التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1238 1300 - حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا حين قتل القراء ، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزن حزنا قط أشد منه . [انظر : 1001 - مسلم : 677 - فتح: 3 \ 167]


ذكر فيه حديث عائشة : لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن ، وأنا أنظر من صائر الباب ، شق الباب . . الحديث .

وحديث أنس : قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا حين قتل القراء ، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزن حزنا قط أشد منه .

حديث أنس سلف في القنوت ، وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضا ، وقتل زيد بن حارثة وصاحباه في غزوة مؤتة -بالهمز وتركه- بالبلقاء من أرض الشام في جمادى الأولى ، وقيل : الآخرة سنة ثمان .

[ ص: 559 ] فالتقوا مع هرقل على القرية المذكورة في جموعه . يقال : مائة ألف غير من انضم إليهم من المستنفرة ، فقتل هؤلاء ، ثم اتفق المسلمون على خالد ففتح الله له فقتلهم ، وقدم البشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بذلك قبل قدومه . وكان هؤلاء الثلاثة من أحب الناس إليه .

قال لجعفر : "أشبهت خلقي وخلقي " وقال أخرى : "لا أدري أفرح بقدوم جعفر أو بفتح خيبر " .

وقال لزيد : "أنت أخونا ومولانا " "وإنه لمن أحب الناس إلي ولقد كان خليقا للإمارة " ، وكان ابن رواحة أحد النقباء وأحد شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يدافعون عنه . وقال فيه : "أن أخا لكم لا يقول الرفث " .

وقوله : (صائر ) . قيل : صوابه : صير -بكسر أوله وإسكان ثانيه - أي : شقه -بفتح الشين- وهو الموضع الذي ينظر منه كالكوة ،

[ ص: 560 ] وليس يريد : (أنظر من شق الباب ) بالكسر ; لأن الشق : الناحية ولم يرد ذلك ، وكون نساء جعفر لم يطعن الناهي ; إما لأنهن لم يصرح لهن بنهي الشارع ، فظنن أنه كالمحتسب في ذلك ; أو لأنهن غلبن على أنفسهن لحرارة المصيبة .

وقوله : ( "فاحث " ) روي بكسر الثاء وضمها ; لأنه من حثى يحثي ويحثو . وتأوله بعضهم على أن البكاء كان معه نوح ، فلذلك نهاهن .

وقال بعضهم : كان من غير نوح ; لأنه يبعد أن الصحابيات يتمادين على محرم ، والنهي عن البكاء المجرد للتنزيه أو للأدب لا للتحريم .

والعناء -بالمد- المشقة والتعب . وللعذري عند مسلم : من الغي -بغين معجمة وياء مشددة- وهو ضد الرشد . وللطبري مثله إلا أنه بالعين المهملة المفتوحة ، ولبعضهم بكسرها وكلاهما وهم ، والصواب الأول ، ولم ترد عائشة الاعتراض على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أرادت : إنك لا تقدر على فعل ما أمرك به ، وما تركته من التعب . قال القرطبي : ولم يكن أمره للرجل بذلك ليفعله بهن ، ولكن على طريق أن هذا يسكنهن إن فعلته ، فافعله إن أمكنك وهو لا يمكنك . وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر إن لم ينته عوقب وأدب إن أمكن .

وقوله : (جلس يعرف فيه الحزن ) ، إنما هو لما جعل الله تعالى فيه من الرحمة بأمته وحزن عليهم ; لأنهم أئمة المسلمين ، وهذا الحديث أسهل ما جاء في معنى البكاء .

[ ص: 561 ] قال الطبري : إن قال قائل : إن أحوال الناس في الصبر متفاوتة ، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة في وجهه بالتغير له ، وفي عينيه بانحدار الدموع . ولا ينطق بالسيئ من القول ، ومنهم من يظهر ذلك في وجهه وينطق بالهجر المنهي عنه ، ومنهم من يجمع ذلك كله ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسه ، ومنهم من يكون حاله في حال المصيبة وقبلها سواء . فأيهم المستحق اسم الصبر ؟ قيل : قد اختلف السلف في ذلك فقال بعضهم : المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حالها مثله قبلها ، ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان . قال غيره -كما زعمت الصوفية - : إن الولي لا تتم له ولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر ، ولا يحزن على شيء ، والناس في هذا الحال مختلفون ، فمنهم من في طبعه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب ، ومنهم من هو بخلاف ذلك ، فالذي يكون في طبعه الجزع ويملك نفسه ويستشعر الصبر أعظم أجرا من الذي الجلد طباعه .

قال الطبري : كما روي عن ابن مسعود أنه لما نعي له أخوه عتبة قال : لقد كان من أعز الناس علي وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيا . قالوا : وكيف وهو من أعز الناس عليك ؟ قال : (والله ) إني لأؤجر فيه أحب إلي من أن يؤجر في .

وقال ثابت : إن صلة بن أشيم مات أخوه ، فجاءه رجل وهو يطعم ، فقال : يا أبا الصهباء ، إن أخاك قد مات . قال : هلم فكل ، قد نعي لنا إذا فكل . قال : والله ما سبقني إليك أحد ، فمن نعاه ؟ قال : بقول الله -عز وجل- : إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر : 30] .

[ ص: 562 ] وقال الشعبي : كان شريح يدفن جنائزه ليلا يغتنم ذلك ، فيأتيه الرجل حين يصبح ، فيسأله عن المريض فيقول : هدأ ، لله الشكر ، وأرجو أن يكون مستريحا . أخذه من قصة أم سليم . وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما هو قبلها يتحدث ويضحك ، إلا يوم ماتت حفصة فإنه جعل يكشر وأنت تعرف في وجهه . وسئل ربيعة : ما منتهى الصبر ؟

قال : أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه . وقال آخرون : الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه وصفه وبثه للناس ، ورضاه بقضاء ربه وتسليمه لأمره .

وأما جزع القلب ، وحزن النفس ، ودمع العين ، فإن ذلك لا يخرج العبد عن معاني الصابرين ، إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله ; لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب . وقد مدح الله الصابرين ووعدهم جزيل الثواب عليه ، والثواب إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير ، دون ما لا صنع لهم فيه ، وتغير الأجساد عن هيئاتها ، ونقلها عن طباعها الذي جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها .

والمحمود من الصبر ما أمر الله به ، وليس فيما أمر به تغيير جبلته عما خلقت به . والذي أمر به عند نزول النبلاء الرضا بقضائه ، والتسليم لحكمه ، وترك شكوى ربه ، وبذلك فعل السلف . قال ربيعة بن كلثوم : دخلنا على الحسن وهو يشتكي ضرسه ، فقال : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .

[ ص: 563 ] وروى المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا : قال : "قال الله -عز وجل- : إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده أنشطته من عقالي ، وبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ويستأنف العمل " .

[ ص: 564 ] وقال طلحة بن مصرف : لا تشك ضرك ولا مصيبتك . قال : وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق عليهما السلام دخل عليه جاره فقال : يا يعقوب ، ما لي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنن ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني ما ابتلاني الله من يوسف ، فأوحى الله تعالى إليه : أتشكوني إلى خلقي ؟! قال : يا رب ، خطيئة فاغفرها لي . قال : قد غفرتها لك . فكان بعد ذلك إذا سئل قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف : 86] الآية .

وقد توجع الصالحون على فقد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحزنوا له أشد الحزن . قال طاوس : ما رأيت خلقا من خلق الله أشد تعظيما لمحارم الله من ابن عباس ، وما ذكرته قط فشئت أن أبكي إلا بكيت ، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال أبو عثمان : رأيت عمر بن الخطاب لما جاءه [نعي] النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكي ، ولما مات سعيد بن الحسن بكى عليه الحسن حولا فقيل له : يا أبا سعيد ، تأمر بالصبر وتبكي ؟! قال : الحمد لله الذي جعل هذه الرحمة في قلوب المؤمنين يرحم بها [ ص: 565 ] بعضهم بعضا بدمع العين ، وبحزن القلب ، وليس ذلك من الجزع ، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد ، الحمد لله الذي لم يجعل بكاء يعقوب على يوسف وبالا عليه ، وقد بكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن .

وقال يحيى بن سعيد : قلت لعروة : إن ابن عمر يشدد في البكاء على الميت ، فقال : قد بكى على أبيه ، وبكى أبو وائل في جنازة خيثمة .

فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يتجاوزوا فيه المحظور خروجا من معنى الصبر ، ولا دخولا في معنى الجزع ، وقد بكى الشارع على ابنته زينب ، وعلى ابنه إبراهيم وفاضت عيناه ، وقال : "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده " . وبكى لفقد جلة الإسلام وفضلاء الصحابة ، فإذا كان الإمام المتبع به نرجو الخلاص من ربنا ، وكان قد حزن بالمصيبة وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه ، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، فقد صح قول من وافق ذلك وسقط ما خالفه .

التالي السابق


الخدمات العلمية