التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1211 1270 - حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو سمع جابرا - رضي الله عنه - قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه ، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه .


ذكر فيه حديث ابن عمر : أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه ، فأعطاه . . الحديث .

وحديث جابر : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه ، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه .

الشرح :

هذه الترجمة ضبطها الدمياطي بخطه (يكف ) بضم أوله وفتح ثانيه ، وقال في الحاشية : صوابه : الذي يكفي أو لا يكفي -بالياء- وليته اقتصر على الأول ، وتبع في الثاني المهلب فإنه قال ذلك ، قال : ومعناه طويلا [ ص: 482 ] كان ذلك القميص أو قصيرا فإنه يجوز الكفن فيه ، وكان عبد الله بن أبي طويلا ، ولذلك كسا العباس قميصه ، وكان العباس بائن الطول .

وقال ابن التين : هكذا وقعت هذه الترجمة فضبطها بعضهم بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الفاء ، وبعضهم بإسكان الكاف وكسر الفاء ، وقرأه بعضهم بضم الياء ، والأول أشبه بالمعنى ، وفيهما دلالة على الكفن في القميص ، وقد سلف ما فيه .

وأجاب المخالف بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما دفعه إليه للمكافأة ; لأنه لما أتي بأسارى بدر كان العباس في جملتهم ، ولم يكن عليهم ثوب فنظر - صلى الله عليه وسلم - له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه - صلى الله عليه وسلم - إياه فكافأه - صلى الله عليه وسلم - بأن كفنه في قميصه ، كما سيأتي في البخاري في باب : هل يخرج الميت من القبر لعلة ; لئلا يكون للكافر عليه يد .

وأراد أن يخفف عنه من عذابه ما دام ذلك القميص عليه ، ورجاء أن يكون معتقد البعض ما كان يظهر من الإسلام فينفعه الله بذلك ، ويدل عليه أن الله إنما أعلمه بأمره ونهاه عن الصلاة عليه وعلى غيره بعد ما صلى عليه ، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه ، ويجوز أن يكون فعله تألفا لابنه ولعشيرته .

وروى عبد بن حميد في "تفسيره " أنه أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعاه إليه بأن تشهد غسلي إذا مت وتكفني في ثلاثة أثواب من ( . . . ) وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل ، وقال الحاكم : مرض ابن أبي في شوال عشرين ليلة وهلك في ذي القعدة سنة تسع منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 483 ] تبوك ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، وقال له وهو يجود بنفسه : إذا مت احضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه ، فأعطاه قميصه الأعلى ، وكان عليه قميصان ، فقال عبد الله : أعطني قميصك الذي يلي جسدك ، فأعطاه إياه ، وصلى عليه واستغفر له وسيأتي بعض هذا . وفي "المعاني " للزجاج أن ابن أبي هو الذي رد الثوب الأول ليأخذ الثاني ، وقال : "إن قميصي لن يغني عنه شيئا من الله إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام بهذا السبب " . فيروى أنه أسلم من الخزرج ألف لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالصلاة عليه فنزل : ولا تصل على أحد منهم [التوبة : 84] الآية .

وقال ابن التين : لعل هذا كان في أول الإسلام قبل الأحكام ; لأن من مات له والد كافر لا يغسله ولده المسلم ولا يدخله قبره إلا أن يخاف أن يضيع فيواريه ، نص عليه مالك في "المدونة " .

وروي أن عليا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن أباه مات ، فقال : "اذهب فواره " ولم يأمره بغسله .

[ ص: 484 ] وروي أنه أمره بغسله ولا أصل له ، كما قاله القاضي عبد الوهاب .

وقال الطبري : يجوز أن يقوم على قبر والده الكافر لإصلاحه ودفنه قال : وبذلك صح الخبر وعمل به أهل العلم .

وقال ابن حبيب : لا بأس أن يحضره ويلي أمر تكفينه حتى يخرجه ويبرأ به إلى أهل ذمته ، فإن كفي دفنه وأمن من الضيعة عليه فلا يتبعه ، وإن خشي ذلك فليقدم جنازته معتزلا منه ويحتمله .

وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك .

وقوله : ( "أنا بين خيرتين " ) . قال الداودي : هو غير محفوظ ، والمحفوظ ما رواه أنس من جعل النهي بعد قوله : أليس قد نهاك .

وليس القرآن بمعنى التخيير ، وإنما هو بمعنى النفي ، ولا نسلم له بل هو صحيح محفوظ ، وذكر السبعين على التكثير ، وكأن عمر - رضي الله عنه - فهم النهي من الاستغفار لاشتمالها عليه ، وروي أن جبريل أخذ برداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تقدم ليصلي عليه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [التوبة : 84] الآية .

وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "لأستغفرن لهم أكثر من سبعين " فنزلت : سواء [ ص: 485 ] عليهم أستغفرت لهم [المنافقون : 6] الآية فتركه .

واستغفار الشارع لسعة حلمه عمن يؤذيه ، أو لرحمته عند جريان القضاء عليهم ، أو إكراما لولده . وقيل : معنى الآية الشرط أي : إن شئت فاستغفر ، وإن شئت فلا . مثل قوله تعالى : قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم [التوبة : 53] ، وقيل : معناهما سواء ، وقيل : معناه : المبالغة في اليأس .

وقال الفراء : ليس بأمر ، إنما هو على تأويل الجزاء . وقال النحاس : منهم من قال : استغفر لهم [التوبة : 80] منسوخ بقوله : ولا تصل [التوبة : 84] ومنهم من قال : لا ، بل هي على التهديد لهم . وتوهم بعضهم أن قوله : ولا تصل ناسخ لقوله : وصل عليهم [التوبة : 103] ، وهو غلط فإن تلك أنزلت في أبي لبابة وجماعة معه لما ربطوا أنفسهم لتخلفهم عن تبوك .

والحديث الثاني ظاهره مضاد للأول أنه أخرجه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه ، وهناك أعطى قميصه لولده .

قال الداودي : الله أعلم أي الأمرين كان ، ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء : الإنعام ، قاله ابن التين ، أو أنه خلع عنه القميص الذي كفن فيه وألبسه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه بيده الكريمة .

وقال ابن الجوزي : يجوز أن يكون جابر شهد ما لم يشهد ابن عمر ، ويجوز أن يكون أعطاه قميصين قميص الكفن ثم أخرجه فألبسه آخر ، وكان ذلك إكراما لولده أو لأنه ما سئل شيئا قط فقال : لا .

[ ص: 486 ] وروى عبد بن حميد ، عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخدع إنسانا قط غير أن ابن أبي قال يوم الحديبية كلمة حسنة وهي أن الكفار قالوا له : طف أنت بالبيت فقال : لا ، لي في رسول الله أسوة حسنة ، فلم يطف .

وفيه إخراج الميت بعد دفنه ; لأمر يعرض ، وهو دليل لابن القاسم الذي يقول بإخراجه إذا لم يصل عليه للصلاة ما لم يخش التغيير ، وقال ابن وهب : إذا سوي عليه التراب فات إخراجه .

وقال يحيى بن يحيى : وقال أشهب : إذا أهيل عليه فات إخراجه أي : ويصلى عليه في قبره وقد سلف . وفي نسبته عمر إلى النفاق دلالة على جواز الشهادة على الإنسان بما فيه من حال الحياة والموت عند الحاجة وإن كانت مكروهة .

قال الإسماعيلي : وفيه جواز المسألة لمن عنده حدة تبركا ، وعبد الله بن أبي هذا هو الذي تولى كبره [النور : 11] في قصة الصديقة ، وهو الذي قال : ليخرجن الأعز منها الأذل [المنافقون : 8] ، وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا [المنافقون : 7] ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة بعد أن خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

والبابان بعده سلفا قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية