التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1138 1196 - حدثنا مسدد عن يحيى ، عن عبيد الله قال : حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي " . [1888 ، 6588 ، 7335 - مسلم : 1391 - فتح: 3 \ 70]


ذكر فيه حديث عبد الله (س ) بن زيد المازني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .

وحديث خبيب بن عبد الرحمن -بضم الخاء المعجمة- عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . . . بمثله وزاد : "ومنبري على حوضي " .

أخرجهما مسلم في الحج ، والثاني يأتي في الحج ، والحوض ، والاعتصام .

وروى الثاني مالك به ، لكنه قال : عن أبي هريرة ، أو أبي سعيد ،

[ ص: 248 ] وانفرد معن بن عيسى ، وروح بن عبادة فقالا : عن أبي هريرة ، وأبي سعيد من غير شك .

وروي عن مالك بإسقاط أبي سعيد . والحديث محفوظ لأبي هريرة ، نبه على ذلك أبو عمر .

قال الداني في "أطرافه " : وتابع عبيد الله العمري عن خبيب جماعة . ورواه محمد بن سليمان البصري ، عن مالك ، عن ربيعة ، عن سعيد ، عن ابن عمر قال : أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "وضعت منبري على ترعة من ترع الجنة ، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " ولم يتابع عليه ، وابن سليمان ضعيف .

وروى أحمد بن يحيى الكوفي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا : "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة " وهو إسناد [ ص: 249 ] خطأ كما قاله أبو عمر . ومن الموضوعات : حديث ابن عمر المرفوع : "ما بين منبري وقبري و (أصطوانة ) التوبة روضة من رياض الجنة " .

إذا تقرر ذلك ، فالصحيح في الرواية : "بيتي " وروي مكانه : "قبري " ، وجعله بعضهم تفسيرا و "بيتي " ، قاله زيد بن أسلم ، والظاهر بيت سكناه ، والتأويل الآخر جائز ; لأنه دفن في بيت سكناه . وروي : "ما بين حجرتي ومنبري " والقولان متفقان ; لأن قبره في حجرته ، وهي بيته .

وقام الإجماع على أن قبره أفضل بقاع الأرض كلها ، والروضة في كلام العرب : المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب . وحمل كثير من العلماء الحديث على ظاهره فقالوا : ينقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة ، قال تعالى : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر : 74] دلت أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد به أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي بصاحبه إلى الجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ارتعوا في رياض الجنة " يعني : حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية [ ص: 250 ] إلى الجنة ، فيكون معناه التحريض على زيارة قبره - رضي الله عنه - ، والصلاة في مسجده ، وكذا : "الجنة تحت ظلال السيوف " واستبعده ابن التين ، وقال : يؤدي إلى السفسطة والشك في العلوم الضرورية . وقال : إنها من رياض الجنة الآن ، حكاه ابن التين ، وأنكره . قال : والعمل على التأويل الثاني يحتمل وجهين :

أحدهما : أن اتباع ما يتلى فيه من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة ، فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذه المعاني دون غيرها .

والثاني : أن يريد أن ملازمة ذلك الموضع بالطاعة يؤدي إليها ; لفضيلة الصلاة فيه على غيره . قال : وهو أبين ; لأن الكلام إنما خرج على تفضيل ذلك الموضع ، وذلك أن مالكا في "موطئه " أدخله في فضل الصلاة في مسجده على سائر المساجد ، ويشبه أن يكون تأول هذا الوجه ، وإنما خصت الروضة بهذا ; لأنها ممره بينه وبين منبره ، ولصلاته فيها .

وقال الخطابي : معنى الحديث تفضيل المدينة ، وخصوصا البقعة [ ص: 251 ] التي بين البيت والمنبر ، يقول : من لزم الطاعة فيها آلت به إلى روضة من رياض الجنة ، ومن لزم العبادة عند المنبر سقي في الجنة من الحوض .

وقال أبو عمر : كأنهم يعنون أنه لما كان جلوسه ، وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بروضة لكريم ما يجتبى فيه ، وإضافتها للجنة ; لأنها تقود إليها كما قال : "الجنة تحت ظلال السيوف " ، يعني أنه عمل يوصل بذلك إلى الجنة ، وكما يقال : الأم باب من أبواب الجنة . يريد أن برها يوصل المسلم إلى الجنة . مع أداء فرائضه ، وهذا جائز شائع مستعمل في لسان العرب تسمية الشيء بما يئول إليه ويتولد عنه .

قال : وقد استدل أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة بهذا الحديث ، وركبوا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . ولا دليل فيه ، وقد سلف . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( "ومنبري على حوضي " ) أي : بجانبه ، قاله الداودي . قال ابن التين : وفيه نظر . وفي رواية أخرى سلفت : "على ترعة من ترع الجنة " والترعة : الدرجة .

والأظهر : أن المراد به منبره الذي كان يقوم في الدنيا عليه ، يعيده الله بعينه ، ويرفعه ، ويكون في الحوض ، ونقله القاضي عن أكثر العلماء .

وقيل : إن له هناك منبرا على حوضه يدعو الناس إليه . وإن كان ابن [ ص: 252 ] التين قال : إنه ليس بالبين ، إذ ليس في الخبر ما يقتضيه . وقد قدمنا عنه استبعاد تأويل ما سلف ، وقال : إنه سفسطة ، فكيف تأول هنا بأن لزومه الطاعة يؤدي إلى ورود حوضه ؟ بل يمره على ظاهره ، ولا مانع من ذلك . وقيل : معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة فيه يورد صاحبه الحوض ، ويقتضي شربه منه . وسيأتي الكلام على حوضه في بابه إن شاء الله .

وللباطنية في هذا الحديث من الغلو والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، كما نبه عليه القرطبي ، ففي الصحيح : أن في أرض المحشر أقواما على منابر ; تشريفا لهم وتعظيما كما قال : "إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة " ، وإذا كان ذلك في أئمة العدل ، فأحرى الأنبياء ، وإذا كان ذلك للأنبياء فأولى بذلك سيدهم ، فيكون منبره بعينه ، ويزاد فيه ويعظم ويرفع وينور على قدر منزلته ، حتى لا يكون لأحد في ذلك اليوم منبر أرفع منه لسيادته وسؤدده .

والإيمان بالحوض عند جماعة علماء المسلمين واجب الإقرار به ، وقد نفاه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ، فإنهم لا يصدقون لا بالشفاعة ولا بالحوض ولا بالدجال . ثم ذكر أحاديث الحوض من طرق .

والحوض هو : الكوثر . حافتاه قباب اللؤلؤ وتربته المسك ، وفيه آنية لا يعلم عددها إلا الله ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ، وفيما أورده البخاري دلالة واضحة على ما ترجم له ، وهو فضل ما بين القبر والمنبر ، وتفسير القبر بالبيت .

التالي السابق


الخدمات العلمية