التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1136 [ ص: 240 ] 4 - باب: إتيان مسجد قباء راكبا وماشيا

1194 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء راكبا وماشيا .

زاد ابن نمير : حدثنا عبيد الله عن نافع : فيصلي فيه ركعتين . [انظر : 1191 - مسلم : 1399 - فتح: 3 \ 69]


ثم ذكره بزيادة : فيصلي فيه ركعتين .

فأما الحديث الأول فأخرجه مسلم ، وكذا الثالث والثاني أخرجاه .

وزعم الطرقي أن أبا داود أخرجه ولم يعزه ابن عساكر إليه . وفي "أخبار المدينة " لابن شبة من حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه صبيحة سبع عشرة من رمضان .

ومن حديث الدراوردي عن شريك بن عبد الله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء يوم الاثنين . و (قباء ) يذكر ويؤنث ، ويمد ويقصر ، ويصرف ولا يصرف ، ست لغات ، والأفصح المد مع التذكير والصرف .

ومنع ابن التين القصر فقال : هو ممدود على كل حال . وهو من عوالي المدينة قريب منها . وقال في "المطالع " : إنه على ثلاثة أميال منها . قال : وأصله باسم بئر هناك ، وألفه واو .

[ ص: 241 ] وقال البكري : وقباء موضع آخر في طريق مكة من البصرة ، وهو مسجد بني عمرو بن عوف ، وهو أول مسجد أسس على التقوى على قول ستعلمه . وأول من وضع فيه حجرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أبو بكر ، ثم عمر .

والحديث دال على فضله ، وفضل مسجده والصلاة فيه ، وزيارته راكبا وماشيا ، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تزار كذلك .

وفي إتيانه إياه يوم السبت دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة ، والمداومة على ذلك .

وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القرب إلا ما ثبت به توقيف ، حكاه القرطبي .

وقال النووي : الصواب جواز تخصيص بعض الأيام (بالزيارة ) ، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك . ولعله لم تبلغه الأحاديث .

ثم إتيانه مسجد قباء دال على أن ما قرب من المساجد الفاضلة التي في المصر لا بأس أن يؤتى ماشيا وراكبا ، ولا يكون فيه ما نهى أن تعمل المطي إليه ، قاله الداودي ، قال : ولم يذكر فيه أنه كان يصلي فيه إذا أتاه ضحى ، وكان هو يصلي فيه ; لئلا يخرج منه حتى يصلي . وقال بعضهم : إتيانه إياه مع أن مسجده أفضل ; لتكثر المواضع التي يتقرب إلى الله فيها .

قال ابن التين : وهذا كما قال مالك أن التنفل في البيوت أحب إليه منه في مسجد الرسول إلا للغرباء ، فإن تنفلهم في مسجده أحب إليه .

[ ص: 242 ] وقال ابن رشد : إنما كان يأتيه لمواصلة الأنصار ، والاجتماع بهم فيه ، لا لصلاة فريضة ، ولا نافلة ; لأن صلاة الفريضة في مسجده ، والنافلة في بيته أفضل .

وقال الطحاوي : ما روي من إتيانه ليصلي فيه ليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، فيحتمل أن يكون الراوي قاله من عنده ; لعلمه أنه (لا يجلس ) فيه إلا صلى فيه قبل أن يجلس . على أن قوله : (فيصلي فيه ) حرف انفرد به واحد من الرواة ، وعسى أن يكون وهما ; لأن الجماعة أولى بالحفظ من الواحد . فأما صلاته في بيته التطوع فأفضل من الصلاة في مسجده . ومسجده فوق مسجد قباء في الفضل ، فتكون صلاته في مسجد قباء لأجل التحية .

وجاء في مسجد قباء : "صلاة فيه كعمرة "رواه ابن ماجه ، والترمذي من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - . قال الترمذي : وفي الباب عن سهل بن حنيف : وحديث أسيد غريب ، لا نعرف له شيئا يصح غيره .

ورواه ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه مرفوعا ، وروي (عن ) سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر أنهما قالا ذلك .

[ ص: 243 ] واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى على قولين :

أحدهما : أنه مسجد المدينة ، قاله ابن عمر ، وابن المسيب ، ومالك في رواية أشهب .

ووجهه ما أخرجه الترمذي من حديث أنيس بن أبي يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : امترى رجل من بني خدرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الآخر : هو مسجد قباء . فأتيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فقال : "هذا -يعني : مسجده- وفي ذلك خير كثير " قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

ورواه وكيع ، عن ربيعة بن عثمان ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن سهل قال : اختلف رجلان فذكره .

[ ص: 244 ] وعن أسامة بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وذكر الدارقطني عن كثير بن الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، ومالك بن أنس .

والثاني : أنه مسجد قباء ، وهو قول مجاهد ، وعروة ، وقتادة ، والبخاري -فيما حكاه ابن التين - وابن عباس ، والضحاك ، والحسن فيما حكاه ابن النقيب . قال تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه وهذا يقتضي السبق ، ومسجد قباء أسبق فيه رجال يحبون أن يتطهروا [التوبة : 108] وهم أهل مسجد قباء . كما أخرجه الترمذي من حديث أبي صالح ، عن أبي هريرة . وقال : غريب من هذا الوجه ، وفي الباب عن أبي أيوب ، وأنس ، ومحمد بن عبد الله بن سلام . وأخرجه الدارقطني من حديث أبي أيوب ، وجابر ، وأنس ، وكذا الطحاوي من حديثهم .

[ ص: 245 ] قال ابن العربي : وثبت أن ناسا من المنافقين بنوا مسجدا ، وكانوا ينتمون إلى بني عمرو بن عوف ، وقالوا : يا رسول الله ، بنيناه لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، وقصدوا الفرار به عن مسجد قباء ، فاعتذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسفره ، وأخرهم إلى قدومه . فلما قدم أنزل الله : لا تقم فيه أبدا الآية . قال : ولا خلاف أنهم أهل قباء . والأثر مشهور جدا صحيح عن جماعة لا يحصون عدا ، فهو أولى من العمل بحديث أبي سعيد .

وبوب البخاري في باب هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم - : أسس النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف المسجد الذي أسس على التقوى . ولا شك أن أولئك الرجال قد كانوا في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ; لأن مسجده كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ، وما سواهم ممن صحبه ، قاله الطحاوي .

قال : والحديث الذي ذكره ابن العربي روي عن سعيد بن جبير ، وهو منقطع لا تقاوم بمثله الأحاديث المتصلة ، قال : فثبت أنه مسجد المدينة لا مسجد قباء .

[ ص: 246 ] قال السهيلي وغيره : ويمكن أن يكون كلا منهما أسس على التقوى ، غير أن قوله : من أول يوم يرجح الأول ; لأن مسجد قباء أسس قبل مسجده ، غير أن اليوم قد يراد به المدة والوقت ، وكلاهما أسس على هذا من أول يوم ، أي : من أول عام من الهجرة .

وقد اختلف فيمن نذر الصلاة في مسجد قباء ، فذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه أوجبه فيه . وفي كتاب ابن المواز : لا ، إلا أن يكون قريبا جدا فليأته ، فليصل فيه .

قال ابن حبيب : قال مالك : إن كان معه في البلد مشى إليه وصلى فيه .

وقال ابن التين : أوجب ابن عباس مشيه على من نذره من المدينة .

قال : ولا خلاف أن إتيانه قربة لمن قرب منه ، وليس ذلك بمخالف للنهي عن شد الرحال لغير الثلاثة ; لأن إتيانه من المدينة ليس من باب شد الرحال ، ولا إعمال المطي ; لأنه من صفات الأسفار المتباعدة ، وقطع المسافات الطويلة ، ولا يدخل في ذلك أيضا ركوبه إلى مسجد قريب لجمعة وغيرها ; لأنه جائز إجماعا ، بل هو واجب في بعض الأحيان .

ولو أن آتيا أتى قباء من بلد بعيد ، وتكلف فيه من السفر ما يوصف بشد الرحال ، وإعمال المطي لكان مرتكبا للنهي على هذا القول .

وقال محمد بن مسلمة في "المبسوط " : من نذر أن يأتي مسجد قباء فيصلي فيه لزمه ذلك . والأول أظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية