التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1187 1244 - حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة قال : سمعت محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي ، وينهوني عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني ، فجعلت عمتي فاطمة تبكي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تبكين أو لا تبكين ، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه " . تابعه ابن جريج : أخبرني ابن المنكدر ، سمع جابرا - رضي الله عنه - . [1293 ، 2816 ، 4080 - مسلم : 2471 - فتح: 3 \ 114]


ذكر فيه ثلاثة أحاديث :

أحدها : حديث الزهري عن سلمة عن عائشة : أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى دخل فكشف عن وجهه ، ثم أكب عليه . . الحديث .

ثانيها : حديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون : فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه ، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، . . الحديث .

الشرح :

أما حديث عائشة فيأتي في المغازي أيضا وذكره الحميدي وغيره من حديث هشام عن أبيه عنها ، وكذا ابن أبي أحد عشر في "جمعه " ،

[ ص: 399 ] لكن خرجه في فضل الصديق بطوله .

وحديث أم العلاء يأتي في الهجرة والتعبير .

وقال يحيى بن بكير : قال الليث : قوله - عليه السلام - هذا قبل أن تنزل عليه سورة الفتح ، وذلك أن عثمان توفي قبل مقدمهم المدينة .

وزعم الطبراني أن أم العلاء هذه زوج زيد بن ثابت .

وزعم ابن الأثير أن المرأة المقول لها : "وما يدريك " هي أم السائب زوجة عثمان .

وقيل : أم العلاء الأنصارية . وقيل : أم خارجة بن زيد . قال : وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس : لما مات عثمان قالت له زوجته : هنيئا لك الجنة ، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث . فيحتمل أن يكون كل منهما قالت ذلك .

[ ص: 400 ] وبخط الدمياطي : أم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن حارثة ، وعمتها كبشة بنت ثابت .

من المتابعات : قال البخاري : وقال نافع بن يزيد ، عن عقيل ، تابعه شعيب وعمرو بن دينار ومعمر .

قول نافع رواه الإسماعيلي من حديث عبد الله بن يحيى المعافري ، ثنا نافع به .

ومتابعة شعيب ذكرها البخاري مسندة في الشهادات .

ومتابعة معمر ذكرها مسندة أيضا في التعبير ، ومتابعة عمرو بن [ ص: 401 ] دينار . وحديث جابر أخرجه مسلم لكنه جعل بدل محمد بن المنكدر الراوي عن جابر محمد بن علي بن حسين .

قال البخاري : تابعه ابن جريج : أخبرني محمد بن المنكدر ، سمع جابرا يعني : تابع ابن جريج شعبة .

إذا تقرر ذلك ; فأما حديث عائشة فالسنح -بسين مهملة مضمومة ثم نون مثلها ثم حاء مهملة - : منازل بني الحارث من الخزرج بينها وبين منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميل . وزعم صاحب "المطالع " أن أبا ذر كان يقوله بإسكان النون ، واقتصر عليه . ومعنى مسجى : مغطى وحبرة -بكسر الحاء- : موشى من اليمن .

وقال الداودي : أخضر ، وتبعه ابن التين فقال : هو ثوب أخذر [ ص: 402 ] يستحب للموتى أن يسجوا به ، وربما كفنوا فيه .

وفيه : جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبد منه أذى ، وجواز تقبيل الميت عند وداعه ، والتأسي ، فإن الصديق تأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قبل عثمان بن مظعون كما صححه الترمذي . وروي أن أبا بكر أغمضه .

وفيه : جواز البكاء على الميت من غير نوح . وكذا في قوله - عليه السلام - : "تبكين أو لا تبكين " إباحة البكاء أيضا ، وسيأتي موضحا في موضعه .

وقول الصديق : لا يجمع الله عليك موتتين . إنما قاله هو ، وغيره قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت ، وسيبعث ويقطع أيدي رجال وأرجلهم كما سيأتي في فضائل الصديق . فأراد أن يجمع الله عليه [ ص: 403 ] موتتين في الدنيا بأن يميته هذه ثم يحيا ثم يميته أخرى . قاله ابن بطال .

وقال الداودي : لم يجمع عليك كرب بعد هذا الموت ، قد عصمك الله من عذابه ومن أهوال يوم القيامة . وقال أيضا : معناه : لا يموت موتة أخرى في قبره كما يحيا غيره في القبر فيسأل ثم يقبض .

وأبعد من قال : أراد موتك وموت شريعتك . ويرده قوله : من كان يعبد محمدا فإنه قد مات . وليس هذا بمعارض لقوله تعالى : أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [غافر : 11] ; لأن :

الأولى : الخلقة من التراب ومن نطفة ; لأنهما موات ، والموات كله لم يمت نفسه إنما الرب أماته .

والثانية : التي تموت الخلق والحياة المراد بها في الدنيا وبعد الموت في الآخرة . هذا قول ابن مسعود ، وآخرين . فقوله : لا يجمع الله عليك موتتين لقوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [الدخان : 56] وحكي في الآية قول آخر عن الضحاك أن الأولى : ميتة ، والثانية : موتة في القبر بعد الفتنة والمساءلة ، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت ، وإنما الميت من تقدمت له حياة . وهو غلط ، قال تعالى : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها [يس : 33] ولم تتقدم لها حياة قط ، وإنما خلقها الله تعالى جمادا ومواتا . وهذا من سعة كلام العرب .

[ ص: 404 ] وفيه : أن الصديق أعلم من عمر ، وهذه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه ، وفضل معرفته ، ورجاحة رأيه ، وبارع فهمه ، وحسن انتزاعه بالقرآن ، وثبات نفسه ، ولذلك مكانته عند الأمة لا يكون فيها أحد ، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه وتركوا عمر ، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في نفوسهم على عمر وسمو محله عندهم ، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم . وقد أقر بذلك عمر حين مات الصديق فقال : والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر ، ولوددت أني شعرة في صدره .

وذكر الطبري عن ابن عباس قال : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وبيده الدرة ، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيري إذ قال : يا ابن عباس ، هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت : لا أدري والله يا أمير المؤمنين . قال : فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله -عز وجل- : وكذلك جعلناكم أمة وسطا إلى قوله : شهداء [البقرة : 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها .

وفي تأويل عمر الحجة لمالك في قوله : في الصحابة مخطئ ومصيب في التأويل .

[ ص: 405 ] ثم اعلم أن ذكر عائشة هذا الحديث قال على اهتمامها بأمر الشريعة وأنها لم يشغلها ذلك عن حفظ ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم .

وفيه : غيبة الصديق عن وفاته - عليه السلام - ; لأنه أصبح ذلك اليوم صالح الحال فخرج إلى أرضه .

وفيه : أنهم كانت لهم أموال يبتغون بها الكفاف ويصونون بها وجوههم عن المسألة لقولها : أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح .

وفيه : . إنه حين تصدق بماله كله أراد العين .

وفيه : أنهم كانوا لا يسرعون إلى بيع الربع ; لما فيه من العدة والعزة .

وفيه : الدخول على البنت بغير استئذان ، ويجوز أن يكون عندها غيرها ، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن . وروي أنه استأذن فلما دخل أذن للناس .

وقولها : (فدخل المسجد ) يحتمل أن يكون للصلاة وللمرور فيه .

وقوله : (فتيمم النبي ) . أي : قصده .

وقوله : (بأبي أنت ) هي كلمة تقولها العرب للحي والميت تبجيلا ومحبة ، أي : فداك أبي .

وقول أبي بكر لعمر : اجلس ; فأبى ، إنما كان ذلك لما داخل عمر من الدهشة والحزن . وقد قالت أم سلمة في "الموطأ " : ما صدقت بموت [ ص: 406 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعت وقع الكرازين . قال الهروي : هي الفئوس وقيل : تريد وقع المساحي تحث التراب عليه - صلى الله عليه وسلم - . ويحتمل أن يكون عمر ظن أن أجله - عليه السلام - لم يأت ، وأن الله من على العباد بطول حياته . ويحتمل أن يكون أنسي قوله : إنك ميت [الزمر : 30] وقوله : وما محمد إلى أفإن مات [آل عمران : 144] وكان يقول مع ذلك : ذهب محمد لميعاد ربه كما ذهب موسى لمناجاة ربه ، وكان في ذلك ردع للمنافقين واليهود حتى اجتمع الناس . وأما أبو بكر فرأى إظهار الأمر تجلدا ، ولما تلى الآية كانت تعزيا وتصبرا .

وأما حديث أم العلاء ففيه أنه لا يقطع لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار ، ولكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء .

وقوله : "والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " فيحتمل أن يكون [ ص: 407 ] قبل إعلامه بالغفران له ، وقد رئي ما يفعل به ، وهو الصواب ; لأنه - عليه السلام - لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى إليه . وقال الداودي : "ما أدري ما يفعل بي " ، وهم .

وقوله : "ما أدري ما يفعل بي " أي في أمر الدنيا مما يصيبهم فيها ; لأنه وإن كان وعده بالظهور فقد كان قبل ذلك مواطن خاف فيها الشدة .

وسورة الأحقاف مكية ، والفتح مدنية .

وقوله : (ما يفعل به ) قاله قبل أن يخبر أن أهل بدر من أهل الجنة .

فإن قلت : هذا المعنى يعارض قوله في حديث جابر : "ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه " .

فالجواب أنه لا تعارض بينهما ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى ، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون إذ لم يعلم هو من أمره شيئا . وفي حديث جابر قال ما علمه بطريق الوحي ; إذ لا يقطع على مثل هذا إلا بوحي ، فلا تعارض .

ومعنى قولها : (اقتسم المهاجرون قرعة . . ) إلى آخره . يعني أنهم اقتسموا للسكنى ; لأن المهاجرين لما هاجروا إلى المدينة لم يمكنهم استصحاب أموالهم فدخلوها فقراء ، فاقتسمهم الأنصار بالقرعة في نزولهم عليهم وسكناهم في منازلهم .

[ ص: 408 ] وقولها : (فطار لنا ) أي : حصل وقدر في نصيبنا وسهمنا . وكان بنو مظعون ثلاثة : عثمان وعبد الله وقدامة بدريون أخوال ابن عمر .

وقوله : ( "وما يدريك أن الله أكرمه " ) نهاها عن القطع بذلك .

وأما حديث جابر : ففيه جواز البكاء على الميت كما سلف ، ونهي أهل الميت بعضهم بعضا عن البكاء للرفق بالباكي ، وسكوت الشارع لما يجد الباكي من الراحة .

وقوله : ( "تبكين . . " ) إلى آخره ، يعزيها بذلك ويخبرها بما صار إليه من الفضل .

وقوله : ( "حتى رفعتموه " ) أي : من غسله ; لأنه نسب الفعل إلى أهله ، قاله الداودي . وقال بعد هذا : يعني حين رفع ليقبر وهو الصحيح ; لأنه قتل شهيدا يوم أحد ولم يغسل ، وقتل عبد الله كان يوم أحد وكان أهل الشرك مثلوا به جدعوا أنفه وأذنيه .

وعمته اسمها فاطمة .

[ ص: 409 ] وقوله : "تبكين " وفي موضع آخر : "لم تبكي ؟ " أو "لا تبكي " . قال القرطبي : كذا صحت الرواية بلم التي للاستفهام . وفي مسلم : "تبكي " بغير نون ; لأنه استفهام لمخاطب عن فعل غائبة .

قال القرطبي : ولو خاطبها بالاستفهام خطاب الحاضرة قال : لم تبكين ؟ بالنون . وفي رواية : "تبكيه أو لا تبكيه " وهو إخبار عن غائبة ، ولو كان خطاب المحاضرة لقال : تبكينه أو لا تبكينه بنون فعل للواحدة الحاضرة .

ومعنى هذا أن عبد الله مكرم عند الملائكة وإظلاله بأجنحتها ; لاجتماعهم عليه ومبادرتهم بصعود روحه مبشرة بما أعد الله له من الكرامة .

أو أنهم أظلوه من الحر لئلا يتغير ، أو لأنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .

وروى بقي بن مخلد عن جابر : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "ألا أبشرك أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا ، وما كلم أحدا قط ، إلا من وراء حجاب " الحديث وفيه منقبة ظاهرة له لم تسمع لغيره من الشهداء ، في دار الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية