وهو شاذ. وقال ابن قتيبة: مما يقوله العوام بالواو وهو بالهمز آزرته على الأمر، أي: أعنته فأما وازرته فبمعنى: صرت له وزيرا.

[ ص: 297 ] الثاني بعد الستين: وقع في "السيرة": إن أدرك ذلك اليوم أنصرك نصرا مؤزرا، وما في البخاري هو القياس; لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء "أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي" نبه على ذلك السهيلي قال: ولرواية ابن إسحاق وجه; لأن المعنى: إن أر ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] أي: لا تراه على أحد القولين.

الثالث بعد الستين: قولها: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) أما ينشب فبياء مفتوحة ثم نون ساكنة ثم شين معجمة مفتوحة ثم موحدة، ومعناه: لم يلبث، كأن المعنى فجئه الموت قبل أن ينشب في فعل شيء، وهذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة. وفتر معناه: احتبس بعد متابعته وتواليه في النزول، قال ابن سيده: فتر الشيء يفتر ويفتر فتورا وفتارا: سكن بعد حدة ولان بعد شدة و(فتر) هو، والفتر الضعف، ولعل الحكمة في إبطائه ذهاب ما حصل له من الروع والتشوف إلى عوده كما سيأتي، ففي "السيرة" أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم وقال: لئن [ ص: 298 ] قتلتموه لأتخذنه حنانا، وفي هذا مخالفة (لقولها) : (فلم ينشب ورقة أن توفي)، فتأمله.

الرابع بعد الستين: لم يذكر هنا مقدار الفترة، وقد جاء في حديث مسند كما أفاده السهيلي أنها كانت سنتين ونصفا، وبهذا يجمع بين قول أنس أنه أقام بمكة عشرا، وقول ابن عباس أنه أقام ثلاث عشرة سنة، وكان قد ابتدئ بالرؤيا الصالحة ستة أشهر فمن عد مدة الفترة وأضاف إليها الأشهر الستة كان كما قال ابن عباس، ومن عدها من حين حمي الوحي وتتابع كما في حديث جابر كانت عشر سنين، ووجه ثان: وهو أن الشعبي قال: وكل إسرافيل بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين ثم جاءه جبريل بالقرآن، وقد أسلفنا ذلك ورواه أبو عمر في "استيعابه" وإذا صح فهو أيضا وجه (من) الجمع بينهما.

الخامس بعد الستين: زاد البخاري في هذا الحديث عند ذكره له في [ ص: 299 ] التعبير عن معمر قال: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا [حزنا] غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه حتى يرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك. وهذا من بلاغات معمر، ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله، ولا يعرف هذا إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد يحمل على أنه كان في أول الأمر قبل رؤية جبريل كما جاء مبينا عن ابن إسحاق عن بعضهم، أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى: فلعلك باخع نفسك [الكهف: 6]، أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب فخشي أن تكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به، ونحو هذا فرار يونس حين تكذيب قومه، نبه على ذلك القاضي عياض.

السادس بعد الستين: فيه جواز تزكية الرجل بما فيه من الخير للأوصاف السالفة التي ذكرتها خديجة، وليس بمعارض لحديث: "احثوا في وجوه المداحين التراب" فإن ذلك إذا مدح بباطل وبما ليس في الممدوح.

[ ص: 300 ] تتمات:

أحدها: في (جبريل) تسع لغات جمعها ابن الأنباري قرئ ببعضها، أفصحها: جبرئيل، وبها قرأ أهل الكوفة واسمه بالعربية عبد الله، واسم ميكائيل (عبيد) الله كذا رواه عبد بن حميد في "تفسيره" عن عكرمة، وقال السهيلي: هو سرياني ومعناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز كذا جاء عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أصح، وأكثر الناس على أنه آخر الاسم منه هو الله تعالى وهو إيل، وذهبت طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة. وإيل هو العبد وأوله اسم من أسمائه تعالى، والجبر عند العجم هو(إصلاح) ما وهى فوافق معناه من جهة العربية فإن في الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهى من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة ولا بأرض العرب; ولهذا (أنه) - صلى الله عليه وسلم - لما ذكره لخديجة انطلقت لتسأل من عنده علم من الكتاب كعداس ونسطور الراهب فقالا: قدوس قدوس ومن أين هذا الاسم (بهذه) البلاد.

ثانيها: ذكر ابن إسحاق في "السيرة" رؤيته لجبريل عليهما السلام عند قوله: "اقرأ" وهو صاف قدميه، وفي حديث جابر أنه رآه على [ ص: 301 ] رفرف بين السماء والأرض، وفي رواية: واقفا بينهما، وفي رواية: على عرش بين السماء والأرض وفي رواية لمسلم: فإذا هو على العرش في الهواء. وفي حديث البخاري الذي ذكره في آخر "الجامع" أنه حين فتر الوحي كان يأتي شواهق الجبال -أي: عاليها- يهم بأن يلقي نفسه منها فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض فيقول له: يا محمد أنت رسول الله.

ثالثها: نقلنا عن "السيرة" فيما مضى أن ورقة قال: ليكذبنه وليؤذينه، وينبغي أن يعلم أنه لا ينطق بهذه الهاء إلا ساكنة; لأنها هاء السكت وليست بهاء إضمار كما نبه عليه السهيلي، وقال الخشني : كذا الرواية وقد كان يحتمل أن يكون ضمير انتصب بالفعل.

رابعها: في "السيرة" من حديث عمرو بن شرحبيل أن الصديق دخل على خديجة وليس رسول الله، ثم ذكرت خديجة له ما رآه فقالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة. فلما دخل - صلى الله عليه وسلم - أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة. فقال: "ومن أخبرك؟ "، فقال: خديجة، [ ص: 302 ] فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض"، فقال له: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد، قل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين [الفاتحة: 1 - 2] حتى بلغ ولا الضالين [الفاتحة: 7] قل: لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، إنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفي ورقة قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني"، يعني: ورقة.

وروينا في "سير سليمان بن طرخان التيمي" أنها ركبت إلى بحيرا بالشام، فسألته عن جبريل فقال لها: قدوس يا سيدة قريش، أنى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني أنه يأتيه، فقال: ما علم به إلا نبي فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه.

وفي "الأوائل" لأبي هلال من حديث سويد بن سعيد: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن خديجة خرجت إلى الراهب وورقة وعداس فقال ورقة: أخشى أن يكون أحد شبه بجبريل فرجعت وقد نزل: ن والقلم وما يسطرون [القلم: 1] فلما قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذا على ورقة قال: أشهد أن هذا كلام الله. فيجمع بين هذه الأخبار بأن خديجة رضي الله عنها ذهبت به مرة، وأرسلته مع [ ص: 303 ] الصديق أخرى وسافرت إلى بحيرا أو غيره مرة أخرى، وهذا لشدة اعتنائها بسيد المرسلين صلوات الله وسلامه (عليه).

خامسها: روى ابن إسحاق في "السيرة" من حديث عبد الله بن حسن بن حسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين أن خديجة أدخلته بين ثوبيها لتختبر الملك بذلك لنفسها لا له - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إن ورقة أمرها أن تختبر الأمر بذلك.

سادسها: قوله فيما مضى: اقرأ باسم ربك [العلق: 1]، قال أبو عبيدة المعنى: اقرأ اسم ربك والباء زائدة، قال المفسرون يعني: اذكر اسمه مفتتحا به قراءتك، وإنما قال: الذي خلق [العلق: 1]; لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم، والإنسان ها هنا: ابن آدم، والعلق: جمع علقة وهي دم عبيط جامد، وقيل: إنما سميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر به، ولما كان الإنسان في معنى الجماعة ذكر العلق جمعا، وقوله: اقرأ [العلق: 3]، تكرير للتأكيد ثم استأنف فقال: وربك الأكرم وهو الذي لا يوازيه كريم الذي علم بالقلم يعني الكتابة، علم الإنسان ما لم يعلم هو: الخط والصنائع.

التالي السابق


الخدمات العلمية