التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1239 [ ص: 566 ] 41 - باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة .

وقال محمد بن كعب القرظي : الجزع القول السيئ والظن السيئ . وقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف : 86]

1301 - حدثنا بشر بن الحكم ، حدثنا سفيان بن عيينة ، أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول : اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال : فمات وأبو طلحة خارج ، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت ، فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح . وظن أبو طلحة أنها صادقة ، قال : فبات ، فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج ، أعلمته أنه قد مات ، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما " . قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن . [5470 - مسلم : 2144 (23 ) - فتح: 3 \ 169]


وذكر فيه حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ، قال : اشتكى ابن لأبي طلحة ، فمات وأبو طلحة خارج . . الحديث ، وفي آخره : "لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما " . قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن .

الشرح :

حديث أنس هذا قال أبو نعيم في "مستخرجه " : يقال : إن هذا مما تفرد به البخاري ، وقال المزي : هذا حديث غريب تفرد به بشر بن الحكم يعني : شيخ البخاري ، قيل : لم يروه أحد عنه غير البخاري ، وكأنهما [ ص: 567 ] يشيران إلى التفرد بالسند لا المتن ; لأن المتن رواه عن أنس عندهما أنس بن سيرين ، وثابت عند مسلم ، وحميد عند أبي نعيم ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عند الإسماعيلي ، وللبخاري : فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أعرستم الليلة ؟ " قال : نعم ، قال : "اللهم بارك لهما " . فولدت غلاما فقال لي أبو طلحة : أحمله حتى تأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث معه بتمرات ، فحنكه وسماه عبد الله . ولمسلم : لما مات قالت لأهلها : لا تخبروا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أخبره ، فجاء فقربت له عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فقالت : يا أبا طلحة ، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعوهم ؟ قالت : فاحتسب ابنك . الحديث .

وروى معمر ، عن ثابت ، عن أنس أنه لما جامعها قالت له ذلك ، وللإسماعيلي : وكان أبو طلحة صائما . وللبيهقي : وكان أبو طلحة يحب الابن ، ولأبي داود : "يبارك لكما في غابر ليلتكما " .

إذا تقرر ذلك ، فالكلام على ذلك من أوجه :

أحدها :

البث في الآية : أشد الحزن قال بعض السلف : قول العبد : إنا لله وإنا إليه راجعون . كلمة لم يعطها أحد قبل هذه الأمة ، ولو علمها [ ص: 568 ] يعقوب لم يقل : يا أسفى على يوسف [يوسف : 84] وقال سعيد بن جبير : لم تعط أمة من الأمم ما أعطيته هذه الأمة من الاسترجاع ، ثم تلا هذه الآية : يا أسفى على يوسف .

الثاني :

هذا الابن المتوفى هو أبو عمير صاحب النغير ، قاله ابن حبان والخطيب وغيرهما ، ولما خرجه الحاكم وسماه قال : صحيح على شرطهما . و (فيه ) سنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز . فإن فيه أن أم سليم ، كانت خلف أبي طلحة ، وأبو طلحة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يكن معهم غيرهم .

الثالث :

هدأ -بالهمز- سكن ، ومنه هدأت الرجل : إذا نام الناس . وأهدأت المرأة ولدها : سكتته لينام ; لأن النفس كانت قلقة شديدة الانزعاج بالمرض ، فسكنت بالموت ، ولذلك قالت : أرجو أن يكون قد استراح .

وقولها : (أرجو أن يكون قد استراح ) من حسن المعاريض وهو ما احتمل معنيين ، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه ، ولكن ورت به عن المعنى الذي كان يحزنها ، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس ، وأوهمته أنه استراح قلقه ، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها .

[ ص: 569 ] الرابع :

فيه منقبة عظيمة لأم سليم بصبرها ورضاها بقضاء الله تعالى .

الخامس :

فلما أصبح اغتسل . فيه : تعريض بالإصابة ، وقد صرح بها في بعض الروايات ، وقوله : ( "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما " ) يحتمل أن يكون خبرا ودعاء ، فأجاب الله تعالى قوله ، فحملت تلك الليلة بعبد الله بن أبي طلحة ، والد إسحاق ، راوي الحديث ، فحنكه - صلى الله عليه وسلم - وسماه ، وكان من خير أهل زمانه ، وآتاهما الله تعالى ذلك لصبرهما ، والذي لهما عند الله أعظم .

السادس :

الأولاد الذين أشار إليهم سفيان ، هم : القاسم ، وعمير ، وزيد ، وإسماعيل ، ويعقوب ، وإسحاق ، ومحمد ، وعبد الله ، وإبراهيم ، ومعمر ، وعمارة ، وعمر ، ذكرهم ابن الجوزي ، وعدتهم اثنا عشر .

السابع :

وهو فقه الباب : عدم إظهار الحزن عند المصيبة ، وترك ما أبيح لي من إظهار الحزن الذي لا إسخاط فيه لله تعالى ، كما فعلت أم سليم فإنها اختارت الصبر ، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر ممن تقدم ذكره في الباب قبل هذا فهو آخذ بأدب الرب جل جلاله في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [النحل : 126] .

[ ص: 570 ] الثامن :

فيه من الفقه : جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة لمن قدر عليها ، وأن ذلك مما ينال به العبد رفيع الثواب وجزيل الأجر .

التاسع :

التسلية عند المصائب .

العاشر :

فيه : أن المرأة تتزين لزوجها تعرضا للجماع لقوله : (ثم هيأت شيئا ) أراد : هيأت شيئا من حالها .

الحادي عشر :

أن من ترك شيئا لله تعالى ، وآثر ما ندب إليه ، وحض عليه من جميل الصبر ، أنه معوض خيرا بما فاته ، ألا ترى قوله : (فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن ) . ولقد أخذت أم سليم في الصبر إلى أبعد غاية ، على أن النساء أرق أفئدة ; لأنا نقول : إن ما في نسائها ولا في الجلد من الرجال مثل أم سليم ; لأنها كانت تسبق الكثير من الرجال الشجعان إلى الجهاد ، وتحتسب في مداواة الجرحى ، وثبتت يوم حنين في ميدان الحرب ، والأقدام قد زلزلت ، والصفوف قد انتفضت . والمنايا قد فغرت ، فالتفت إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي يدها خنجر فقالت : يا رسول الله أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك ، فليسوا بشر منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية