التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
3253 [ ص: 282 ] 7 - باب: إذا دعت الأم ولدها في الصلاة

1206 - وقال الليث : حدثني جعفر ، عن عبد الرحمن بن هرمز قال : قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نادت امرأة ابنها ، وهو في صومعة قالت : يا جريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . قالت : يا جريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . قالت : يا جريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . قالت : اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس . وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم ، فولدت ، فقيل لها : ممن هذا الولد ؟ قالت : من جريج ، نزل من صومعته . قال جريج : أين هذه التي تزعم أن ولدها لي ؟ قال : يا بابوس من أبوك ؟ قال : راعي الغنم " . [2482 ، 3436 ، 3466 - مسلم : 2550 - فتح: 3 \ 78]


قال الليث : حدثني جعفر ، عن عبد الرحمن بن هرمز : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نادت امرأة ابنها ، وهو في صومعة ، قالت : يا جريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . . " الحديث .

هكذا أخرجه البخاري تعليقا هنا ، وأسنده في كتاب المظالم وأحاديث الأنبياء عن مسلم بن إبراهيم ، عن جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة .

وروى الحديث في ( . . . ) من طريق الأعرج عن أبي هريرة .

وأخرجه مسلم في الأدب من كتاب البر والصلة ، من حديث حميد [ ص: 283 ] بن هلال ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة .

وأسنده من حديث الليث أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج -وهو عبد الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة . بأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأسنده الإسماعيلي من حديث عاصم بن علي عن الليث به ، وفيه زيادة : "أن رجلا يقال له جريج كان راهبا -وفي : (زواني المدينة ) بدل : (المياميس ) - فعرف أن ذلك يصيبه " . وفيه : "فأرسل إليه ، فأنزل وانطلق به إلى ملكهم ، فلما مروا به نحو بيت الزواني خرجن يضحكن ، فتبسم ، فقالوا : لم تضحك حين مر بالزواني ؟ " وفيه : "فقال : أبي والدي ، وسماه أباه ، فأبرأ الله -عز وجل- جريجا وأعظم أمره " .

وبخط الدمياطي على حاشية أصله : روى الليث بن سعد ، عن يزيد بن حوشب ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "لو كان جريج الراهب فقيها عالما لعلم أن إجابة أمه خير من عبادة ربه -عز وجل- " . حوشب هذا هو ابن طخمة -بالميم- الحميري .

وأخرج الشيخان من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، وكان جريج عابدا فأتته أمه وهو يصلي ، فقالت : يا جريج " . وأتته ثانية وثالثة كذلك . . الحديث بطوله .

[ ص: 284 ] إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه :

أحدها : "المياميس " الزواني ، كما سلف ، الواحدة : مومسة .

والجمع : مومسات -بضم الميم الأولى وكسر الثانية - و (ميامس ) ، وجاء هنا : مياميس ، وهو جائز .

وقال ابن الجوزي : أصحاب الحديث يقولون : مياميس . بزيادة ياء .

قال لنا ابن الخشاب : ليس قولهم صحيحا .

وقال صاحب "المطالع " : المومسات : المجاهرات بالفجور . وبالياء رويناه عن جميعهم ، وكذا ذكر أصحاب العربية ، وروي : الميأميس . بالهمز .

الثاني : قوله : ( "يا بابوس " ) هو اسم ولدها- كما قاله الداودي ، وقال القزاز : هو الصغير . ووزنه فاعول ، فاؤه وعينه من جنس واحد ، وهو قليل . وقيل : اسم عجمي . وبخط الدمياطي : بابوس : الرضيع بالفارسية . وهو ما ذكره ابن بطال إثر الحديث .

الثالث : الحديث دال على أنه لم يكن الكلام في الصلاة ممنوعا في شريعة جريج ، فلما لم يأت من إجابتها ما هو مباح له استجيبت دعوة أمه فيه ، وقد كان الكلام في شريعتنا جائزا في الصلاة حتى نزلت : وقوموا لله قانتين [البقرة : 238] وسيأتي في البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله ، كنت أصلي . قال : "ألم يقل الله : استجيبوا لله [ ص: 285 ] وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ؟ . . . " الحديث .

ولا يجوز أن يوبخه الشارع على ترك الإجابة إلا وقت إباحة الكلام في الصلاة ، فلما نسخ ذلك لم يجز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وحق الله -عز وجل- الذي شرع فيه ألزم من حق الأبوين حتى يفرغ منه ، لكن العلماء يستحبون أن يخفف صلاته ويجيب أبويه .

وصرح أصحابنا فقالوا : من خصائص سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لو دعا إنسانا وهو في الصلاة وجبت عليه الإجابة ، ولا تبطل .

وحكى الروياني في "بحره " ثلاثة أوجه في إجابة أحد الأبوين :

أصحها : لا تجب الإجابة .

ثانيها : تجب وتبطل .

ثالثها : تجب ولا تبطل .

والظاهر : عدم الوجوب إن كانت الصلاة فرضا وقد ضاق الوقت ، وكذا إن لم يضق ; لأنها تلزم بالشروع ، خلافا للإمام ، وإن كانت نافلة أجابهما إن علم تأذيهما بالترك ، وهو من إطلاق عبد الملك المالكي أن إجابة الأم في النافلة أفضل ، وقاسه على الشارع أن إجابته أفضل من التمادي في النافلة . وذكر القاضي أبو الوليد في قصة ذي اليدين : أن حكم الإجابة مختص بالشارع ; للآية السالفة ، وأنه في الفريضة .

[ ص: 286 ] وفي الوجوب في حق الأم دون الأب حديث مرسل يوافق الوجوب ، رواه ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن المنكدر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها ، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه "

وقال مكحول : رواه الأوزاعي عنه ، وقال العوام : سألت مجاهدا عن الرجل يقام عليه في الصلاة ويدعوه أمه أو والده . قال : يجيبهما .

وفي البخاري ، فيما سلف : إن منعته أمه شهود العشاء في جماعة لم يطعها . وقاله مالك ، وإن منعته الجهاد أطاعها ، والفرق بينهما وإن كانا سنة أن الخروج إلى الصلاة الغالب فيه الأمن بخلاف الجهاد ، كذا فرق ابن التين بينهما .

وفي كتاب "البر والصلة " عن الحسن في الرجل تقول له أمه : أفطر . قال : يفطر وليس عليه قضاء ، وله أجر الصوم والبر ، وإذا قالت له أمه : لا تخرج إلى الصلاة . فليس لها في هذا طاعة ، هذا فريضة ، فدل هذا أن قياس قوله : إذا دعته في الصلاة . أن لا يجيبها .

فأما مرسل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه ولا أعلم به قائلا غير مكحول ، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها ، يعني : بالتسبيح ، وبما أبيح للمصلي الاستجابة به ، كما ذكر ابن حبيب قال : من أتاه أبوه ليكلمه وهو في نافلة فليخفف ويسلم ويكلمه ، وإذا نادته أمه فليبتدرها بالتسبيح ، وليخفف وليسلم .

[ ص: 287 ] وأما قول مجاهد : إذا أقيمت عليه الصلاة ودعاه أبوه وأمه فليجبهما . فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت واسعا ولم يدخل في الصلاة ، فيجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصلاة في وقتها ، والحاصل إجابة دعوة الوالدة في السراء والضراء .

وقوله : ( "اللهم أمي وصلاتي " ) إنما سأل أن يلقي في قلبه الأفضل ، ويحمله على أولى الأمرين به ، فحمله على التزام مراعاة حق الله تعالى على حق أمه ، وقد يمكن أن يكون جريج نبيا ; لأنه كان في زمن يمكن فيه النبوة ، قاله ابن بطال .

فإن قلت : يحتمل أن يكون حديث أبي سعيد بن المعلى السالف قبل تحريم الكلام في الصلاة كما قلت ، فكيف جاز له ترك مجاوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الكلام مباحا ؟

فالجواب : أنه يمكن أن يتأول أبو سعيد قوله : استجيبوا [الأنفال : 24] إذا كنتم في غير صلاة ، فعذره - صلى الله عليه وسلم - بذلك حين رأى التزام السكوت في الصلاة تعظيما لشأنها ، كما تأول أصحابه يوم الحديبية حين أمرهم بالحلاق أن لا يحلقوا لما لم يبلغ الهدي محله .

فإن قلت : فيحتمل أن يدعوه وقت تحريم الكلام في الصلاة ؟ .

فالجواب أنه يحتمل ذلك ، ويكون استجابته له بالتسبيح ، فيوجز في صلاته ، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصلاة وطاعة الرسول بالاستجابة له .

وأظهر التأويلين أن يدعوه - صلى الله عليه وسلم - وقت إباحة الكلام في الصلاة .

[ ص: 288 ] وقد احتج قوم من أهل الظاهر بحديث أبي سعيد ، وزعموا أن كلامه عليه الصلاة والسلام يوم ذي اليدين خصوص له ، وقالوا : لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله تعالى قال : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم [الأنفال : 24] فلا يتكلم أحد ولا يجيب غير الرسول (وهذا ما عليه جمهور أصحابنا ) .

وقال ابن بطال : لا حجة فيه ; لأن معنى الآية : استجيبوا بما استجاب به المصلي من قول : سبحان الله ، وإشارة تفهم عنه كما كان - صلى الله عليه وسلم - يرد السلام على الأنصار بالإشارة حين دخلوا عليه في مسجد قباء وهو يصلي . وكذلك قال : "من نابه شيء في صلاته فليسبح " .

وفي الحديث أيضا دلالة على أن من أخذ بالشدة في أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك ; لأن جريجا دعا الله في التزام الخشوع له في صلاته وفضله على الاستجابة لأمه ، فعاقبه الله على ترك الاستجابة لها ، بما ابتلاه من دعوة أمه عليه ، ثم أراه فضل ما آثره من مناجاة ربه والتزام الخشوع له أن جعل له آية معجزة في كلام الطفل ، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه .

وفيه أيضا : أن من دعته أمه في صلاة لا يخشى فواتها أن يجيبها ،

[ ص: 289 ] ثم يعود إليها ، وقد أسلفنا ما فيه . وقال عبد الملك : إن كانت صلاته نافلة ، فإجابة الأم أفضل من صلاة النافلة .

فإن قلت : كيف قال : من أبوك ، والزاني لا يلحق به الولد ؟

فالجواب إما أن يكون لاحقا في شرعهم ، أو المراد : من ماء من أنت ؟ وسماه أبا مجازا .

قال القرطبي : وقد يتمسك به من قال : إن الزنا يحرم كالحلال . وهو رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة " ، وفي "الموطأ " : أن الزنا لا يحرم حلالا .

قال : ويستدل به أيضا أن المخلوقة من زناه لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور خلافا لابن الماجشون ، وهو -أعني : قول ابن الماجشون - الأصح عند الشافعية ، ووجه التمسك على المسألتين أنه - صلى الله عليه وسلم - حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنا للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بشهادته له بذلك ، فكانت تلك النسبة صحيحة ، فيلزم على هذا أن تجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة من التوارث والولايات وغير ذلك .

وقد اتفق المسلمون على ألا توارث بينهما ، فلم تصح تلك النسبة ; لأنا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرنا ، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنا ، فإن أحكام الأمومة والبنوة جارية عليهما ، فما انعقد على الإجماع من الأحكام أنه لا يجوز بينهما استثنيناه ، وبقي [ ص: 290 ] الباقي على أجل ذلك الدليل .

وفيه أيضا : وقوع كرامات الأولياء ، وهو قول جمهور أهل السنة والعلماء ، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها ، والظن بهم أنهم ما أنكروا أصلها ; لتجويز العقل لها ، ولما وقع في الكتاب والسنة ، وإخبار صالحي هذه الأمة بما يدل على وقوعها ، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها فيمن ليس موصوفا بشروطها ، ولا هو أهل لها .

وفيه : أن كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم وطلبهم ، وهو الصحيح عند أصحابنا المتكلمين ، ومنهم من قال : لا تقع باختيارهم وطلبهم .

وفيه : أن الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها ، ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه ، وهذا غلط من قائله وإنكار للحس ، بل الصواب جريانها بقلب الأعيان ، وإحضار الشيء من المعدوم ونحوه .

وروى عمارة أن جريجا سأله وهو في بطنها فأجابه ثم أجابه حين ولد ، وهذا من تفضل الرب جل جلاله على من أطاعه . قال أبو عبد الملك : وهذا من عجائب بني إسرائيل ، وهو من أخبار الآحاد .

فائدة :

تكلم أيضا في المهد : شاهد يوسف ، كما ذكره القرطبي عن [ ص: 291 ] ابن عباس ، ويحيى بن زكريا عن الضحاك . ورضيع التي تقاعست عن الأخدود ، رواه صهيب . والحديث : "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة " ، وذكر الأولين ظاهره الحصر ، ولا شك أن الأوائل لا خلاف فيهم والباقون مختلف فيهم ، أو أن الله أطلع نبيه ثانيا زيادة على ما أطلعه الله عليه أولا .

وقال ابن عباس وعكرمة : كان صاحب يوسف رجلا ذا لحية .

وقال مجاهد : الشاهد هو القميص .

التالي السابق


الخدمات العلمية