التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1234 [ ص: 540 ] 36 - باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد ابن خولة

1295 – حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : "لا " . فقلت : بالشطر ؟ فقال : "لا " ثم قال : " الثلث والثلث كبير -أو كثير - إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك " . فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : "إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة ، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد ابن خولة " يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . [انظر : 56 - مسلم : 1628 - فتح: 3 \ 164]


ذكر فيه حديث سعد بن أبي وقاص قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع . . الحديث في آخره : لكن البائس سعد ابن خولة " يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع عشرة من "صحيحه "

[ ص: 541 ] ومسلم والأربعة ، والكلام عليه من أوجه :

أحدها :

هذا ليس من مراثي الموتى ، وإنما هو إشفاق منه من موته بمكة بعد هجرته منها وكراهة ما حدث عليه ، من ذلك يقول القائل للحي : أنا أرثي لك بما يجري عليك . كأنه يتحزن له ، قاله الإسماعيلي ، وهو كما قال .

وأما حديث ابن أبي أوفى : كان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المرائي . فأخرجه الحاكم وقال : صحيح غريب .

وقال ابن أبي صفرة : قوله : (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة ) .

من قول سعد في بعض الطرق ، وأكثرها أنه من قول الزهري وليس من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال القاضي : ويحتمل أن يكون قوله : (أن مات بمكة ) . و (يرثي له ) .

من كلام غيره تفسيرا لمعنى (البائس ) إذ روي في رواية : "لكن سعد ابن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها " .

واختلف في قصة سعد ابن خولة فقيل : لم يهاجر من مكة حتى مات فيها . وقيل : بل هاجر . -أي : الثانية- ، وشهد بدرا -أي : وغيرها- ثم انصرف إلى مكة ومات بها . قاله البخاري ، فعلى هذا سبب ترثيه [ ص: 542 ] سقوط هجرته لرجوعه مختارا وموته بها ، وعلى الأول سببها موته بمكة على أي حال وإن لم يكن باختياره ; لما فاته من الثواب والأجر الكامل بالموت في دار هجرته .

الثاني :

سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة . واسم والده : مالك ، مات سنة خمس وخمسين . وسعد ابن خولة -وقال أبو معشر : ابن خولي- هو زوج سبيعة الأسلمية .

وخولة : قال ابن التين : عند أهل اللغة والعربية ساكن الواو ، وكذلك رواه بعضهم . وقال الشيخ أبو الحسن : ما سمعت قط أحدا قرأه إلا بفتحها ، والمحدثون على ذلك . وقال الشيخ أبو عمران عكس ذلك ، واختلف فيه : هل هو من بني عامر بن لؤي صلبة أو مولاهم ؟ مات بمكة عند زوجته في حجة الوداع . قاله يزيد بن أبي حبيب .

وقال الطبري : وهو من أفراده . كما قال ابن عبد البر : مات في الهدنة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فخرج سعد مختارا : لا لحج ولا لجهاد ; لأنه لم يفرض حجا .

وأما سعد بن أبي وقاص فإنه خرج حاجا ، ولو مات فيها لم يكن في معنى سعد ابن خولة الذي رثى له الشارع ; لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه ، ولا يقال له : بائس ، ولا يسمى : تاركا لدار هجرته ، وسيأتي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن من مات بمكة فلا يدفن بها " .

[ ص: 543 ] الثالث :

هذه الابنة اسمها : عائشة ، كما سيأتي في البخاري ، ثم عوفي سعد بعد ذلك وجاءه عدة أولاد ثمانية .

الرابع : في ألفاظه :

العيادة : الزيارة ، ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض ، وعام حجة الوداع هي السنة العاشرة من الهجرة ، وسميت : حجة الوداع ; لأنه ودعهم فيها ، وتسمى أيضا : البلاغ ; لأنه قال : "هل بلغت " ، وحجة الإسلام ; لأنها الحجة التي تتام فيها حج أهل الإسلام ليس فيها مشرك ، هذا قول الزهري .

قال سفيان بن عيينة : كان ذلك يوم فتح مكة ، حينئذ عاد - عليه السلام - سعدا . وهو من أفراده ، قال البيهقي : خالف سفيان الجماعة فقال : عام الفتح ، والصحيح : في حجة الوداع . والوجع : اسم لكل مرض .

قال أبو موسى : رويناه بضم الواو على ما لم يسم فاعله ، والذي في اللغة وجع على وزن علم ، وكذلك هو في رواية أخرى ، ومعنى [ ص: 544 ] اشتد بي : قوي ، وفي رواية : أشفيت منه على الموت . أي : قاربت ، ولا يقال : أشفى إلا في الشر بخلاف أشرف وقارب .

وقوله : (ولا يرثني إلا ابنة ) . أي : من الولد وخواص الورثة ، وإلا فقد كان له عصبة . وقيل : معناه : لا يرثني من أصحاب الفروض سواها . وقيل غير ذلك .

وقوله : (فأتصدق -وفي نسخة : أفأتصدق- بثلثي مالي ؟ ) يحتمل أن يريد به منجزا ومعلقا بما بعد الموت . وفي رواية للبخاري تأتي : فأوصي . بدل : فأتصدق .

وقوله : (بالشطر ) . أي : النصف . بدليل رواية البخاري الآتية : فأوصي بالنصف .

وقوله : ( "الثلث والثلث كثير " ) يجوز في الثلث الأول نصبه ورفعه .

وقوله : " كثير " أو "كبير " أي : بالثاء المثلثة أو بالباء الموحدة .

وقوله : ( "والثلث كثير " ) ، قال الشافعي : يحتمل أن يكون معناه : كثير أي : (غير ) قليل ، وهذا أولى معانيه كما قال .

وقوله : ( "أن تذر " ) بفتح الهمزة وكسرها .

[ ص: 545 ] والعالة : الفقراء ، جمع عائل . وقيل : العيل والعالة : الفاقة ، وقيل : العائل : الكثير العيال . وحكاه الكسائي ، وليس بالمعروف في اللغة كما قاله ابن التين .

ومعنى "يتكففون الناس " : يسألون الصدقة بأكفهم .

وقوله : ( "لعلك أن تخلف " ) إلى آخره المراد بتخلفه طول عمره ، وكان كذلك ، عاش زيادة على أربعين سنة فانتفع به وضر به آخرون ، قتل الكفار وسبى وغنم ، وقيل : إن عبيد الله بن زياد أمر ابنه عمر على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه ، حكاه ابن التين .

وقال ابن بطال : لما أمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم ، فتاب بعضهم وأصر بعضهم ، فقتلهم ، فانتفع به من تاب وتضرر به الآخرون .

وحكى الطحاوي هذا عن بكير بن الأشج ، عن أبيه عامر أنه سأله عن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، وأن المرتدين كانوا يسجعون سجع مسيلمة ، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف .

قال بعض العلماء من أهل المعرفة : (العل ) معناها الترجي ، إلا إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه ، فإن معناها : التحقيق ، ومعنى إمضاء هجرتهم : إتمامها لهم من غير إبطال ، فيرجعون إلى المدينة .

[ ص: 546 ] ومعنى "ولا تردهم على أعقابهم " أي : بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية ، فيخيب قصدهم ويسوء حالهم ، ويقال لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه : رجع على عقبه وحار ، ومنه الحديث : "أعوذ بك من الحور بعد الكور " أي : من النقصان بعد الزيادة .

والبائس : الذي عليه أثر البؤس ، وهو الفقر والقلة . قال الأصيلي : البائس : الذي ناله البؤس ، وقد يكون بمعنى : مفعول كقوله : عيشة راضية أي : مرضية .

ومعنى : يرثي : يتوجع ويسوؤه ما فعل بنفسه ، وذلك أنها دار هجروها لله ، فأحب أن يكون محياهم ومماتهم بغيرها ; لئلا يكون ذلك عودا فيما تركوه لله ، وقد جرت السنة أن يحفظ على الميت شعار القرب كما قلنا في الشهيد والمحرم ، ولو كان نقل الميت من موضع إلى موضع جائزا لنقله إلى موضع هجرته ، وقد روى الطبراني في "معجمه الكبير " أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر إن مات سعد في مرضه هذا أن يخرج من مكة وأن يدفن في طريق المدينة .

وفي "مسند أحمد " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "يا عمرو (القاري ) : إن مات سعد بعدي فها هنا فادفنه نحو طريق المدينة " . وأشار بيده هكذا ، وقد أسلفنا أنه إنما رثى له ; لأنه مات ولم يهاجر ، وهو غلط ، بل [ ص: 547 ] أسلم وهاجر ، وهو بدري كما عده البخاري فيهم ، وشهد أيضا أحدا والخندق والحديبية ، وإنما رثى له ; لأنه هاجر ولم يصبر على هجرته حتى يموت في البلد الذي هاجر إليه ، ولكنه مات في البلد الذي هاجر منه لغير ضرورة ، ولهذا قال عمر : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك ; لأنه حرم على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذي هجره لله ; ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا " ، وكان عثمان وغيره لا يطوف طواف الوداع إلا ورواحلهم قد رحلت . وقيل : إنما مات بمكة في حجة الوداع ورثى له ; لأن من هاجر من بلده يكون له نور الهجرة من الأرض التي هاجر منها إلى الأرض التي هاجر إليها إلى يوم القيامة ، فحرم ذلك النور لما مات بمكة .

الخامس : في فوائده :

وقد وصلتها في "شرح العمدة " زيادة على عشرين ونذكرها هنا ملخصة .

فيه : استحباب عيادة المريض ، وعيادة الإمام أصحابه وأنها مستحبة في السفر كالحضر وأولى ، وجواز ذكر المريض ما يجده من شدة [ ص: 548 ] المرض لا في معرض السخط والشكوى ، بل لمداواة وعلاج أو دعاء صالح أو وصية ، أو استفتاء عن حاله ، ولا يكون ذلك قادحا في خيره وأجر مرضه ، وإباحة جمع المال . وفي رواية لمسلم : إن لي مالا كثيرا .

واستحباب الصدقة لذوي الأموال ، ومراعاة الوارث في الوصية وتخصيص جواز الوصية بالثلث ، خلافا لأهل الظاهر ، وشذ من قال : إن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته . ومن قال : إنه إذا لم يكن له ورثة يضع جميع ماله حيث شاء ، وإليه ذهب إسحاق ، وحكي عن ابن مسعود . وذهب بعضهم إلى أنه ينقص عن الثلث ، وهو الأحسن في الرافعي و "الروضة " .

قال ابن عباس : الثلث حيف ، والربع حيف . وقال الحسن : السدس أو الخمس أو الربع . وقال إسحاق : الربع ، إلا أن يكون في ماله شبهة فله استغراق الثلث . وقال الشافعي : إذا ترك ورثته أغنياء لم يكن له أن يستوعب الثلث ، وإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه .

وأوصى أنس بمثل نصيب أحد ولده ، وأوصى عمر بالربع ، والصديق بالخمس ، وقال : رضيت لنفسي بما رضي الله لنفسه . يعني : خمس الغنيمة .

[ ص: 549 ] وفيه : أن الثلث في الوصايا في حد الكثرة .

وقد اختلفت المالكية في مسائل ، ففي بعضها جعلوه داخلا في حد الكثرة بالوصية لقوله - عليه السلام - : "والثلث كثير " وفيه بحث ، وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بما زاد على الثلث إلا بإجازته ، وشذ بعض السلف في ذلك ، وهو قول أهل الظاهر ، فمنعوها وإن أجازها الورثة ، وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث ، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق ، وأحمد في رواية .

وفيه : أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم عالة ، ومن هذا الوجه أخذ ترجيح الغني على الفقير . وحديث : "ثلاث كيات للذي خلف ثلاثة دنانير " لا بد من تأويله ، وأوله أبو حاتم بن حبان بأنه كان يسأل الناس إلحافا وتكثرا ، ومن هنا استحب النقص من الثلث .

وفيه : الحث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب ، وأن صلة [ ص: 550 ] القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد ، وأن الإخلاص شرط في الثواب والإنفاق في وجوه الخير ، وأن المباح بالنية يصير قربة ، فإن وضع اللقمة في فم الزوجة إنما يكون عادة عند ملاعبتها وتسلية من كره حالة يخالف ظاهرها الشرع ولا سبب له فيها ، وأن الإنسان قد يكون له مقاصد دينية فيقع في مكاره تمنعه منها فيخلص منها بالرجاء وسؤال الرب جل جلاله إتمام العمل على وجه لا يدخله نقص ، وفضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح ، وجواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة ، وهو قول الجمهور .

وفيه : معجزات ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لسعد من طول عمره وفتح البلاد وانتفاع أقوام وضر آخرين ومنقبة ظاهرة لسعد ، وفضائل عديدة منها : مبادرته إلى الخيرات ، وكمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيم أمر الهجرة .

وفيه : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر سعدا بالوصية للأقربين بعد أن أخبره أنه لا يرثه إلا ابنة ، ولو كانت آية الوصية للأقربين غير منسوخة لأمره به ، فدل على أنها لا تجب ، والذي عليه عامة العلماء أنها منسوخة . وقال الشعبي والنخعي : إنما كانت على وجه الندب ; لأن الشارع مات ولم يوص ، ودخل علي على مريض فأراد أن يوصي ، فنهاه ، وقال : الله تعالى يقول : إن ترك خيرا [البقرة : 180] وأنت لم تدع مالا فدع مالك لأهلك وغير ذلك .

[ ص: 551 ] وهذه خواتم نختمه بها :

الأولى : هذا الحديث في مسلم : إني خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها . فقال : "اللهم اشف سعدا " . ذكره ثلاثا ، وفيه : "إن صدقتك من مالك صدقة ، وإن نفقتك على عيالك صدقة ، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة " وللحاكم وقال : على شرط الشيخين ، فوضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ، ثم قال : "اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته " .

الثانية : هذا الحديث رواه البخاري هنا من طريق مالك عن الزهري ، وأخرجه الأربعة من طريق ابن عيينة عن الزهري . قال الطحاوي : روى عن ابن عيينة هذا الحديث بما يقضي له على مالك .

ثالثها : قال ابن عبد البر : وهو حديث اتفق أهل العلم على صحة سنده ، وجعله جمهور الفقهاء أصلا في مقدار الوصية ، وأنه لا يتجاوز بها الثلث ، إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته ، فمن ذلك ابن عيينة قال فيه عن الزهري : عام الفتح . انفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت ، وقد رويناه من طريق معمر وجماعات عددهم ، عن ابن شهاب : عام حجة الوداع .

قال ابن المديني : الذين قالوا : حجة الوداع . أصوب .

[ ص: 552 ] رابعها : قال القرطبي : وقوله : ( "ورثتك " ) دلالة على أنه كان له ورثة غير الابنة المذكورة . قلت : ليس صريحا فيه .

خامسها : جاء في "الصحيح " : أخلف بعد أصحابي . أي : أخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين المنصرفين معك . قاله أبو عمر . قال : ويحتمل أن يكون لما سمع الشارع يقول : "إنك لن تنفق نفقة " وتنفق : فعل مستقبل ، أيقن أنه لا يموت من مرضه ذاك أو ظنه فاستفهمه ، هل يبقى بعد أصحابه ؟ فأجابه بضرب من قوله : "لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله " .

وقوله : ( "إنك لن تخلف فتعمل عملا . . " ) إلى آخره . وقال القرطبي : هذا الاستفهام إنما صدر من سعد مخافة المقام بمكة إلى الوفاة فيكون قادحا في هجرته ، كما جاء في بعض الروايات : خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها . فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك لا يكون وإن طال عمره . وقال القاضي عياض : حكم الهجرة باق بعد الفتح لهذا الحديث .

وقيل : إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح ، فأما من هاجر بعده فلا ، وأبعد من قال : إن وجوب الهجرة واستدامتها قد ارتفع يوم الفتح ، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة ; لنصرته - صلى الله عليه وسلم - والأخذ [ ص: 553 ] عنه ، فلما مات ارتحل أكثرهم عنها ، وتأولوا بما تقدم ; لأن ذلك إنما كان مخافة نقص أجورهم ، وقد يجاب بأن خروجهم لأجل الجهاد وإظهار الدين .

وقيل : لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة -شرفها الله- إذا كان لضرورة دون الاختيار ، وقال قوم : المهاجر بمكة يحبط هجرته كيفما كان .

وقيل : لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة . وقال القرطبي : من نقض الهجرة خاف المهاجرون حيث تحرجوا من مقامهم بمكة -شرفها الله - في حجة الوداع ، وهذا هو الذي نقمه الحجاج على أبي ذر لما ترك المدينة ونزل الربذة وقال : تغربت يا أبا ذر ، فأجابه بأن قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو . انتهى .

وقوله : ( أبو ذر ) . صوابه سلمة بن الأكوع ، فإن أبا ذر مات قبل أن يولد الحجاج بدهر ، وعلى تقدير صحته فنزول الربذة لا يقدح ; لأنه لم يهاجر منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية