التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1133 1190 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك ، عن زيد بن رباح ، وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام " . [مسلم : 1314 - فتح: 3 \ 63]


[ ص: 218 ] ذكر فيه ثلاثة أحاديث :

حديث قزعة قال : سمعت أبا سعيد الخدري أربعا قال : سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثنتى عشرة غزوة .

ثانيها : حديث سعيد عن أبي هريرة : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد الأقصى " .

ثالثها : حديث أبي عبد الله الأغر -واسمه سلمان- عن أبي هريرة أيضا : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام " .

الشرح :

حديث أبي سعيد أتى به في الباب بعده مطولا ، وفي آخره : "ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " كما سيأتي في الحج والصوم أيضا ، ولم يخرجه غيره مجموعا بتمامه من طريق قزعة عن أبي سعيد .

وفي بعض نسخ البخاري إيراده آخر الباب ، وكذا ذكره أبو نعيم ، وأخرجه مسلم مقطعا ، قطعة في الحج : "لا تسافر المرأة " إلى آخره ، ومثلها من حديث أبي صالح عنه ، وقطعة في الصيام ، وهي النهي عن صوم العيدين ، وأخرجاه من حديث يحيى بن عمارة عن أبي [ ص: 219 ] سعيد وقطعة في : "لا صلاة بعد الصبح " من حديث عطاء بن يزيد بن أبي سعيد ، وأخرجه البخاري أيضا كذلك ، وابن ماجه من حديث قزعة عنه ، وقطعة الباب "لا تشد " أخرجها هنا مختصرا بدونها .

قال الحميدي : أهمل ، ولم يبين تمامه . وأخرجها مسلم من حديث قزعة أيضا في الحج ، وابن ماجه والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

وذكر الدارقطني أنه اختلف فيه على قزعة ، فذكره ، ثم قال : والصحيح قول من قال : قزعة عن أبي سعيد .

وقال الداودي : ذكر حديث أبي سعيد ولم يذكر ما فيه ، ثم أتى بحديث أبي هريرة بعد . يعني أنهما جميعا حدثا بالحديث . وقد ذكره بعد في باب : مسجد بيت المقدس ، وذكر الأربع وأنهن أعجبنه .

[ ص: 220 ] قال ابن التين : وأضاف إليهن ابن مسلمة رابعا ، وهو مسجد قباء .

وحديث أبي هريرة الأول أخرجه مسلم أيضا ، وأخرجه مسلم أيضا من حديث سلمان الأغر ، عن أبي هريرة بلفظ : "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء " .

وشيخ البخاري فيه علي هو ابن المديني ، وشيخه سفيان هو ابن عيينة . قال الدارقطني : تفرد الزهري واختلف عنه فذكره ، ثم قال : وكلها محفوظة عنه .

وحديثه الثاني أخرجه مسلم أيضا ، وقد رواه عن أبي هريرة غير الأغر ، رواه عنه سعيد بن المسيب وأبو صالح ، والوليد بن رباح ، (م ) وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ ، وأبو سلمة ، وعطاء .

[ ص: 221 ] قال أبو عمر : لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث في "الموطأ " عن زيد بن رباح وعبيد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة .

ورواه محمد بن مسلمة المخزومي عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، وهو غلط فاحش وإسناده مقلوب ، ولا يصح فيه عن مالك إلا حديثه في "الموطأ " عن زيد . كما سلف .

وروي عن أبي هريرة من طرق متواترة كلها صحاح ثابتة ، وطرقه الدارقطني فأبلغ ، ورواه ابن عمر وميمونة ، وطرقه الدارقطني ، وجابر وابن الزبير وإسناده حسن أخرجه أحمد ، وأبو ذر أخرجه الطحاوي .

إذا تقرر ذلك فالكلام عليها من أوجه :

[ ص: 222 ] أحدها :

قوله : ( "مسجد الأقصى " ) هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وقد أجازه الكوفيون ، وتأوله البصريون على الحذف . أي : مسجد المكان الأقصى ، وسمي الأقصى ; لبعده عن المسجد الحرام .

ثانيها :

فيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة وميزتها على غيرها ; لكونها مساجد الأنبياء عليهم السلام ، وتفضيل الصلاة فيها ، وشد الرحال -أي : سروج الجمال- إلى هذه المساجد الثلاثة ، وإعمال المطي إليها مشروع قطعا .

واختلفوا في الشد والإعمال إلى غيرها كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ، ونحو ذلك ، فقال الجويني : يحرم شد الرحال إلى غيرها . وهو الذي أشار القاضي حسين إلى اختياره ، والصحيح عند أصحابنا ، وهو مختار الإمام والمحققين : أنه لا يحرم ولا يكره ، قالوا : والمراد : أن الفضيلة الثابتة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة .

قال ابن بطال : هذا الحديث في النهي عن إعمال المطي ، إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة .

[ ص: 223 ] قال مالك : من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة فإنه يصلي في بلده إلا أن ينذر ذلك في المساجد الثلاثة ، فعليه السير إليها ، وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعا بذلك ، فمباح له قصدها بإعمال المطي وغيره ، ولا يتوجه إليه النهي في الحديث .

وقال الخطابي : اللفظ لفظ خبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك فيها ، يريد أنه لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد .

[ ص: 224 ] وقال ابن الجوزي : اختلف العلماء فيما إذا نذر أن يصلي في هذه المساجد الثلاثة ، فمذهب أحمد أنه يلزمه ، وقال أبو حنيفة لا يلزمه بل يصلي حيث شاء . وعن الشافعي كالمذهبين . انتهى .

ولا يعترض بأن أبا هريرة أعمل المطي إلى الطور ، فلما انصرف لقيه بصرة بن أبي بصرة ، فأنكر عليه خروجه وقال له : لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد " فدل أن مذهب بصرة حمل الحديث على العموم في [ ص: 225 ] النهي عن إعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة على كل حال ، فدخل فيه الناذر والمتطوع ; لأن بصرة إنما أنكر على أبي هريرة خروجه إلى الطور ; لأن أبا هريرة كان من أهل المدينة التي فيها أحد المساجد الثلاثة التي أمر بإعمال المطي إليها ، ومن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان .

وليس في الحديث أن أبا هريرة نذر السير إلى الطور ، وإنما ظاهره أنه خرج متطوعا إليه ، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل من الطور ; لأن مسجد المدينة ومسجد بيت المقدس أفضل من الطور .

وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة فنذر المشي إلى بيت المقدس ، فقال مالك : يمشي ويركب . زاد الأوزاعي : ويتصدق .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصلي في مسجد المدينة أو مكة ; لأنهما أفضل منه . وقال سعيد بن المسيب : يقومان مقام مسجد بيت المقدس .

وقال الشافعي : يمشي إلى مسجد المدينة والأقصى إذا نذر ذلك ، ولا يتبين لي وجوبه ; لأن البر بإتيان بيت الله فرض ، والبر بإتيان هذين نافلة .

وقال ابن المنذر : من نذر المشي إلى المسجد الحرام والأقصى وجب عليه ذلك ; لأن الوفاء به طاعة ، وإن نذر الأقصى إن شاء مشى إليه ، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام ; لحديث جابر أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس .

[ ص: 226 ] قال : "صل ها هنا " ثلاثا
.

وقال أبو يوسف : لا يقوم الأقصى مقام المسجد الحرام . وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة ومحمد : أن من جعل لله عليه أن يصلي في مكان فصلى في غيره أجزأه . واحتج لهم الطحاوي بأن معنى حديث "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " أن المراد به الفريضة لا النافلة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " .

وقال ابن التين : هذا الحديث دليل لنا على الشافعي ، فإنه أعمل المطي إليهما ، والصلاة فيهما قربة ، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام ، وانفصل بعضهم بأن قال : قد تشد الرحال إلى المسجد الحرام فرضا للحج أو العمرة ، وفي مسجد المدينة للهجرة في حياته ، وكانت واجبة على الكفاية في قول بعض العلماء ، فأما إلى بيت المقدس فهي فضيلة .

وقد يتأول الحديث على أنه لا يعتكف إلا في هذه المساجد الثلاثة فيرحل إليها ، وهو قول بعض السلف .

فرع :

إذا لزم المضي إليهما ، فهل يلزمه المشي ؟

[ ص: 227 ] في "المدونة " : يأتيهما راكبا . وقال ابن وهب : ماشيا وإن بعد .

وقيل : إن كان قريبا بالأميال مشى . وقيل : لا يمشي وإن كان ميلا ، وأما المسجد الحرام فإنه يأتيه ماشيا .

ثالثها :

اختلف العلماء في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام " ومعناه كما قال أبو عمر ، فتأوله قوم ، منهم ابن نافع صاحب مالك على أن الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجة ، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة ، وقال به جماعة من المالكيين ، ورواه بعضهم عن مالك .

وذكر أبو يحيى الساجي قال : اختلف العلماء في تفضيل مكة على المدينة ، فقال الشافعي : مكة أفضل البقاع كلها ، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين . وقال مالك والمدنيون : المدينة أفضل من مكة .

واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك ، فطائفة يقولون : مكة ، وطائفة يقولون المدينة . وعامة أهل الأثر والفقه (يقولون ) : إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة .

وقال القرطبي : اختلف في استثناء المسجد الحرام : هل ذلك أن المسجد الحرام أفضل من مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، أو هو ; لأن المسجد الحرام أفضل من غير مسجده ؟ فإنه أفضل المساجد كلها والجوامع .

[ ص: 228 ] وهذا الخلاف في أي البلدين أفضل ؟ فذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة ، وحملوا الاستثناء على تفضيل الصلاة في مسجد المدينة بألف صلاة على سائر المساجد ، إلا المسجد الحرام فبأقل من الألف ، واحتجوا بما قال عمر : صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه .

ولا يقول عمر هذا من تلقاء نفسه ، ولا من اجتهاده ، فعلى هذا تكون فضيلة مسجده على المسجد الحرام بتسعمائة وعلى غيره بألف .

وذهب الكوفيون والمكيون وابن وهب وابن حبيب من أصحابنا إلى تفضيل مكة ، واحتجوا بما زاد قاسم بن أصبغ وغيره في هذا الحديث من رواية عبد الله بن الزبير بعد قوله : "إلا المسجد الحرام " قال : "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة " .

قال : وهذا الحديث رواه عبد بن حميد وقال فيه : "بمائة ألف صلاة " وهذه الروايات منكرة لم تشتهر عند الحفاظ ، ولا خرجها أصحاب الصحيح ، ولا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله : "من المساجد " وهي بالاتفاق مفضولة ، والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه ، فالمسجد الحرام مفضول ، لكنه (يقال ) : مفضول بألف ; لأنه قد استثناه منها ، فلا بد أن يكون له مزية على غيره من المساجد ولم يعينها الشرع ، فيوقف فيها ، أو يعتمد على قول عمر .

[ ص: 229 ] قال : ويدل على صحة ما قلناه زيادة عبد الله بن قارظ بعد قوله : "إلا المسجد الحرام " : "فإني آخر الأنبياء ، ومسجدي آخر المساجد " فربط الكلام بفاء التعليل مشعر بأن مسجده إنما فضل على المساجد كلها ; لأنه متأخر عنها ، ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء في الزمان ، فتدبره .

وقال عياض : أجمعوا على أن موضع قبره - صلى الله عليه وسلم - أفضل بقاع الأرض .

ومن دلائل تفضيل مكة : حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول -وهو واقف على راحلته بمكة- : "والله إنك لخير بلاد الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " . رواه النسائي والترمذي وقال : حسن صحيح .

وعن عبد الله بن الزبير قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي " حديث حسن رواه أحمد بن حنبل في "مسنده " ، والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن .

[ ص: 230 ] قال أبو عمر : وأما تأويل ابن نافع فبعيد عند أهل المعرفة باللسان ويلزمه أن يقول : إن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف ، وتسعة وتسعين ضعفا .

وإذا كان هكذا ، لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع .

ثم ساق بإسناده إلى ابن عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن ابن عتيق ، سمعت ابن الزبير ، سمعت عمر يقول : صلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه -يعني من المساجد- إلا مسجد رسول الله .

فهذا عمر ، وابن الزبير ، ولا مخالف لهما من الصحابة يقول : تفضل الصلاة في المسجد الحرام على مسجد المدينة .

وتأول بعضهم هذا الحديث أيضا عن عمر على أن الصلاة في مسجد المدينة خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام ، وهذا تأويل لا يعضده أصل .

وزعم بعض المتأخرين أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة ، ومن غيره بألف صلاة ،

[ ص: 231 ] واحتج بحديث ابن الزبير عن عمر المذكور . قال : وهذا لا حجة فيه ; لأنه مختلف في إسناده وفي لفظه ، وقد خالفه فيه من هو أثبت منه .

واستدلوا بحديث سليمان بن عتيق ، عن ابن الزبير ، سمعت عمر يقول : صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنها فضيلة عليه بمائة صلاة . فهذا حديث سليمان فيه من نقل الثقات نصا خلاف ما تأولوه .

وذكر حديث ابن عمر الذي فيه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - . قال : وروي عن أبي الدرداء وجابر مثل ذلك بزيادة : "وفي بيت المقدس بخمسمائة " .

وقال عبد الله بن مسعود : ما للمرأة أفضل من صلاة بيتها إلا المسجد الحرام .

وهذا تفضيل منه للصلاة فيه على الصلاة في مسجد الرسول ; وقد قال لأصحابه : "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " .

وقد اتفق مالك ، وسائر العلماء على أن صلاة (الفرض ) يبرز لها في كل بلد إلا مكة فإنها تصلى في المسجد الحرام . فهذا عمر ، وعلي ،

[ ص: 232 ] وابن مسعود ، وأبو الدرداء ، وجابر يفضلون مكة ومسجدها ، وهم أولى بالتقليد ممن تقدمهم .

واستدل بعض أصحاب مالك على تفضيل المدينة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة " أو "ما بين بيتي ومنبري روضة " الحديث .

وركبوا عليه قوله : "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " ولا دلالة فيه كما قال أبو عمر ; لأن قوله هذا إنما أراد ذم الدنيا والزهد فيها ، والترغيب في الآخرة ، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها ، وأراد بذكر السوط على التقليل ، بل موضع نصف سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية . قال : وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ وقف بمكة على الحزورة ، وقيل : على الحجون ، فقال : "والله إني لأعلم أنك خير أرض الله ، وأحبها إلى الله ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " وهذا حديث صحيح . وقد سلف .

[ ص: 233 ] وذكره من طريق عبد الله بن عدي بن الحمراء ، ومن طريق معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

قال : وقد روي عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها .

لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة . وكان مالك يقول : من فضل المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة فيها قبر نبي معروف غيرها . كأنه يريد ما لا يشك فيه .

وعن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : اختلفوا في دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : سمعته يقول : "لا يقبض نبي إلا في أحب الأمكنة إليه " فقال : ادفنوه حيث قبض . وفي لفظ : حيث قبضه الله ; فإنه لم تقبض روحه إلا في مكان طيب .

وروى ابن عبد البر في أواخر "تمهيده " عن عطاء الخرساني أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة ، فيخلق من التراب ومن النطفة ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم الآية [طه : 55] واختلف هل يراد بالصلاة هنا الفرض أو [ ص: 234 ] أعم منه ؟ وإلى الأول ذهب الطحاوي ، وإلى الثاني ذهب مطرف من أصحاب مالك . ومذهبنا أنه أعم .

فتقرر أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف هذا ما نعتقده ، وفي مسجد المدينة بألف . وقد أسلفنا عن الأقصى أنها بخمسمائة ، وفي حديث أبي ذر بمائتين وخمسين صلاة .

وفي حديث ميمونة بألف ، وهو من باب الترقي والفضل ، كما نبه عليه الطحاوي .

ثم النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المساجد الثلاثة ، ثم هذا فيما يرجع إلى الثواب ، ولا يتعدى إلى الإجزاء عن الفوائت ، حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في المسجد الحرام صلاة لم تجزئه عنهما بالاتفاق . ثم الفضيلة في الصلاة في مسجده خاص بنفس مسجده [ ص: 235 ] الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده ، فيحرص المصلي على ذلك .

وقال ابن بطال : كلا الطائفتين في تفضيل مكة والمدينة يرغب لحديث أبي هريرة : "صلاة في مسجدي هذا " إلى آخره . ولا دلالة فيه أو أحد منهما ، وإنما يفهم منه أن صلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد .

ثم استثنى المسجد الحرام . وحكم الاستثناء عند أهل اللسان إخراج الشيء بما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما ، وإدخاله فيما خرج منه هو وغيره بلفظ شامل لهما .

وقد مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء في الحديث بمثال بين معناه .

فإن قلت : اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق ، جاز أن يكون العراق مساويا لليمن ، وجاز أن يكون فاضلا ، وأن يكون مفضولا . فإن كان مساويا فقد علم فضله ، وإن كان فاضلا أو مفضولا لم يقدر مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات ، إما زائدة على ذلك ، أو ناقصة عنها ، فيحتاج إلى ذكرها .

واحتج من فضل مكة من طريق النظر أن الرب جل جلاله فرض على عباده قصد بيته الحرام مرة في العمر ، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة .

قالوا : ومن قول مالك : أن من نذر الصلاة في مسجد المدينة [ ص: 236 ] والمشي إليه ، أنه لا يلزمه المشي إليه ، وعليه أن يأتيه راكبا ، ومن نذر المشي إلى مكة ، فإنه يمشي إليها ولا يركب ، فدل هذا من قوله أن مكة أفضل ; لأنه لم يوجب المشي إليها إلا لعظيم حرمتها ، وكبير فضلها . والمراد بقوله : "خير من ألف صلاة " أنها أكثر ثوابا . قال ابن حبيب : وذلك إذا كان عدد الرجال المصلين فيه دون ذلك ، وأما إن كانوا أكثر من ذلك فالثواب على عدد تضعيفهم . وكذلك قال في تضعيف صلاة الجماعة بخمسة وعشرين جزءا في مسجد أو غيره على صلاة الفذ .

قال : وفي صلاة المسجد الحرام بمائة ألف فيما سواه ، وهذا سلف ، وفي مسجد إيلياء بخمسمائة على ما سواه ، وفي الجامع حيث المنبر والخطبة بخمس وسبعين على ما سواه من المساجد . قال في ذلك كله : إن كانوا أكثر مما في الموضع من التضعيف كان التضعيف على العدد ، وإن كانوا أقل أو مثل ذلك فعلى ما جاء فيه . قال : وبذلك جاءت الروايات .

فائدة : في "الأوسط " للطبراني من حديث أبي هريرة "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الخيف ، ومسجد الحرام ، ومسجدي هذا " ثم قال : لم يروه عن كلثوم إلا حماد بن سلمة . ولم يذكر مسجد الخيف في شد الرحال إلا في هذا الحديث .

وقال البخاري : لا يتابع خثيم في ذكر مسجد الخيف ، ولا يعرف له سماع من أبي هريرة .

[ ص: 237 ] ومن الموضوعات من طريق عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده إلحاق مسجد الجند بالثلاثة . وقد أسلفنا عن ابن التين أن ابن مسلمة أضاف إليهن رابعا ، وهو : مسجد قباء .

فائدة :

فضلت مكة المدينة من وجوه :

وجوب قصدها للحج والعمرة ، وهما واجبان .

ووجوب الإحرام لهما .

إقامته بمكة ثلاث عشرة أو خمس عشرة بخلاف المدينة فإنه عشر سنين .

أنها أكثر طارقا من المدينة سيما من الأنبياء والمرسلين ، آدم فمن دونه الذين حجوها .

التقبيل والاستلام .

وجوب استقبال كعبتها حيثما كنا .

حرمة استدبارها واستقبالها عند قضاء الحاجة .

أن حرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض .

بوأها الله تعالى لإبراهيم ، وابنه إسماعيل . ومولدا لسيد الأمة . حرما آمنا في الجاهلية والإسلام .

قوله تعالى فيها : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام [التوبة : 28] عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله .

الاغتسال لها ، وكذا المدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية