التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1142 1200 - حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا عيسى -[هو ابن يونس]- عن إسماعيل ، عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني قال قال لي زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت : حافظوا على الصلوات [البقرة : 238] الآية ، فأمرنا بالسكوت . [4534 - مسلم : 539 - فتح: 3 \ 72]


ذكر فيه حديث علقمة ، عن عبد الله قال : كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة ، فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي ، سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال : "إن في الصلاة شغلا " .

وعن عبد الله نحوه .

وحديث أبي عمرو الشيباني : قال لي زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته ، حتى نزلت : حافظوا على الصلوات [البقرة : 238] الآية ، فأمرنا بالسكوت .

[ ص: 263 ] الشرح :

حديث ابن مسعود أخرجه هنا وفي باب : لا يرد السلام في الصلاة كما سيأتي ، وفي هجرة الحبشة . وأخرجه مسلم أيضا .

وفي رواية : ونأمر بحاجتنا ، وفيه : "إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وأن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " .

وحديث زيد بن أرقم أخرجه مسلم أيضا ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي .

وللبخاري : ويسلم بعضنا على بعض ، ويأتي قريبا . ولفظ [ ص: 264 ] الترمذي : كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت : وقوموا لله قانتين [البقرة : 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

وليس لأبي عمرو الشيباني عن زيد في "الصحيحين " غير هذا الحديث الواحد .

وعيسى في إسناده : هو ابن يونس . وذكر الترمذي عقب حديث زيد أن في الباب : عن ابن مسعود ومعاوية بن الحكم .

إذا تقرر ذلك : فالمصلي مناج لربه جل جلاله ، فواجب عليه أن لا يقطع مناجاته بكلام مخلوق ، وأن يقبل على ربه ويلتزم بالخشوع ، ويعرض عما سوى ذلك ، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن في الصلاة لشغلا " وقوله تعالى : وقوموا لله قانتين والقنوت في هذه الآية ، كما قال ابن بطال : الطاعة والخشوع لله تعالى .

ولفظ الراوي يشعر أن المراد به : السكوت ; لقوله : (حتى ) . التي هي للغاية ، والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق ، وقيل فيها غير ذلك ، والأرجح حمله على ما أشعر به كلام الراوي ، فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب النزول والقرائن المحتفة به ، وقول الصحابي في الآية : نزلت في كذا ، يتنزل منزلة المسند .

[ ص: 265 ] وقوله : (وأمرنا بالسكوت ) . وفي رواية : ونهينا عن الكلام ، فكل ما يسمى كلاما منهي عنه وما لا يسمى كلاما ، وأراد إلحاقه به فهو بطريق القياس ، فليراع شرطه في مراعاة الفرع للأصل ، واعتبر أصحابنا ظهور حرفين وإن لم يفهما فإنه أقل الكلام ، وقام الإجماع على أن الكلام فيها عامدا عالما بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه تبطل الصلاة ، وأما الكلام لمصلحتها فقال الأربعة والجمهور : تبطل أيضا .

وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك ، وطائفة قليلة ; لأنه في تصحيح ما فيه من أمرها .

واعلم أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم صريحان في أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم حرم .

واختلفوا : متى حرم ؟ فقال قوم : بمكة . واستدلوا بحديث ابن مسعود ورجوعه من عند النجاشي إلى مكة . وقال آخرون : بالمدينة . بدليل حديث زيد بن أرقم ، فإنه من الأنصار أسلم بالمدينة ، وسورة البقرة مدنية ، خصوصا هذه الآية ، وقالوا : ابن مسعود لما عاد إلى مكة من الحبشة رجع إلى النجاشي إلى الحبشة في الهجرة الثانية ، ثم ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهو يتجهز لبدر .

وقال الخطابي : إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة .

[ ص: 266 ] وأجاب الأولون بأن الظاهر تجدد هذا الحال في غيبة ابن مسعود الأولى ، فإنه قال : فلما رجعنا من عند النجاشي . ولم يقل : في المرة الثانية .

وحملوا حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين ، كما يقول القائل : قتلناكم وهزمناكم . يعنون : الآباء والأجداد .

وقول الخطابي يحتاج إلى تأريخ ، والتأريخ بعيد كما نبه عليه ابن الجوزي ، وأبدى ابن حبان فيه شيئا حسنا ، فإنه قال : قد توهم من لم يحكم صناعة العلم أن نسخ الكلام في الصلاة بالمدينة ; لحديث زيد بن أرقم ، وليس كذلك ; لأن الكلام في الصلاة كان مباحا إلى أن رجع ابن مسعود وأصحابه من عند النجاشي فوجدوا إباحة الكلام قد نسخت ، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يقرئ المسلمين ويفقههم ، وكان الكلام بالمدينة مباحا كما كان بمكة ، فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة ، فحكى زيد ذلك الفعل ، لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة .

وقال ابن بطال : زعم الكوفيون أن حديث ابن مسعود وزيد ناسخ لقصة ذي اليدين ، وسيأتي ما فيه في موضعه قريبا ، والآثار متواترة على أن قدوم ابن مسعود من الحبشة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين لم يرد السلام كان بمكة ، وإسلام أبي هريرة كان بالمدينة عام خيبر فلا نسخ إذن ، لا يقال : إن حديث زيد ناسخ لحديث ذي اليدين لانتفاء التأريخ ، غير أن زيدا أقدم إسلاما من أبي هريرة ، ويحتمل أن يكون معنى حديث زيد : فأمرنا بالسكوت . يعني : إلا بما كان من الكلام في [ ص: 267 ] مصلحة الصلاة ، فهو غير داخل في النهي عن الكلام فيها ليوافق حديث أبي هريرة ، فلا تعارض إذن .

ودل حديث زيد على النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة ، وهو قوله : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم أحدنا صاحبه لحاجته .

والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام في الصلاة على مثل ذلك .

دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلمون بعض على بعض في الصلاة ، الحديث . فبان في الحديثين النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة لمصلحتها ، وهذا تأويل أولى ; لئلا تتضاد الأحاديث . وقال ابن التين : الكلام نوعان : سهو ، وعمد ، فالعمد مبطل إذا لم يكن لإصلاحها ، والسهو لا يبطلها ويسجد له ، وهو قول الشافعي .

وقال أبو حنيفة : تبطل صلاته بالكلام سهوا إلا لفظ السلام ، دليلنا خبر ذي اليدين ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم ، وعنده أنه فرغ منها فلما تبين له بنى ، فإن قلت : هذا عند إباحة الكلام ، بدليل أن ذا اليدين تكلم عامدا ، وكذلك أبو بكر وعمر ولم يستأنفوا . فالجواب أن تحريم الكلام مكي ، وقصة ذي اليدين مدنية . فإن قلت لي : إنما هو التحريم الأول . قلت : لا يعرف التحريم إلا مرة .

وحديث زيد بن أرقم محمول على الجهر بالقراءة ، وفيه بعد ، وكلام ذي اليدين بناه على أنها قصرت وأن فعله لم يقع سهوا ، وإنما وقع استظهارا ، ولو ثبت الكلام فهو لمصلحة الصلاة وإجابة الشارع .

[ ص: 268 ] ولنختم الكلام بفوائد ملخصة :

فحديث ابن مسعود ، وزيد ، وكذا جابر كما سيأتي قريبا دالة على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لمصلحتها أم لا ، وقد سلف . وتحريم رد السلام فيها باللفظ ، وهو إجماع وأنه لا تضر الإشارة ، بل يستحب رده بالإشارة ، وبهذه الجملة قال الشافعي والأكثرون ، منهم مالك وأحمد وأبو ثور .

وقال جماعة من العلماء : يرد نطقا ، منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق .

وقيل : يرد في نفسه . وقال عطاء والنخعي والثوري ومحمد : يرد بعد السلام ، وهو قول أبي ذر وأبي العالية .

وقال أبو حنيفة : لا يرد لفظا ولا إشارة بكل حال . وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة : يرد إشارة لا نطقا ، ومن قال : يرد نطقا لم تبلغه الأحاديث .

[ ص: 269 ] وأما ابتداء السلام عليه ، فمذهبنا أنه لا يسلم عليه ، فإن سلم لم يستحق جوابا . وعن مالك روايتان : الكراهة والجواز .

وعن أبي حنيفة : يرده في نفسه . وعند أبي يوسف : لا يرد في الحال ، ولا بعد الفراغ .

وقوله : ( "إن في الصلاة شغلا " ) يعني : إن المصلي يشتغل بصلاته ، ولا يعرج على سلام ولا غيره . واكتفي بذكر الموصوف عن الصفة ، فكأنه قال : شغلا كافيا أو مانعا من الكلام وغيره .

واعلم أن شيخنا علاء الدين ذكر هنا في شرحه الكلام على الصلاة الوسطى في أوراق عدة ، وليس محل الكلام فيها ، ولا تعلق له بالباب وإن وقع في الآية ، وقد أفرده بالتأليف الحافظ شرف الدين الدمياطي فكفى ، وقد لخصته في أوراق ، وأشرت إليه في موضعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية