التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1094 [ ص: 96 ] 14 - باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل

وقال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون أي : ما ينامون .

1145 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له " . [6321 ، 7494 - مسلم : 758 - فتح: 3 \ 29]


ثم ذكر حديث أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له " .

الشرح :

الهجوع : نوم الليل خاصة . وقيل في معنى الآية : قل ليلة تمر عليهم لم يصيبوا فيها خيرا .

وقوله : (أي : ينامون ) . هو ما فسره به جماعات . قال إبراهيم : قليلا ما ينامون . وقال الضحاك : قليلا من الناس . وقال أنس : يصلون طويلا ما ينامون . وعن الحسن : كانوا يتنفلون بين العشاء والعتمة .

فعلى قول إبراهيم يجوز أن تكون (ما ) زائدة أو مصدرا مع ما بعدها ، وهو قول أهل اللغة . وعلى قول أنس والحسن (ما ) نافية . وعلى قول الضحاك هذا الصنف قليل من الناس .

[ ص: 97 ] وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم والأربعة ، ويأتي في الدعوات والتوحيد . قال الترمذي : وفي الباب عن علي وابن مسعود وجبير بن مطعم ورفاعة الجهني وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص .

وقال الطرقي : في الباب : (ورافع بن عرابة ) وابن عباس وجابر بن عبد الله وعمرو بن عنبسة وأبي موسى . وقال ابن الجوزي : حديث النزول رواه جماعة منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود والنواس بن سمعان وأبو ثعلبة الخشني وعائشة في آخرين . وعدد بعض من أسلفناه .

إذا تقرر ذلك ، فالكلام عليه من أوجه :

أحدها :

الحديث ليس فيه ذكر الصلاة لكنها محل الدعاء والاستغفار والسؤال ، وترجم له في الدعاء باب : الدعاء نصف الليل . ومراده : النصف الأخير . فإنه قال : حين يبقى ثلث الليل الآخر .

ثانيها :

قوله : ( "ينزل " ) هو بضم أوله ، من أنزل . قال ابن فورك : ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بضم الياء من ينزل ، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين . وكذا قال [ ص: 98 ] القرطبي : قد قيده بعض الناس بذلك فيكون معدى إلى مفعول محذوف . أي : ينزل الله ملكا . قال : والدليل على صحة هذا ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله -عز وجل- يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع فيستجاب له " الحديث . وصححه عبد الحق .

الثالث :

جاء هنا : "حين يبقى ثلث الليل الآخر " .

[ ص: 99 ] وكذا أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من "صحيحه " ، وأخرجه مسلم بألفاظ :

أحدها : هذا .

ثانيها : "حين يمضي ثلث الليل الأول " .

ثالثها : "لشطر الليل -أو ثلث الليل- الآخر " .

وذكر الترمذي أن الرواية الأولى أصح الروايات ، وصححها أيضا غيره ، فذكر القاضي عياض أن النزول عند مضي الثلث الأول . و "من يدعوني . . " إلى آخره في الثلث الآخر . وقال : يحتمل الشارع أعلم بالأول فأخبر به ثم بالثاني فأخبر به ، فسمع أبو هريرة الخبرين فنقلهما ، وأبو سعيد خبر الثلث الأول فأخبر به مع أبي هريرة . وقال ابن حبان في "صحيحه " : صح "حين يمضي شطر الليل أو ثلثاه " ، و "حين يبقى ثلث الليل الآخر " ، و "حتى يذهب ثلث الليل الأول " ، فيحتمل أنه في بعض الليالي : حين يبقى ثلث الليل الآخر ، وفي بعضها حين يبقى ثلث الليل الأول .

قلت : ويجوز -والله أعلم- أن يكون ابتداء الأمر من أول الثلث الثاني إلى الثالث .

[ ص: 100 ] ثم اعلم أن صفات القديم جل جلاله إما أن يكون استحقها لنفسه أو لصفة قامت به أو لفعل يفعله ، ولا يطلق شيء من الألفاظ في أوصافه وأسمائه المتفرعة عما تقدم إلا بتوقيف كتاب أو سنة أو اتفاق الأمة دون قياس ، فلا مجال له فيها ، وقيل ما يرد من مثل هذه الأخبار من مثل هذا اللفظ -أعني : ينزل- إلا ونظيره في القرآن . قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر : 22] و هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة : 210] ، وقوله : فأتى الله بنيانهم من القواعد [النحل : 26] وأهل البدع يحملونها إذا وردت في القرآن على التأويل (الصحيح ) ، ويأتون من جمل الأخبار على مثل ذلك جحدا منهم لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، واستخفافا بذوي النهى الناقلين ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره [التوبة : 32] .

ولا فرق بين الإتيان والمجيء والنزول إذا أضيف إلى جسم يجوز عليه الحركة والنقلة التي هي تفريغ مكان وشغل غيره ، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته تعالى ، فالنزول لغة يستعمل لمعان خمسة مختلفة : بمعنى الانتقال : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [الفرقان : 48] والإعلام : نزل به الروح الأمين [الشعراء : 193] أي : أعلم به الروح الأمين [ ص: 101 ] محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وبمعنى القول : سأنزل مثل ما أنزل الله [الأنعام : 93] أي : سأقول مثل ما قال . والإقبال على الشيء ، وذلك مستعمل في كلامهم جار في عرفهم ، يقولون : نزل من مكارم الأخلاق إلى دنيها . أي : أقبل إلى دنيها ونزل قدر فلان عند فلان إذا انخفض ، وبمعنى نزول الحكم ، من ذلك قولهم : كنا في خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان .

أي : حكمهم . وذلك كله متعارف عند أهل اللغة .

وإذا كانت مشتركة المعنى وجب حمل ما وصف به الرب جل جلاله من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعاني التي لا تقتضي له ما لا يليق بنعته من إيجاب حدث يحدث في ذاته ، وهو إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستعطاف بالتذكير والتشبه الذي يلقى في قلوب أهل الخير منهم ، والزواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة ووجدناه تعالى [ ص: 102 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ ص: 103 ] خص بالمدح المستغفرين بالأسحار ، ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره فيضاف إليه كما يقال : ضرب الأمير اللص ، ونادى الأمير في البلد ، وإنما أمر بذلك فيضاف إليه الفعل كما مضى أنه عن أمره ظهر ، إذا احتمل ذلك في اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا الدعاء والنداء فيضاف ذلك إلى الله .

وحديث النسائي السالف يعضده ، وقد سئل الأوزاعي عن معنى هذا الحديث فقال : يفعل الله ما يشاء ، وهذه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه -عز وجل- ، وذكر حديث كاتب مالك عنه أنه قال في هذا الخبر : ينزل أمره ورحمته ، وقد رواه مطرف عنه أيضا ، وأنكر بعض المتأخرين هذا اللفظ ، فقال : كيف يفارقه أمره ؟ . وهذا كلام من اعتقد أنه ينزل أمره القديم ، وليس كذلك ، وإنما المراد ما أشرنا إليه ، وهو ما يحدث عن أمره ، قال الإمام أبو بكر محمد بن فورك : روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يؤيد هذا التأويل ، وهو بضم الياء من ينزل ، وقد تقدم نقل ذلك عنه ، فإذا كان ذلك محفوظا فوجهه ظاهر .

[ ص: 104 ] وقد سئل بعض العلماء عن حديث التنزيل ، فقال : تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم : لا أحب الآفلين [الأنعام : 76] فطلب ربا لا يجوز عليه الانتقال والحركات ، ولا يتعاقب عليه النزول ، وقد مدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه في كتابه بقوله : وكذلك نري إبراهيم إلى قوله : من الموقنين [الأنعام : 75] فوصفه باليقين ، وحكي عن بعض السلف في هذا الحديث وشبهه الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها .

وكان مكحول والزهري يقولان : أمروا الأحاديث . وقال أبو عبد الله : نحن نروي هذه الأحاديث ولا نرفع بها المعاني . وإلى نحو هذا نحى مالك في سؤال الاستواء على العرش .

وحمل الداودي مذهبه في هذا الحديث على نحو من ذلك وقال فيما تقدم عنه : نقله حبيب ، وليس حبيب بالقوي . وضعفه غيره أيضا لكنا أسلفنا أنه لم ينفرد به .

فصارت مذاهب العلماء في هذا الحديث وشبهه ثلاثة :

فرقة قائلة بالتأويل كما سلف محتجين بالحديث الآخر : "إذا تقرب [ ص: 105 ] إلي ذراعا تقربت منه باعا ، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة " . وفرقة قالت بالوقف عن جميعها . وفرقة قالت بالتأويل في بعضها .

سئل مالك في "العتبية " عن الحديث الذي جاء في جنازة سعد بن معاذ في العرش : قال : لا يتحدث به ، وما يدعو الإنسان إلى أن يتحدث به ، وهو يرى ما فيه من التغرير ؟!

وحديث "إن الله خلق آدم على صورته " . وحديث الساق .

قال ابن القاسم : لا ينبغي لمن يتقي الله أن يتحدث بمثل هذا . قيل له : فالحديث الذي جاء : إن الله يضحك . فلم يره من هذا وأجازه ، وكذلك حديث النزول . ويحتمل أن يفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن حديث النزول والضحك صحيحان لا طعن فيهما ، وحديث اهتزاز العرش قد سلف الإنكار له والمخالفة فيه من الصحابة . وحديث الصورة والساق ليس تبلغ أسانيدهما في الصحة درجة حديث النزول .

[ ص: 106 ] والثاني : أن التأويل في النزول أبين وأقرب ، والعذر بسوء التأويل فيها أبعد ، وبالله التوفيق .

وفي الحديث أيضا أن آخر الليل أفضل الدعاء والاستغفار ، قال تعالى : وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات : 18] وروى محارب بن دثار ، عن عمه ، أنه كان يأتي المسجد في السحر ويمر بدار ابن مسعود ، فيسمعه يقول : اللهم إنك أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت ، وهذا سحر فاغفر لي . فسئل ابن مسعود عن ذلك فقال : إن يعقوب - عليه السلام - أخر نيته إلى السحر بقوله : سوف أستغفر لكم ربي . وروى الجريري أن داود سأل جبريل ، أي الليل أسمع ؟ فقال : لا أدري غير أن العرش يهتز في السحر .

وقوله : أسمع ، يريد أنها أرفع للسمع ، والمعنى أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة ، وهذا كقول ضماد حين عرض عليه الشارع الإسلام فقال : سمعت كلاما لم أسمع قط كلاما أسمع منه ، يريد أبلغ ولا أنجع في القلب

التالي السابق


الخدمات العلمية