التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1108 [ ص: 143 ] 24 - باب: من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع

1161 - حدثنا بشر بن الحكم ، حدثنا سفيان قال : حدثني سالم أبو النضر ، عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة . [انظر : 619 - مسلم : 743 - فتح: 3 \ 43]


ذكر فيه حديث أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة .

الشرح :

أما حديثها الثاني فأخرجه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه : كان إذا صلى ركعتي الفجر ، فإن كانت له إلي حاجة كلمني وإلا خرج إلى الصلاة . ثم قال : وقد كره بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم الكلام بعد طلوع الفجر حتى يصلي صلاة الفجر ، إلا ما كان من ذكر الله أو مما لا بد منه ، وهو قول أحمد وإسحاق .

ولفظ أبي داود : وكان إذا قضى صلاته من آخر الليل نظر ، فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإن كنت نائمة أيقظني وصلى الركعتين ، ثم اضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح ، فيصلي ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة .

[ ص: 144 ] وراويه عن أبي سلمة سالم أبو النضر ، وراويه عن سفيان وهو ابن عيينة .

قال البيهقي : ورواه مالك خارج "الموطأ " عن سالم فذكر الحديث عقب صلاة الليل ، وذكر اضطجاعه بعد ركعتين قبل ركعتي الفجر ، وساق طريق أبي داود السالفة ، ثم قال : وهذا بخلاف رواية الجماعة عن أبي سلمة . ثم ساق طريق مسلم عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى من الليل ثم أوتر ثم صلى الركعتين ، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يأتيه المؤذن . ثم أخرج من طريق الحميدي : حدثنا سفيان ، ثنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة عنها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة ، فإذا أراد أن يوتر حركني برجله ، وكان يصلي الركعتين فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع حتى يقوم إلى الصلاة .

قال الحميدي : كان سفيان يشك في حديث أبي النضر ويضطرب فيه ، وربما شك في حديث زياد ، ويقول : يختلط علي .

ثم قال غير مرة : حديث أبي النضر كذا ، وحديث زياد كذا ، وحديث محمد بن عمرو كذا ، على ما ذكرت كل ذلك .

وأما حديثها الأول ، فهو من أفراد البخاري ، وأخرجه البيهقي من حديث معمر ، عن الزهري ، عن عروة عنها ، ثم قال : أخرجه البخاري وكذلك رواه الأوزاعي وجماعات عددهم عن الزهري ، وكذلك قاله أبو الأسود ، عن عروة ، عن عائشة .

[ ص: 145 ] قلت : هو طريق البخاري وخالفهم مالك ، فذكر الاضطجاع بعد الوتر ، ثم ساقه وعزاه إلى مسلم ، كذا قاله مالك ، والعدد أولى بالحفظ من الواحد ، قال : ويحتمل أن يكونا محفوظين ، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر ، واختلف فيه أيضا عن ابن عباس ، فروي عنه أنه كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع .

وروى كريب عنه ما دل على أن اضطجاعه كان بعد الوتر ، قال : ويحتمل في ذلك ما احتمل في رواية مالك . وذكر عن الذهلي أن الصواب الاضطجاع بعد الركعتين .

وقال مسلم في "التمييز " : وهم مالك في ذلك ، وخولف فيه عن الزهري ، وسلف عن جماعة رووا عنه أن الاضطجاع بعدهما إذا علمت ذلك .

واختلف العلماء في الضجعة بعد ركعتي الفجر ، فذهبت طائفة إلى أنها سنة يجب العمل بها ، وعبارة ابن عبد البر : ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع ، وزعموا أنها سنة ، واحتجوا بحديث الباب وغيره بما ذكرناه ، وقال : هكذا قال كل من رواه عن ابن شهاب ، إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع فيه بعد الوتر ، واحتجوا أيضا بحديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا صلى أحدكم ركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه " .

[ ص: 146 ] وذهبت طائفة إلى أنها ليست سنة ، وإنما كانت راحة لطول قيامه ، واحتجوا بالحديث الثاني عن عائشة ، وقد قال ابن القاسم عن مالك : إنه لا بأس بها إن لم يرد بها الفضل . وقال الأثرم : سمعت أحمد يسأل عنها فقال : ما أفعله أنا ، فإن فعله رجل . ثم سكت ، كأنه لم يعبه إن فعله . قيل له : لم لم تأخذ به ؟ قال : ليس فيه حديث يثبت . قلت له : حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . قال : رواه بعضهم مرسلا .

وقال ابن العربي : إنه معلول ; لم يسمعه أبو صالح من أبي هريرة ، وبين الأعمش وأبي صالح كلام .

وذكر البيهقي أن الأول في رواية أبي هريرة فكأنه فعله - صلى الله عليه وسلم - ; للرواية التي هي عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي صالح سمعت أبا هريرة يحدث مروان بن الحكم ، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بينها وبين الصبح بضجعة على شقه الأيمن .

وذكر الأثرم من وجوه عن ابن عمر أنه أنكره ، وقال : إنها بدعة .

وعن إبراهيم وأبي عبيدة وجابر بن زيد ، أنهم أنكروا ذلك ، ومشهور مذهب مالك أنها لا تسن . وقال عياض في هذا الاضطجاع : الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر .

[ ص: 147 ] وفي الرواية الأخرى عنها ، أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يضطجع بعد ركعتي الفجر .

وفي حديث ابن عباس أن الاضطجاع كان كالأول قال : وهذا فيه رد على الشافعي وأصحابه ، في أن الاضطجاع بعدها سنة .

قال : وذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنها بدعة ، وأشار إلى أن رواية الاضطجاع مرجوحة ، ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلها أنه سنة ، فكذا بعدهما .

وقالت عائشة : فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع . فهذا يدل على أنه ليس بسنة ، واعترض النووي فقال : الصحيح -أو الصواب إن شاء الله- أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة ، لحديث أبي هريرة السالف : "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه " . رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح على شرط الشيخين . وقال الترمذي : حسن صحيح ، قال : فهذا صحيح صريح في الأمر بالاضطجاع .

وأما حديث عائشة بالاضطجاع بعدها وقبلها ، وحديث ابن عباس قبلها ، فلا يخالف هذا ، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلها ألا يضطجع بعدها ولعله - عليه السلام - ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات بيانا للجواز لو ثبت الترك فلعله كان يضطجع قبل وبعد .

وقال القرطبي : هذه ضجعة الاستراحة ، وليست بواجبة عند الجمهور ، ولا سنة خلافا لمن حكم بوجوبها من أهل الظاهر ، ولمن [ ص: 148 ] حكم بسنتها ، وهو الشافعي . وذكر حديث عائشة : فإن كنت مستيقظة حدثني . . . الحديث .

وذكر البيهقي عن الشافعي أنه أشار إلى الاضطجاع للفصل بين النافلة والفريضة . ثم سواء كان ذلك الفصل بالاضطجاع ، أو التحديث ، أو التحول عن ذلك المكان أو غيره ، والاضطجاع غير متعين لذلك .

ولما ذكر ابن بطال أن هذه الضجعة سنة يجب العمل بها أنه فعلها أنس ، وأبو موسى الأشعري ، ورافع بن خديج ، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبي شيبة ، وروى مثله عن ابن سيرين ، وعروة .

قلت : وحكاها ابن حزم عن جماعة : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، وأبي موسى الأشعري ، وأصحابه ، وأبي الدرداء ، وأبي رافع ، كذا قال ، وإنما هو رافع بن خديج ، قال : -يعني ابن بطال - وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام وكرهوها ، وممن كرهها النخعي .

وذكر ابن أبي شيبة قال : قال أبو الصديق الناجي : رأى ابن عمر قوما قد اضطجعوا بعد ركعتي الفجر ، فأرسل إليهم فنهاهم ، فقالوا :

[ ص: 149 ] نريد السنة . قال ابن عمر : ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة . ورواه البيهقي أيضا .

وعن ابن المسيب قال : رأى ابن عمر رجلا اضطجع بعد الركعتين ، فقال : احصبوه .

وقال أبو مجلز : سألت -أعني : ابن عمر- عنها فقال : يتلعب بكم الشيطان .

وعن مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر والحضر فما رأيته اضطجع بعد ركعتي الفجر . وعن إبراهيم قال : قال عبد الله : ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة والحمار ، إذا سلم فقد فصل . ونحوه عن ابن جبير ، وعن الحسن بن عبيد الله قال : كان إبراهيم يكره الضجعة المذكورة . وعنه أنها ضجعة الشيطان ، وعن الحسن كراهتها .

وقال ابن جبير : لا يضطجع بعد الركعتين قبل الفجر ، واضطجع بعد الوتر -وكل هذه الآثار في كتاب ابن أبي شيبة - وعن عبد الكريم أن عروة دخل المسجد والناس في الصلاة فركع ركعتين ، ثم أمس جنبه الأرض ، ثم قام فدخل مع الناس في الصلاة . وعن ابن عون ، عن محمد كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع . وعن أبي هريرة الأمر بها .

وفي أبي داود عن أبي بكرة قال : خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة [ ص: 150 ] الصبح ، وكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله ، فيه أبو الفضل الأنصاري ، وهو غير مشهور . وقال المهلب : هذه الضجعة منه إنما كانت في الغب ; لأنه كان أكثر عمله أن يصليها إذا جاء المؤذن للإقامة . وقال ابن قدامة : إنها سنة على جنبه الأيمن . وأنكره ابن مسعود . وكان القاسم وسالم (يفعلونه ) . واختلف فيه عن ابن عمر . وروي عن أحمد أنه ليس بسنة ; لأن ابن مسعود أنكره .

وحكمة الاضطجاع على الأيمن أن لا يستغرق في النوم ; لأن القلب في جهة اليسار ، فيتعلق حينئذ فلا يستغرق ، بخلاف ما إذا نام على يساره فإنه في دعة واستراحة فيستغرق .

قال ابن بطال : والحديث الثاني يبين أن الضجعة ليست بسنة ، وأنها للراحة ، من شاء فعلها ، ومن شاء تركها . ألا ترى قول عائشة : (فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع ) . فدل أن اضطجاعه إنما كان يفعله إذا عدم التحديث معها ; ليستريح من نصب القيام .

وفي سماع ابن وهب : قيل : فمن ركع ركعتي الفجر ، أيضطجع على شقه الأيمن ؟ قال : لا . يريد : لا يفعله استنانا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله استنانا ، وكان ينتظر المؤذن حتى يأتيه .

وإنما ترك الشارع الاستغفار وحدثها ، وقد مدح تعالى المستغفرين بالأسحار ; لأن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده . ومنه [ ص: 151 ] قيل للسحور : سحور ; لأنه طعام في السحر قبل الفجر ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أخذ بأوفر الحظ من القيام ، واستغفار الملك العلام . وقد سلف أنه قبل الفجر مطلوب ، لقوله : "من يستغفرني فأغفر له ؟ " والتكلم في أثنائه من شأن يصلحه ، وعلم ينشره لا يخرجه عن الاسم المرغوب .

واختلف السلف في الكلام بعد ركعتي الفجر ، فقال نافع : كان ابن عمر ربما تكلم بعدهما . وقال إبراهيم : لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعدهما . وعن الحسن وابن سيرين مثله . وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير . وكان مالك يتكلم في العلم بعد ركعتي الفجر ، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس .

قال مالك : لا يكره الكلام قبل الفجر وإنما يكره بعده إلى طلوع الشمس .

وممن كان لا يرخص في الكلام بعد ركعتي الفجر : قال مجاهد : رأى ابن مسعود رجلا يكلم آخر بعد ركعتي الفجر فقال : إما أن تذكر الله ، وإما أن تسكت . وعن سعيد بن جبير مثله . وقال إبراهيم : كانوا يكرهون الكلام بعدهما ، وهو قول عطاء . وسئل جابر بن زيد : هل تفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلهما بكلام ؟ قال : لا ، إلا أن يتكلم بحاجة إن شاء . ذكر هذه الآثار ابن أبي شيبة .

[ ص: 152 ] والقول الأول أولى ; لشهادة السنة الثابتة له ، ولا قول لأحد مع السنة .

واختلفوا في التنفل بعد طلوع الفجر . وكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر ، وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، ورواية عن عطاء . وحجتهم حديث موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر " .

ويروى أيضا من مرسلات ابن المسيب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأجاز ذلك آخرون ، روي هذا عن طاوس ، والحسن البصري ، ورواية عن عطاء قالوا : إذا طلع الفجر صل ما شئت . ذكر هذا عبد الرزاق . وعندنا كراهته إلا بعد فعل الفرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية