التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
92 92 - حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: " سلوني عما شئتم". قال رجل من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فقام آخر فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: "أبوك سالم مولى شيبة". فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله -عز وجل-. [7291 - مسلم: 2360 - فتح: 1 \ 187]


ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حدثنا محمد بن كثير أخبرني سفيان، عن ابن أبي خالد، عن [ ص: 448 ] قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان. فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: "أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي الصلاة عن محمد بن يوسف، عن سفيان . وعن أحمد بن يونس عن زهير . وفي الأدب عن مسدد، عن يحيى . وفي الأحكام في باب: الفتوى وهو غضبان، عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله .

وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، عن هشام. وعن أبي بكر، عن هشام، ووكيع وعن ابن نمير، عن أبيه. وعن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس به.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا شيخ البخاري، وأبو مسعود: عقبة بن عمرو سلفت ترجمته وكررها شيخنا قطب الدين في "شرحه".

وشيخ البخاري هو: أبو عبد الله محمد بن كثير العبدي البصري، أخو سليمان بن كثير، وسليمان أكبر منه بخمسين سنة.

[ ص: 449 ] روى عن أخيه سليمان وشعبة والثوري . وعنه البخاري وأبو داود، وغيرهما، وروى مسلم والترمذي والنسائي عن رجل عنه. مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين عن تسعين سنة.

قال أبو حاتم : صدوق. وقال يحيى بن معين : لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة. أخرج له مسلم حديثا واحدا في الرؤيا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا" عن الدارمي عنه عن أخيه سليمان .

فائدة:

ليس في الصحيحين محمد بن كثير غير هذا، وفي أبي داود والترمذي والنسائي محمد بن كثير الصنعاني . روى عن الدارمي، وهو ثقة اختلط بآخره.

ثالثها:

معنى قوله: (لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان) أنه كان رجلا ضعيفا، فكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع [ ص: 450 ] أو السجود إلا وقد ازداد ضعفا عن اتباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، كذا قاله أبو الزناد.

واستشكل القاضي ظاهرها وقال: لعل الألف زيدت بعد (لا) وقد رواه الفريابي : إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر، وجاء في غير البخاري : إني لأدع الصلاة، وفي لفظ: إني لأدع المسجد، إن فلانا يطيل بنا القراءة. والروايات يفسر بعضها بعضا.

رابعها:

فيه الأمر بالتخفيف، وما ورد من إطالته - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان محمول على تبيين الجواز أو أنه علم من حال من وراءه في تلك الصلاة إيثار التطويل، وسيأتي بسط ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني:

حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، ثنا أبو عامر ثنا سليمان بن بلال المديني، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن - يزيد مولى المنبعث - [ ص: 451 ] عن زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل عن اللقطة، فقال: "اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها- وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه". قال: فضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه -أو قال احمر وجهه- فقال: "وما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها". قال: فضالة الغنم قال: "لك، أو لأخيك، أو للذئب".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه في نحو عشرة مواضع، هنا كما ترى، وفي الشرب، في شرب الناس والدواب من الأنهار، عن إسماعيل، عن مالك .

وفي اللقطة في مواضع، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك . وعن قتيبة عن إسماعيل . وعن عمرو بن العباس، عن ابن مهدي . وعن محمد بن يوسف ; كلاهما عن سفيان . وفي الأدب عن محمد (عن) إسماعيل بن جعفر ; كلهم عن ربيعة .

وفي الطلاق، في باب حكم المفقود في أهله وماله، عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد به. وأخرجه [ ص: 452 ] في اللقطة أيضا عن إسماعيل بن عبد الله، عن ( سليمان )، عن يحيى، عن يزيد به.

وأخرجه مسلم في القضاء من طرق منها: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن ربيعة.

ثانيها: في التعريف برواته:

أما زيد بن خالد، فهو: أبو طلحة وقيل: أبو عبد الرحمن المدني من جهينة ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم -بضم اللام- بن الحاف بن قضاعة، شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. ومات سنة ثمان وسبعين عن خمس وثمانين سنة بالمدينة، أو بمصر، أو بالكوفة، أقوال. وليس في الصحابة زيد بن خالد سواه.

وأما الراوي عنه فهو: يزيد مولى المنبعث المدني . روى عن أبي هريرة، وزيد بن خالد . وعنه ربيعة، ويحيى بن سعيد، ثقة.

وأما الراوي عنه، فهو: الإمام العلامة أبو عثمان ربيعة بن أبي [ ص: 453 ] عبد الرحمن، فروخ، مولى آل المنكدر، فقيه المدينة، صاحب الرأي، القرشي، مولاهم، التابعي.

روى عن: السائب بن يزيد وأنس وابن المسيب.

وعنه: مالك، والليث وخلق.

وهو ثقة، إمام صاحب معضلات أهل المدينة ورئيسهم في الفتيا، وهو أستاذ مالك، وحظي به، فقيل له: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت نفسك؟ فقال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم. وإذا قال مالك : وعليه أهل بلدنا والمجتمع عليه عندنا، فإنه يعنيه.

قال يونس بن يزيد : رأيت أبا حنيفة عند ربيعة وكان مجهوده أن يحفظ ما قاله ربيعة، تركه أبوه حملا، ثم عاد بعد سبع وعشرين سنة فوجده إماما، وله معه عند عوده قصة مشهورة، أقدمه السفاح عليه الأنبار ; ليوليه القضاء فلم يفعل وعرض عليه العطاء فلم يقبل. ومات بالمدينة . وقيل: بالأنبار سنة ست وثلاثين ومائة، في خلافة أبي العباس أول خلفائهم. وباقي السند تقدم التعريف بهم.

ثالثها:

قوله: (اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها) كذا جاء هنا على الشك وجاء في موضع آخر منه بغير شك: "اعرف عفاصها ووكاءها" وفيه من حديث أبي : وجدت صرة مائة دينار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "عرفها حولا" فعرفتها [ ص: 454 ] فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: "عرفها حولا" فعرفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها" الحديث. قال الراوي: فلقيت، يعني: أبي بن كعب فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا.

وفي بعض طرق حديث زيد "اعرف وكاءها وعفاصها، وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها، وإلا فاخلطها بمالك". وفي بعضها: "عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه"

وفي مسلم : "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك" وفيه أيضا: "ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك".

رابعها:

اللقطة: -بضم اللام وفتح القاف- وهو: الشيء الملقوط . قال القاضي: لا يجوز غيره. وقال النووي : إنه المشهور.

قال الأزهري، عن الخليل : إنها بالإسكان، وبالفتح: الرجل الملتقط.

قال: والذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة ورواه الأخيار [ ص: 455 ] فتحها. كذا قال الأصمعي والفراء وابن الأعرابي . وفيه لغة ثالثة لقاطة بضم اللام، ولقط بفتحها، فهذه أربع لغات، وقد جمعها ابن مالك في بيت فقال:


لقاطه ولقطه ولقطه ولقط ما لاقط قد لقطه



والالتقاط: وجود الشيء من غير طلب، وهي مختصة بغير الحيوان كما قاله الأزهري، والحيوان يسمى ضالة وهوامي وهوافي بالفاء. قال البيهقي : وظن مطرف أنهما بمعنى -أعني: الضالة واللقطة- واستشكل حديث الجارود : "ضالة المؤمن حرق النار" ولا إشكال ولا نسخ لما لا من الفرق.

خامسها:

الوكاء -بكسر الواو وبالمد- الخيط الذي تشد به الصرة وغيرها.

يقال: أوكيته إيكاء، فهو موكى مقصور، والفعل منه معتل اللام بالياء، يقال: أوكى على ما في سقائه أي: شده بالوكاء، ومنه: أوكوا قربكم، ومن أمثالهم بذاك أوكا وأوكى يوكي كأعطى يعطي إعطاء.

وأما المهموز، بمعنى آخر، تقول: أوكأت الرجل: أعطيته ما يتوكأ [ ص: 456 ] عليه، واتكأ على الشيء بالهمز فهو متكئ.

سادسها:

الوعاء بكسر الواو، ويجوز ضمها، وهي قراءة الحسن: وعاء أخيه [يوسف: 76] وهي لغة. وقرأ سعيد بن جبير: (إعاء أخيه)، بقلب الواو همزة، ذكره الزمخشري.

والعفاص: بكسر العين المهملة ثم فاء، وهو: الوعاء من جلد أو غيره. ويقال أيضا للجلد الذي يكبس رأس القارورة; لأنه كالوعاء له وهو المسمى بالصمام بكسر الصاد المهملة.

والسداد: بكسر السين المهملة، وهو بالفتح: القصد في الدين والسبيل. وقيل العفاص: ما يدخل فيه رأس القارورة ونحوها، والسداد والصمام: ما يدخل فيها، حكاه البطليوسي في "شرح أدب الكاتب".

سابعها:

الوجنة: ما علا من لحم الخدين، وهي مثلثة الواو وفيها لغة رابعة أجنة بضم الهمزة، حكاهن الجوهري وغيره.

والسقاء والحذاء، بكسر أولهما وبالمد، والحذاء: الخف. واستعار - صلى الله عليه وسلم - ذلك لها تشبيها بالمسافر الذي معه الحذاء والسقاء فإنه يقوى على قطع المفاوز، وذلك لأنها تشرب وتملأ أكراشها لما يكفيها الأيام.

[ ص: 457 ] ثامنها:

إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء; ليعرف صدق واصفها من كذبه، ولئلا يختلط بماله، ويستحب التقييد بالكتابة (خوف النسيان).

وعن ابن داود من الشافعية: أن معرفتهما قبل حضور المالك مستحب، وقال المتولي: يجب معرفتهما عند الالتقاط، ويعرف أيضا الجنس والقدر وكيل المكيل وطول الثوب وغير ذلك ودقته وصفاقته.

تاسعها:

قوله: (ثم عرفها سنة) الإتيان بـ "ثم" هنا دال على المبالغة وسعة التثبت في معرفة العفاص والوكاء، إذ كان وضعها للتراخي والمهلة، فكأنه عبارة عن قوله: لا تعجل وتثبت في عرفان ذلك، وهو مؤيد لما أسلفناه عن ابن داود.

العاشر:

الأمر بالاستمتاع بها أمر إباحة لا وجوب.

الحادي عشر:

قوله: (فإن جاء ربها فأدها إليه) الرب، هنا المالك. أي: إذا تحقق صدق واصفها إما بوصفه لها بأمارة وإما ببينة وجب ردها إليه بعد تعريف الملتقط إياها، وفي التحليف عند وصفها قولان في مذهب مالك .

الثاني عشر:

غضبه - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان استقصارا لعلم السائل، وسوء فهمه، إذ لم يراع المعنى المشار إليه ولم يتنبه له فقاس الشيء على غير نظيره، فإن اللقطة إنما هي اسم للشيء الذي يسقط من صاحبه ولا يدري أين [ ص: 458 ] موضعه، وليس كذلك الإبل، فإنها مخالفة اللقطة اسما وصفة، فإنها غير عادمة أسباب القدرة على العود إلى ربها لقوة سيرها.

وكون الحذاء والسقاء معها; لأنها ترد الماء ربعا وخمسا، وتمتنع من الذئاب وغيرها من صغار السباع، ومن التردي وغير ذلك، بخلاف الغنم، فإنها بالعكس، فجعل سبيل الغنم سبيل اللقطة.

الثالث عشر:

قوله: (قال: فضالة الغنم؟ قال: "لك"..) إلى آخره أي: إنها مضيعة إن لم تأخذها أنت أخذها أخوك. أي: غيرك. أو أكلها السبع، وأبعد من قال: المراد به هنا: صاحبها. ونبه بقوله: "أو للذئب" أنها كالتالفة على كل حال.

الرابع عشر: في أحكامه:

وستأتي مبسوطة في بابه حيث ذكره إن شاء الله.

ونقدم هنا مسائل:

الأولى: جواز أخذ اللقطة، وهل هو مستحب أو واجب؟ فيه خلاف، وتفصيل محله كتب الفروع، والأصح عدم الوجوب.

ثانيها: وجوب التعريف سنة، وهو إجماع، كما حكاه القاضي، قال: ولم يشترط أحد تعريف ثلاث سنين، إلا ما روي عن عمر، ولعله لم يثبت عنه.

قلت: وقد روي عنه أنه يعرفها ثلاثة أشهر، وعن أحمد: يعرفها شهرا، حكاه المحب الطبري في "أحكامه" عنه. وحكي عن آخرين: أنه يعرفها ثلاثة أيام، وحكاه عن الشاشي.

[ ص: 459 ] وحديث أبي السالف مخالف لباقي الأحاديث، فيحمل على زيادة الاحتياط، ثم هذا إذا أراد تملكها، فإن أراد حفظها على صاحبها فقط; فالأكثرون من أصحابنا على أنه لا يجب التعريف والحالة هذه، والأقوى الوجوب.

الثالثة: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين القليل والكثير في وجوب التعريف وفي مدته، والأصح عند الشافعية أنه لا يجب التعريف في القليل سنة، بل يعرفه زمنا يظن أن فاقده يعرض (عنه) غالبا، والأصح في ضابط الحقير من الأوجه الخمسة أنه ما يقل أسف فاقده عليه غالبا.

الرابعة: وجوب ردها إلى صاحبها بعينها أو ما يقوم مقامه بعد تعريفها، وأغرب الكرابيسي من الشافعية فقال: لا يلزمه ردها ولا رد بدلها، وهو قول داود في البدل وقول مالك في الشاة.

الخامسة: لا فرق في إباحة الاستمتاع بها بعد التعريف بين الغني والفقير، وأباحه أبو حنيفة للفقير، وعن علي وابن عباس : يتصدق بها ولا يأكلها، وهو قول ابن المسيب، والثوري . وقال مالك : يستحب أن يتصدق بها مع الضمان. وقال الأوزاعي في المال الكثير: يجعله في بيت المال بعد السنة.

[ ص: 460 ] السادسة: امتناع التقاط ضالة الإبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها، وخالف أبو حنيفة فقال: يجوز التقاطها مطلقا.

وعند الشافعية: يجوز للحفظ فقط، إلا أن توجد بقرية أو بلد فيجوز للتملك على الأصح.

وعند المالكية ثلاثة أقوال في التقاط الإبل ثالثها: يجوز في القرى دون الصحراء.

قيل: نهي عن التقاطها إذ بقاؤها حيث ضلت أقرب لأن يجدها ربها من أن يطلبها في أملاك الناس أو للمنع من التصرف فيها بعد التعريف أو لأكلها أو لركوبها.

قالوا: وكان هذا أول الإسلام وعليه استمر الأمر في زمن أبي بكر، وعمر، فلما كان زمن عثمان وكثر فساد الناس واستحلالهم رأوا التقاطها وضمها والتعريف بها، وإن لم يأت لها صاحب بيعت ووقف ثمنها إلى أن يأتي صاحبها، وبه قال مالك في رواية: لا يأخذها ولا يعرفها قبل ذلك; لما رأى من جور الأئمة، وقال الليث: إن وجدها في القرى عرفها، وفي الصحراء لا يعرفها.

السابعة: في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته (عن) صغار السباع كالفرس والأرنب والظبي، وعند المالكية خلاف في ذلك، (ثالثها): (لابن القاسم) يلحق البقر دون غيرها إذا كانت بمكان لا يخاف [ ص: 461 ] عليها فيه من السباع.

الثامنة: جواز التقاط الشاة إذا خيف إتلاف ماليتها على مالكها، وفي معناها كل ما يسرع إليها الفساد من الأطعمة فيأكله ويضمنه، وقال ابن القاسم : إذا وجدها في مفازة أو فلاة أكلها من غير تعريف ولا ضمان، واستدل المازري له بقوله: "هي لك" وظاهره التمليك والملك لا يعرف، وأجاب الأول بأن اللام للاختصاص.

التاسعة: التعريف يكون على العادة كما أوضحناه في كتب الفروع.

العاشرة: فيه جواز قول: رب المال ورب المتاع، ورب الماشية، بمعنى صاحبها، وأبعد من كره إضافته إلى ما له روح، دون الدار والمال ونحوه.

الحادية عشرة: جواز الحكم (والفتوى) في حال الغضب، وتعوده وهو مكروه في حقنا بخلافه; لأن غضبه لله وهو مأمون، وقد حكم أيضا للزبير في شراج الحرة في حال غضبه.

الثانية عشرة: إذا عرفها سنة لم يملكها حتى يحتازه بلفظ على (أصح الأوجه) عندنا، وقيل: يكفي النية. وقيل: يملك بمضي السنة، وإن لم يرض بالتملك إذا كان قصد عند الأخذ التملك بعد التعريف لأنه جاء في رواية لمسلم : "وإلا فهي لك".

[ ص: 462 ] الحديث الثالث:

ثنا محمد بن العلاء ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: "سلوني عما شئتم". قال رجل من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فقام آخر فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: "أبوك سالم مولى شيبة". فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله -عز وجل-.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع: هنا كما ترى.

ثانيها: في الاعتصام في باب: ما يكره من كثرة السؤال، وفيه: فلما رأى عمر ما في وجهه من الغضب; عن يوسف بن موسى.

ثالثها: في الفضائل، عن أبي كريب وعبد الله بن براد ; كلهم عن أبي أسامة به.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف، وحذافة ولده عبد الله وهو السائل، وقد ذكره البخاري في الباب بعده أصرح منه.

ثالثها:

فيه النهي عن كثرة السؤال، وسيأتي حديث سعد : "إن أعظم [ ص: 463 ] المسلمين جرما من سأل عن شيء، فحرم من أجل مسألته". وحديث المغيرة : النهي عن كثرة السؤال. وحديث أنس أيضا، وكلها محمولة على السؤال تكلفا وتعنتا، وما لا حاجة له به كسؤال اليهود.

أما من سأل لحادثة وقعت له فلا ذم عليه بل هو واجب. قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل: 43].

وأما قوله: لا تسألوا عن أشياء [المائدة: 101] فالنهي عن السؤال عما لا فائدة فيه، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب التفسير عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت الآية.

ويجوز أن يكون (النهي) عما لم يذكر في القرآن مما عفا عنه، فحرم من أجل ذلك كما سلف في الحديث، وربما كان في الجواب ما يسوء السائل، كما في الآية.

رابعها:

سبب غضبه - صلى الله عليه وسلم - كثرة السؤال وإحفاؤهم في المسألة وفيه إيذاء له، قال تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة [الأحزاب: 57] فلما أكثروا عليه قال: "سلوني عما شئتم" وأخبر بما سألوه، وسكوته عند قول عمر دليل على أنه إنما قال ذلك غضبا، [ ص: 464 ] وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أجاز لهم ترك تلك المسائل، فلما سألوه أجابهم، ولما رأى عمر حرصهم وقدر ما علمه الله خشي أن يكون ذلك كالتعنت له، والشك في أمره; فقال: إنا نتوب إلى الله.

وقال في الحديث الآتي: (رضينا بالله ربا).. إلى آخره، فخاف أن تحل بهم العقوبة لتعنتهم له، ولقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء [المائدة: 101] ولهذا قال لذلك السائل أين أبي؟ "هو في النار"; لأنه كان منافقا مستوجبا لها أو عاصيا، وأبعد من قال: إنه قاله عقابا; لتعنته بسؤاله، فاستوجب ذلك.

خامسها:

قول الرجل: (من أبي؟) إنما سأله عن ذلك -والله أعلم- لأنه كان ينتسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدا فنسبه - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه. قال ابن بطال : وفي الحديث فهم عمر، وفضل علمه، وأن العالم لا يسأل إلا فيما يحتاج إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية