التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1077 1129 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أصبح قال : "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " . وذلك في رمضان . [انظر : 729 - مسلم : 761 ، 782 - فتح: 3 \ 10]


[ ص: 37 ] ذكر فيه حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ ليلة فقال : "سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن ؟ . . " الحديث .

وحديث الزهري : أخبرني علي بن حسين ، أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره ، أنه - عليه السلام - طرقه وفاطمة . . الحديث .

وحديث عائشة : أنه - عليه السلام - صلى ذات ليلة في المسجد . . الحديث ، وعنها إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل . . إلى آخره .

الشرح :

أما قوله : (وطرق فاطمة وعليا ) قد أسنده في الباب .

ومعنى (طرقهما ) : أتاهما ليلا ، هذا هو المشهور ، وقيل : طرقه : أتاه .

وقوله في الحديث : (ليلة ) للتأكيد . وحكى ابن فارس أن طرق : أتى كما تقدم ، فعلى هذا يكون لنا ليلا على البيان لوقت مجيئه أنه كان بالليل .

وحديث أم سلمة سلف في باب العلم ، والعظة بالليل من كتاب العلم .

وحديث علي يأتي في تفسير سورة الكهف في قوله تعالى : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [الكهف : 54] .

وقوله فيه : ( "ألا تصليان ؟ " ) أي : النافلة .

وفيه : كراهة احتجاج علي ، وأراد منه أن ينسب نفسه إلى التقصير .

[ ص: 38 ] وفيه : أن السكوت يكون جوابا .

وفيه : ضرب الفخذ عند التوجع والأسف .

وفيه : تروعه بالقرآن ، وسرعة الانصراف عمن كره مقالته ، وحفظ علي لما رأى منه ، وبثه إياه ; ليتأسى به غيره ، وقبول خبر الواحد . ورواية الرجل عن أبيه عن جده .

وكان علي بن الحسين يوم قتل الحسين ابن سبع عشرة سنة . ولما أمر بقتل من أثبت منهم قام إليه عمرو بن حريث ، فنظر إليه ، فوجده قد أثبت ، فقال : لم ينبت فترك .

قال الزهري : وما رأيت قرشيا أفضل منه .

وقوله : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) [الكهف : 54] احتج به من قال : الإنسان ها هنا عام في سائر الناس المؤمن والكافر ، وقيل : هو الكافر خاصة مثل : إن الإنسان لفي خسر [العصر :2] فهذه أكثر من عشر فوائد معجلة .

وحديث عائشة : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل . أخرجه مسلم . وفي بعض الروايات تقديم قولها : (ما سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . ) إلى آخره على قولها : (إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل ) ، وحديثها الآخر سلف في باب إذا كان بين الإمام والقوم حائط وغيره .

[ ص: 39 ] إذا تقرر ذلك ، فالكلام على أحاديث الباب من أوجه :

أحدها :

قوله : (فيفرض عليهم ) . يحتمل وجهين ، كما قال ابن الجوزي .

أحدهما : فيفرضه الله تعالى .

والثاني : فيعملوا به اعتقادا أنه مفروض .

وقال ابن بطال : ظاهر حديث عائشة أن من الفرائض ما يفرضه الله تعالى على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم ; والأصول ترد هذا التوهم ، وذلك أن الله تعالى فرض على عباده الفرائض ، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم ، أراد محنتهم ، بذلك لتتم الحجة عليهم فقال : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [البقرة : 45] . وحديث موسى ليلة الإسراء حين رده من خمسين صلاة إلى خمس . قال : ويحتمل حديث عائشة -والله أعلم- معنيين :

أحدهما : أنه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته ، لقوله في الحديث الآخر : "لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " ، فدل على أنه كان فرضا عليه وحده .

وروى ابن عباس أن قيام الليل كان فرضا عليه ، فيكون معنى قول عائشة : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل . يعني : إن كان يدع عمله لأمته ، ودعواهم إلى فعله معه لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلا وقد فرضه الله عليه ، أو ندبه إليه ; لأنه كان أتقى أمته ، وأشدهم اجتهادا .

ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم ، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة في بيته ، فخشي أن يخرج [ ص: 40 ] إليهم ، والتزموا معه صلاة الليل أن يسوي الله -عز وجل- بينه وبينهم في حكمها ، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه ، إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة ، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيه سواء ، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة .

الثاني : أن يكون خشي من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيا لله تعالى في مخالفته لنبيه وترك اتباعه ، متوعدا بالعقاب على ذلك ; لأن الله تعالى فرض اتباعه فقال : واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف : 158] وقال في ترك اتباعه : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [النور : 63] فخشي على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه ; لأن طاعة الرسول كطاعته ، وكان - صلى الله عليه وسلم - رفيقا بالمؤمنين رحيما بهم . ويأتي في باب : ما يكره من السؤال . في كتاب الاعتصام ، زيادة إن شاء الله .

وقال ابن التين -بعد أن ذكر السؤال في أنه كيف يجوز أن تكتب عليهم صلاة الليل وقد أكمل الله عدد الفرائض ورد عدد الخمسين إلى الخمس- : قيل : صلاة الليل كانت مكتوبة عليه ، وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على الأمة الاقتداء به فيها ، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعل في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبا ، فترك الخروج إليهم في الليلة الرابعة لئلا يدخل ذلك في حد ما وجب ، والزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بأفعاله لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس ، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فتجب عليه ، ولا يدل ذلك على زيادة فرض في جملة الشرع المفروض في الأصل .

[ ص: 41 ] وجواب ثان ; وهو أن الله فرض الصلاة خمسين ثم حط معظمها بشفاعة نبيه وجعل عزائمها خمسا ، فإذا عادت الأمة فيما استوهبت وألزمت متبرعة ما كانت استعفت منه لم يستنكر ثبوته فرضا عليهم . وقد ذكر الله تعالى فريقا من النصارى ابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم ثم لامهم لما قصروا فيها في قوله : فما رعوها حق رعايتها [الحديد : 27] فخشي الشارع أن يكونوا مثلهم بقطع العمل شفقة على أمته .

وأجاب عن أمره أبا هريرة بالضحى والوصاية بها من وجهين :

أحدهما : أنه أفرده به وعلم أنه لا يثابر عليه الصحابة كمداومة أبي هريرة عليه ، فأمن الافتراض به .

قلت : لم يفرده به بل شاركه فيه أبو ذر وأبو الدرداء كما سلف .

والثاني : أن يكون أوصاه بالمداومة عليها بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، وهو وقت يؤمن فيه الافتراض .

قال الداودي : وفي تخلفه ; لئلا يفرض عليهم الفرار من قدر الله .

وفيه : صلاة النافلة جماعة ، والجمع في المسجد ليلا .

وقولها : (وما سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها ) . كذا ثبت من حديث عروة عنها ، والسبحة -بضم السين- النافلة . وقيل : الصلاة . قال تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين [الصافات : 143] قال المفسرون : من المصلين . وفي مسلم عنها من طريق عبد الله بن شقيق كما سلف : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى ؟ فقالت : لا ، إلا أن يجيء من مغيبه . وفيه عن معاذة عنها [ ص: 42 ] من حديث قتادة وغيره : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء . وفي رواية : ما شاء الله .

والمراد بالنفي في الأول في علمها ، وإثباتها بسبب وهو المجيء من السفر ، فلا تعارض وقول النسائي : خالفها عروة وعبد الله بن سفيان . وليس الأمر على ما ذهب إليه ; لأن عروة إنما روى عنها نفي صلاة الضحى لغير سبب . ورواية معاذة عنها أنه صلاها لسبب ، وذلك إذا قدم من سفر أو غيره كما سلف في الرواية الأخرى ، نبه على ذلك ابن التين .

وقال ابن الجوزي : رواية إثباتها مقدمة على نفيها .

وقال ابن عبد البر : وأما قولها : (ما سبح سبحة الضحى قط ) .

فهو : أن من علم من السنن علما خاصا يؤخذ به عند بعض أهل العلم دون بعض ، فليس لأحد من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره ، والإحاطة ممتنعة ، وإنما حصل المتأخرون على علم ذلك منذ صار العلم في الكتب ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثار كثيرة حسان في صلاة الضحى .

وذكر حديث أم هانئ ، ثم ذكر طريقا منه من حديث أبي الزبير عن عكرمة بن خالد عن أم هانئ أنها قالت : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، فصلى ثماني ركعات ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الصلاة ؟ قال : "صلاة الضحى " ، ثم قال : ألا ترى أن أم هانئ قد علمت من صلاة [ ص: 43 ] الضحى ما جهلت عائشة ؟ وأين أم هانئ في الفقه والعلم من عائشة .

ثم أورد أيضا حديث أبي ذر : "يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة " وفيه : "ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى " أخرجه مسلم ، وأوصى أبا ذر وأبا الدرداء وأبا هريرة بركعتي الضحى ، ثم روى حديث معاذ بن أنس في ذلك ، وإسناده لين ضعيف ، من حديث نعيم بن همار عنه ، فهؤلاء كلهم قد عرفوا من صلاة الضحى ما جهله غيرهم .

[ ص: 44 ] وذكر أيضا حديث عتبان بن مالك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيته سبحة الضحى ، وقاموا وراءه فصلوا . ثم قال : وقد كان الزهري يفتي بحديث عائشة ويقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل الضحى قط ، وإنما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلونها بالهواجر ، ولم يكن عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر يصلونها ولا يعرفونها . قال ابن عمر : وإنما صلاة القوم بالليل . وقال طاوس : أول من صلاها الأعراب . وقال ابن عمر : ما صليتها منذ أسلمت . أخرجه عبد الرزاق .

وروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها ، وما أحدث الناس شيئا أحب إلي منها ، وهذا نحو قول عائشة .

ثم ذكر حديث معاذة عنها في صلاتها وقال : إنه منكر غير صحيح عندي . وهو مردود ، وقد علمت أن مسلما أخرجه .

وجمع النووي بين حديث إثباتها ونفيها أنه كان يصليها وقتا ; ويتركها وقتا خشية الافتراض كما ذكرت عائشة ، ويتأول قولها : (ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه ) : على أن معناه : ما رأيته -كما قالت في الرواية الثانية- ما رأيته يصلي سبحة الضحى .

[ ص: 45 ] وسببه أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات ، فإما مسافر أو حاضر في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه ، ومتى يأتي يومها بعد تسعة ، فيصبح قولها : (ما رأيته يصليها ) . وتكون قد علمت بخبره أو خبر غيره أنه صلاها .

أو المراد بها : يصليها ما يداوم عليها . فيكون نفيا للمداومة لا لأصلها -قال- : وأما ما صح عن ابن عمر قال في الضحى : هي بدعة ، فمحمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها كما كانوا يفعلونه بدعة ; لا أن أصلها في البيوت ونحوها . أو يقال : قوله : بدعة . أي : المواظبة عليها ; لأن الشارع لم يواظب عليها خشية أن تفرض ، وهذا في حقه .

وقد ثبت استحباب المحافظة عليها في حقنا بحديث أبي الدرداء وأبي ذر وأبي هريرة . ويقال : إن ابن عمر لم يبلغه فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها وأمره بها ، وكيفما كان فالجمهور على استحبابها ، ولربما نقل التوقف فيها عن ابن عمر وابن مسعود .

وذكر المنذري وجها آخر فقال : ويجمع بينهما بأنها أنكرت صلاة الضحى المعهودة حينئذ عند الناس على الذي اختاره من السلف من صلاتها ثماني ركعات ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها أربعا ويزيد ما شاء ، فيصليها مرة ستا ومرة ثمانيا ، وأقل ما تكون ركعتين ، وقد رأى جماعة صلاتها في بعض الأيام دون بعض ; ليخالف بينها وبين الفرائض .

[ ص: 46 ] وقال عياض : إنه الأشبه عندي في الجمع .

وقال القرطبي : يحتمل أن يقال : إنما أنكرت عائشة الاجتماع لها في المسجد -أي : وإنما سنتها البيت- وهو الذي قال فيه عمر : بدعة .

قال : وقد روي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود أنهم كانوا لا يصلونها . قال : وهذا إن صح محمول على أنهم خافوا أن تتخذ سنة ، أو يظن بعض الجهال وجوبها ، ويحتمل أنها بدعة . أي : حسنة .

كما قال في قيام رمضان . وقد روي عنه : ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى . وهذا منه نص على ما تأولناه .

قال : وقول عائشة : (وإني لأسبحها ) بالسين المهملة والباء الموحدة ، وهي الرواية المشهورة ، أي : لأفعلها .

قلت : وفي "الموطأ " -كما عزاه ابن الأثير - : أنها كانت تصليها ثماني ركعات ، وروي عنها : لو نشر إلي أبواي من قبري ما تركتها .

قال : وقد وقع في "الموطأ " : لأستحبها . من الاستحباب ، والأول أولى .

ولعلها سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - الحض عليها ، وأنه إنما تركها -يعني : المداومة عليها- لأجل ما ذكرته قبل ، وهذا يشكل على ما صححه أصحابنا من أن الضحى كانت واجبة عليه وعلى أمته ، ومن شأنه أنه إذا عمل عملا أثبته .

[ ص: 47 ] فرع :

وأول وقتها ارتفاع الشمس ، وآخره ما لم تزل الشمس ، وأفضل وقتها ربع النهار ، كما قاله الغزالي في "الإحياء " ، والماوردي ، وهو حين ترمض الفصال ، وعند الأكثرين : أكثرها ثمانية .

وقال الروياني والرافعي وغيرهما : أكثرها اثنتا عشرة ركعة ، وفيه حديث ضعيف .

قال المهلب : في حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بصلاته ناس ائتموا به ، وهذا خلاف من أزرى فقال : سخره عمر ولم يثق إليه في مقالته ولا صدق ; لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذا ، إنما فعل عمر التخفيف عنهم فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر .

واحتج قوم من الفقهاء بقعوده - صلى الله عليه وسلم - عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة أو الرابعة وقالوا : إن صلاة رمضان في البيت أفضل للمنفرد من فعلها في المسجد . منهم مالك وأبو يوسف والشافعي ، وقال [ ص: 48 ] مالك : كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس ، وأنا أفعل ذلك ، وما قام - صلى الله عليه وسلم - إلا في بيته . وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسالم وعلقمة والأسود أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان . وقال الحسن البصري : لأن تفوه بالقرآن أحب إليك من أن يفاه عليك .

ومن الحجة لهم أيضا حديث زيد بن ثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - حين لم يخرج إليهم قال لهم : "إني خشيت أن تفرض عليكم ، فصلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " أخرجه مسلم ، فأخبر أن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد لا سيما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده .

وخالفهم آخرون فقالوا : صلاتها في الجماعة أفضل . قال الليث : لو أن الناس في رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد حتى لا يقوم (أحد ) فيها ، لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد حتى يقوموا فيه . لأن قيام الليل في رمضان الأمر الذي لا ينبغي تركه ، وهو مما سن الفاروق للمسلمين وجمعهم عليه . وذكر ابن أبي شيبة عن عبد الله بن السائب قال : كنت أصلي بالناس في رمضان ، فبينما أنا أصلي سمعت تكبير عمر على باب المسجد ، قدم معتمرا ، فدخل فصلى [ ص: 49 ] خلفي . وكان ابن سيرين يصلي مع الجماعة ، وكان طاوس يصلي لنفسه ويركع ويسجد معهم .

وقال أحمد : كان جابر يصليها في جماعة . وروي عن علي وابن مسعود مثل ذلك ، وهو قول محمد بن عبد الحكم ، وممن قال : إن الجماعة أفضل عيسى بن أبان والمزني وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران .

واحتج أحمد في ذلك بحديث أبي ذر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج لما بقي من الشهر سبع فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل ، ثم لم يصل بنا السادسة ، ثم خرج الليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله ، لو نفلتنا . فقال : "إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب قيام تلك الليلة " ثم خرج السابعة وخرجنا ، وخرج بأهله حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، وهو السحور . أخرجه ابن أبي شيبة .

وكل من اختار الانفراد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام في المسجد ، كما نبه عليه الطحاوي ، فأما الذي ينقطع منه ذلك فلا .

[ ص: 50 ] قال : وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان ، فصار هذا القيام واجبا على الكفاية ، فمن فعله كان أفضل ممن انفرد ، كالفروض التي على الكفاية ، أما الذين لا يصبرون ولا يقوون على القيام فالأفضل لهم حضورها ; ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ، ويقيموا السنة التي قد صارت علما . ذكره ابن القصار ، وهو مقالة عندنا .

وفي حديث أم سلمة وعلي -السالفين أول الباب- دلالة على فضل صلاة الليل ، وإنباه النائمين من الأهل والقرابة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أيقظ لها عليا وابنته من نومهما ; حثا لها على ذلك في وقت جعله الله لخلقه سكنا لما علم عظم ثواب الله تعالى عليها ، وشرفت عنده منازل أصحابها اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة ، وأيقظهن ليخبرهن بما أنزل ; ليزدادوا خشوعا ; وليصلوا ليلا . قالت عائشة : وإذا أراد أن يوتر أيقظني .

وفيه : السمر بالعلم .

وفي حديث علي رجوع المرء عما ندب إليه إذا لم يوجب ذلك ، وأنه

ليس للعالم والإمام أن يشتد في النوافل .

وقوله : (أنفسنا بيد الله ) كلام صحيح قنع به - صلى الله عليه وسلم - من العذر في النافلة ، ولا يعذر بمثل هذا في الفرض .

وقوله : (أنفسنا بيد الله ) هو كقول بلال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك . وهو معنى قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس [الزمر : 42]

[ ص: 51 ] الآية . أي أن نفس النائم ممسكة بيد الله ، وأن التي في اليقظة مرسلة إلى جسدها غير خارجة من قدرة الله ، فقنع - صلى الله عليه وسلم - بذلك وانصرف .

وأما ضربه فخذه وقوله : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) [الكهف : 54] فإنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم ، وكذلك لا يحرج الناس إذا حضوا على النوافل ولا يضيق عليهم ، إنما يذكروا في ذلك ويشار عليهم .

وقوله : ( "ماذا أنزل الليلة من الفتن ومن الخزائن " ) قاله لما أعلمه ربه تعالى بوحيه بأنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن ، وعرفه أن الفتن مقرونة بها بعده مخوفة على من فتحت عليه ، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى خوف التعرض لفتنة المال ، وقد استعاذ الشارع - صلى الله عليه وسلم - من فتنته كما استعاذ من فتنة الفقر .

وقوله : ( "وصواحب الحجرات " ) أزواجه . يعني : من يوقظهن لصلاة الليل ، وهو دال على أن الصلاة تنجي من شر الفتن ويعتصم بها من المحن .

وقوله : ( "كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " ) يريد : كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن ، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن ، وهن عاريات في الحقيقة ، فربما عوقبت في الآخرة بالتعري الذي كانت إليه مائلة في الدنيا مباهية بحسنها ، فعرف - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة تعصم من شر ذلك ، وقد فسر مالك أنهن لابسات رقيق الثياب ، وقد يحتمل -كما قال ابن بطال - أن يريد - صلى الله عليه وسلم - بذلك النهي عن لبس رقيق الثياب واصفا كان أو غير واصف خشية الفتنة .

[ ص: 52 ] وقال ابن التين : يحتمل وجهين : أن تكون ناعمة في الدنيا عجلت لها جنتها وتكون عارية يوم القيامة في الموقف والنار -أو في الموقف- ثم تصير إلى رحمة الله ، وأن تكون كاسية عند نفسها عارية عند الناس للباسها ما يصف ، كالغلائل ونحوها ، وما يشف كالثوب الرقيق الصفر يلصق بالبدن فلا يخفى عن الناظر شيء ، وهي عارية لظهور محاسنها ، وقيل : كاسيات من النعم عاريات من الشكر . وقيل : إنهن يكشفن بعض أجسادهن ، ويشددن الخمر من ورائهن فتنكشف صدورهن فكن كالعاريات ، ولا تستر جميع أجسادهن ، وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب العلم ، وأعدناه لطول العهد به ، وسيأتي لنا عودة إلى هذا في باب : لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ، من كتاب الفتن .

وقوله في أوله : ( "سبحان الله " ) هو تعظيم لما رأى ، وتنبيه أن من سمعه إذا صيح به التفت ، ومعنى : "سبحان الله " : تنزيهه وبراءته من السوء ، وقد سلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية