التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1069 [ ص: 7 ] 19 التهجد [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] 19 - التهجد

1 - باب: التهجد بالليل

وقوله -عز وجل- : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [الإسراء : 79].

1120 - حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا سليمان بن أبي مسلم ، عن طاوس ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال : " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ، ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت" أو "لا إله غيرك". قال [ ص: 10 ] سفيان : وزاد عبد الكريم أبو أمية : " ولا حول ولا قوة إلا بالله". قال سفيان : قال سليمان بن أبي مسلم : سمعه من طاوس ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [6317 ، 6385 ، 7442 ، 7499 - مسلم : 769 - فتح: 3 \ 3]


ذكر فيه حديث ابن عباس : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال : "اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ... " الحديث بطوله.

الشرح :

التهجد عند العرب -كما نقله ابن بطال - : التيقظ والسهر بعد نومة من الليل ، قال : والهجود أيضا : النوم ، يقال : تهجد ، إذا سهر ، وهجد إذا نام . قال الجوهري : هجد وتهجد أي : نام ليلا ، وهجد وتهجد سهر ، وهو من الأضداد ، ومنه قيل لصلاة الليل : التهجد .

وقال ابن فارس : المتهجد : المصلي ليلا . كما ذكر البخاري ، وفي بعض نسخ البخاري ، أي : اسهر به ، وعليه مشى ابن التين وابن بطال أي : اسهر نافلة لك . وقيل له : تهجد; لإلقاء الهجود عن نفسه. ونقل ابن التين عن علقمة والأسود : التهجد بعد النوم ، وهو في اللغة السهر ، ونقل النووي عن العلماء أن التهجد أصله : الصلاة في الليل بعد النوم .

ثم قيام الليل سنة مؤكدة ، وادعى بعض السلف -كما حكاه القاضي- أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم ولو قدر حلب شاة ، وهو غلط مردود ، ولا شك أن التطوع المطلق الذي لا سبب له ليلا أفضل منه نهارا ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصلاة بعد [ ص: 11 ] الفريضة صلاة الليل" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .

ولأنها تفعل في وقت الغفلة فكانت أهم ، فإن قسم الليل نصفين فالثاني أفضل ، أو ثلاثا فالثلث الأوسط أفضل ، أو أسداسا فالسدس الرابع والخامس أفضل ; لقصة داود في "الصحيح " : "كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " .

ويكره قيام كل الليل دائما ; للحديث الصحيح فيه : "وإن لجسدك عليك حقا" قاله لعبد الله بن عمرو .

لا يكره إحياء بعض الليالي سيما العشر الأواخر فيستحب ، وكذا ليلتا العيدين ، فقد ورد أن من أحياهما لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .

[ ص: 12 ] وحقيقة التهجد عندنا أن يصلي من الليل شيئا وإن قل .

وهل يسمى الوتر تهجدا ، أو هو غيره ؟ اضطرب عندنا فيه . وفي "الأم" للشافعي أنه يسمى تهجدا .

وقوله : نافلة لك [الإسراء : 79] تعني : فضلا لك عن فرائضك . وقال قتادة : تطوعا وفضيلة .

[ ص: 13 ] والنافلة في اللغة : الزيادة . واختلف في المعنى الذي من أجله خص بذلك الشارع - صلى الله عليه وسلم - ، فقال بعضهم : لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع ، فقال : أتمها نافلة لك ، قاله ابن عباس ; كما نقله ابن بطال .

ومنهم من قال بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه ثم نسخت ; فصارت نافلة ، أي : تطوعا .

وقال مجاهد : إنما قيل له ذلك ; لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئا في الذنوب ; لأن الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكان له نافلة فضل وزيادة ، وأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة ، وهذا خاص به .

ومن قال بأنه كان واجبا عليه قال معنى قوله : (نافلة له) على التخصيص . أي : فريضة لك زائدة على الخمس ، خصصت بها من بين أمتك .

وصوب الطبري الأول ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل من بين أمته ، ولا معنى لقول مجاهد ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشد استغفارا لربه بعد نزول آية الغفران ، وذلك أن هذه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية ، وأنزل عليه إذا جاء نصر الله والفتح [النصر :1] عام قبض وقيل له فيها : فسبح بحمد ربك واستغفره [النصر : 3] وكان يعد استغفاره في المجلس الواحد مائة مرة . قال :

[ ص: 14 ] ومعلوم أن الرب تعالى لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره . قال : فبان فساد قول مجاهد .

وحديث ابن عباس أخرجه مسلم والأربعة .

وشيخ البخاري فيه ( علي بن عبد الله) هو ابن المديني .

و ( سفيان) هو ابن عيينة . ورواه مالك في "الموطأ" عن أبي الزبير ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، كذا رواه جماعة "الموطأ" ، ورواه بعض من جمع حديث مالك ، فذكره عن مالك ، عن أبي الزبير ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، كما رواه يحيى .

وقول البخاري : (قال سفيان : وزاد عبد الكريم أبو أمية : "ولا حول ولا قوة إلا بالله") يعني : أن عبد الكريم زاد عن طاوس هذه الزيادة .

في كتاب أبي نعيم الأصبهاني . قال سفيان : كنت إذا قلت له : -يعني : لعبد الكريم أبي أمية- آخر حديث سليمان -يعني : ابن أبي مسلم الراوي عن طاوس - : "ولا إله غيرك" قال : "ولا حول ولا قوة إلا بالله" قال سفيان : وليس هو في حديث سليمان .

وليس لعبد الكريم هذا في كتاب البخاري غير هذا الموضع ، وهو أبو [ ص: 15 ] أمية عبد الكريم بن أبي المخارق قيس -ويقال : طارق- المعلم البصري نزيل مكة ، روى عن أنس بن مالك وغيره ، وعنه أبو حنيفة ومالك ، وهو واه ، وقد بين مسلم جرحه في مقدمته ، ولم ينبه البخاري على شيء من أمره ، فهو محتمل عنده ، كما قال في "تاريخه " : كل من لم أبين جرحه فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل .

ووهم ابن طاهر فادعى أنهما أخرجا له في الحج حديثا واحدا ، والذي أخرجا له ذلك هو عبد الكريم الجزري كما خرجا به ، مات سنة سبع وعشرين ومائة ، أفاده ابن الحذاء ، وأهمله المزي تبعا لعبد الغني .

وقوله : (قال سفيان : قال سليمان بن أبي مسلم : سمعته من طاوس ، عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مقصوده بهذا أن سليمان سمعه من طاوس ، فإن في السند الأول أتى عنه بالعنعنة ، وعبارة أبي نعيم [ ص: 16 ] الأصبهاني : وقال سفيان : كان سليمان بن أبي مسلم سمعه من طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجهين :

أحدهما :

قوله : (كان إذا قام من الليل يتهجد قال : "اللهم لك الحمد ")

فيه : تهجده - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه كان يدعو عند قيامه ، ويخلص الثناء على الله بما هو أهله ، والإقرار بوعده ووعيده .

وفيه : الأسوة الحسنة . وفي رواية ابن عباس السالفة حين بات عند ميمونة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما استيقظ تلا العشر الآيات من آخر آل عمران ، فبلغ ما شهده ، أو بلغه ، وقد يكون كله في وقت واحد وسكت هو عنه أو نسيه الناقل .

ثانيهما :

في معاني الدعاء الواقع فيه : قوله : ( "أنت قيم السموات والأرض ") كذا في أصل الدمياطي ، وفي بعضها بحذف : "أنت " وفيه لغات : قيام ، وقيوم ، وقيم ، وفي "الموطأ " : "أنت قيام " وهما من صفاته تعالى . والقيوم بنص القرآن ، وقائم ، ومنه قوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد : 33] ، قال الهروي : ويقال : قوام . قال مجاهد وأبو عبيد : القيوم : القائم على كل شيء . أي : مدبر أمر خلقه . وقال ابن عباس : هو الذي لا يزول .

وقرأ علقمة : (الحي القيم) . وقرأ عمر : (القيام ) .

[ ص: 17 ] واختلف في معناه فقيل : القائم بخلقه المدثر لهم . وقيل : الذي لا يزول . كما تقدم ، وأصله : قيوم على وزن فيعل مثل صيب ، وهذا قول البصريين .

وقال الكوفيون : أصل قيم : قويم ، قال ابن كيسان : ولو كان كذلك ما جاز تغييره ، كما لم يغير سويق وطويل .

وقال ابن الأنباري : أصل القيوم : القيووم ، فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلنا ياء مشددة ، وأصل القيام : القيوام . قال الفراء : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال ، ويقولون للصواغ : صياغ . وقيل : (قيام ) . على المبالغة من (قام ) بالشيء : إذا هيأ له ما يحتاج إليه . وقيل فيهما : خالقهما وممسكهما أن يزولا .

وقوله : ( "ومن فيهن " ) أي : أنت القائم على كل نفس بما كسبت وخالقها ورازقها ومميتها ومحييها . وقيل في معنى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد : 33] أفمن هو حافظ على كل نفس لا يغفل ولا يمل ، فالمعنى : الحافظ لهما ومن فيهن .

وقوله : ( "أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " ) أي : بنورك يهتدي من في السموات والأرض . قاله ابن بطال .

وقال ابن التين : يحتمل أن يكون من قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض [النور : 35] قيل : معناه : ذو نور السموات والأرض . وروي عن ابن عباس معناه : هادي أهلهما .

[ ص: 18 ] وروي عنه أيضا وعن مجاهد : معناه : مدبرهما ، شمسهما وقمرهما ونجومهما . وقال ابن عرفة : نور السماوات والأرض [النور : 35] أي : منيرهما . فعلى قول من قال : معناه : ذو نور ، فنوره القرآن . وقال كعب : محمد . فهو يعود إلى أنه ذو النور الذي هدى به أهل السموات والأرض . ويحتمل على هذا الوجه أن يكون معناه : ذو النور الذي أضاءت السموات والأرض به . وإن قلنا : معناه : هادي أهلهما . فيحتمل أن يكون معناه : أن الهدى الذي يهدي به منير ، نير في نفسه ، ويحتمل أن يريد أنه ينير قلوب المؤمنين .

وإذا قلنا : معناه : مدبرهما ، فمعناه به يكون ومن خلقه وتدبيره الشمس والقمر والنجوم التي هي تنيرهما ، ويحتمل أن يكون : النور الذي بمعنى : الهداية ، وأنه بتدبيره تعالى يهتدون ، وقرئ : (الله نور السموات والأرض ) . بفتح النون والواو مشددة . وقيل : منزه فيهما من كل عيب ، ومبرأ من كل ريبة . وقيل : إنه اسم مدح ، يقال : فلان نور البلد وشمس الزمان . وقال أبو العالية : مزينهما بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والأولياء والعلماء .

وقوله : ( "أنت ملك السموات والأرض " ) أي : مالكهما ومالك من فيهما ، وخالقهما وما فيهما ، وهو تكذيب لمن قال : إن الله فقير ونحن أغنياء [آل عمران : 181] .

وقوله : ( "أنت الحق " ) هو اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، [ ص: 19 ] ومعناه : المحقق وجوده ، وكل شيء صح وجوده وتحقق فهو حق ، ومنه قوله تعالى : الحاقة [الحاقة : 1] أي : الكائنة حقا بغير شك .

وهذا الوصف للرب جل جلاله بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيره إذ وجوده لنفسه ، فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، وما عداه بما يقال عليه ذلك فهو بخلافه .

وقال ابن التين : "أنت الحق " يحتمل أن يريد أنه اسم من أسمائه ، ويحتمل أن يريد أنه الحق ممن يدعي المشركون أنه إله من قوله تعالى : ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل [لقمان : 30] وظاهر قوله في هذا : الحق ، يعود إلى الصدق ، ويتعلق تسميته إلها . بمعنى أن من سماه إلها قال الحق . من سمى غيره : إلها . كذب .

وقوله : ( "ووعدك الحق " ) يعني : إنه متحقق لا شك فيه ، ولا يخلف ولا يخلف الميعاد ; ليجزي الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم : 31] وقيل في قوله : إن الله وعدكم وعد الحق [إبراهيم : 22] : وعد الجنة من أطاعه ، ووعد النار من كفر به ; وفاء بوعده ، وكان عائدا إلى معنى الصدق ، ويحتمل أن يريد به أن وعده حق بمعنى : إثبات أنه قد وعد بالبعث والحشر والثواب والعقاب ; إنكارا لقول من أنكر وعده بذلك وكذب الرسل فيما بلغوه من وعده ووعيده .

وقوله : ( "ولقاؤك حق " ) أي : البعث ، وقيل : الموت ; وفيه ضعف ، فأنت المميت لسائر الخلق وناشرهم للقاء والجزاء .

وقوله : ( "وقولك حق " ) أي : صدق وعدل . وقال ابن التين : يقول : ووعدك صدق .

[ ص: 20 ] وقوله : ( "والجنة حق ، والنار حق " ) فيه : الإقرار بهما وبالأنبياء كما سيأتي .

وقال ابن التين : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن خبره بذلك لا يدخله كذب ولا تغيير .

ثانيها : أن خبر من أخبر عنه بذلك وبلغه حق .

ثالثها : أنهما قد خلقتا .

وقوله : ( "والنبيون حق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق " ) يقول : إنهم رسل الله ، وأعيد ذكر نبينا ولخصوصيته ، كما قال : وجبريل وميكال [البقرة : 98] .

وقوله : ( "والساعة حق " ) يحتمل الوجهين السابقين في الجنة والنار ، فهي محققة ، وفيه : الإقرار بهذه الأمور كلها ، و (الساعة ) : القطعة من الزمان ; لكن لما لم يكن هناك كواكب تقدر فيها بالأزمان سميت بالساعة . يعني : يوم القيامة .

وقوله : ( "اللهم لك أسلمت " ) أي : استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك ، وسلمت ورضيت وأطعت ، من قولهم : أسلم فلان لفلان . إذا انقاد وعطف عليه ، ومنه قوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين [الصافات : 103] .

وقوله : ( "وبك آمنت " ) أي : صدقت بك ، وبما أنزلت من أخبار وأمر ونهي . وظاهره أن الإيمان ليس بحقيقة الإسلام ، وإنما الإيمان التصديق . وقال القاضي أبو بكر : الإيمان المعرفة بالله . والأول أشهر في كلام العرب . قال تعالى : وما أنت بمؤمن لنا [يوسف : 17] أي : بمصدق . إلا أن الإسلام إذا كان بمعنى الانقياد والطاعة فقد ينقاد المكلف بالإيمان فيكون مؤمنا مسلما ، وقد ينقاد بغير الإيمان فيكون [ ص: 21 ] مسلما لا مؤمنا . قال تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [الحجرات : 14] الآية . فأثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان فتقرر أن ما أثبت غير ما نفى ، ومن قال : الإيمان هو الإسلام فهو راجع إلى ذلك .

وقوله : ( "وعليك توكلت " ) أي : تبرأت من الحول والقوة ، وصرفت أمري إليك ، وأيقنت أنه لن يصيبني إلا ما كتب لي ، وفوضت أمري إليك ، ونعم المفوض إليه . قال الفراء : الوكيل : الكافي .

وقوله : ( "وإليك أنبت " ) أي : أطعت أمرك ، والمنيب : المقبل بقلبه إلى الرب جل جلاله ، فأنا راجع إليك . أي : في تدبير ما فوضته إليك أو إلى عبادتك .

وقوله : ( "وبك خاصمت " ) أي : بما آتيتني من البراهين ، احتججت على من عاند فيك وكفر ، وجمعته بالحجة ، وسواء خاصم فيه بلسان أو سيف .

وقوله : ( "وإليك حاكمت " ) يعني : إليك احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان ، لا غيرك ممن كانت الجاهلية تحاكم إليه من صنم وكاهن وغير ذلك ، فأنت الحكم بيني وبين من خالف ما جئت به ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند القتال : "اللهم أنزل الحق " ويستنصر . وقيل : ظاهره : لا نحاكمهم إلا إلى الله ولا نرضى إلا بحكمه . قال تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [الأعراف : 89] وقال : أفغير الله أبتغي حكما [الأنعام : 114] .

وقوله : ( "فاغفر لي ما قدمت . . " إلى آخره ) .

[ ص: 22 ] هذا من باب التواضع والخضوع والإشفاق والإجلال ، فإنه مغفور له ذلك ، ولنقتدي به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع والرغب والرهب ، وفي هذا الدعاء المعين . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول : "اللهم إني أستغفرك من عمدي وخطئي وجهلي وظلمي وكل ذلك عندي " يقر على نفسه بالتقصير . ويقول : "اللهم باعد بيني وبين خطاياي . . " إلى آخره .

وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه أنهم مجتهدون في الأعمال ; لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه ، وأمتهم أحرى بذلك .

والمغفرة : تغطية الذنب ، وكل ما غطي فقد غفر ، ومنه : المغفر .

وقوله : ( "وما قدمت وما أخرت " ) أمر الأنبياء بالإشفاق والدعاء إلى الله والرغبة إليه أن يغفر ما يكون من غفلة تعتري البشر . وما قدم : ما مضى . وما أخر : ما يستقبل . وذلك مثل قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح : 2] حمله أهل التفسير -كما نقله عنهم ابن التين - على أن الغفران تناول من أفعاله الماضي والمستقبل .

وقوله : ( "وما أعلنت " ) أي : ما تحرك به لسان أو نطق به .

وقوله : ( "أنت المقدم وأنت المؤخر " ) أي : أنت الأول والآخر ، قاله ابن التين .

وقال ابن بطال : يعني : أنه قدم في البعث إلى الناس على غيره - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 23 ] بقوله : "نحن الآخرون السابقون " ثم قدمه عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضله به على سائر الأنبياء ، فسبق بذلك الرسل .

وقوله : ( "لا حول ولا قوة إلا بالله " ) أي : لا أستطيع تحولا ولا تصرفا بنية ولا فعل ولا قول إلا بقوتك التي جعلت في أو تجعل ، ولا قوة لي في شيء من أمري إلا بما جعلت في من قوتك ، وكذلك سائر الخلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية