التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1252 [ ص: 597 ] 51 - باب: السرعة بالجنازة

وقال أنس : أنتم مشيعون ، فامشوا بين يديها ، وخلفها وعن يمينها ، وعن شمالها . وقال غيره قريبا منها .

1315 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال : حفظناه من الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدمونها ، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " . [ مسلم : 944 - فتح: 3 \ 182]


وذكر فيه حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أسرعوا بالجنازة . . " الحديث .

الشرح :

أثر أنس أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حميد ، عنه في الجنازة : أنتم مشيعون لها تمشون أمامها وخلفها ، وعن يمينها ، وعن شمالها . وأخرجه عبد الرزاق أيضا . وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم ، والأربعة ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد من حديث أبي بكرة : لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنكاد نرمل بالجنازة رملا ، ثم ذكر له شاهدا صحيحا .

[ ص: 598 ] وللترمذي : "ما دون الخبب " . وأعله . وللبخاري في "تاريخه " عن محمود بن لبيد قال : أسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ ، وأمر عمر بالإسراع بجنازته ، وكذا عمران بن الحصين ، وابن عمرو ، وابن عمر ، وعلقمة . وقال أبو الصديق الناجي : إن كان الرجل لينقطع شسعه في الجنازة فما يدركها .

وقال إبراهيم : كان يقال : انبسطوا بجنائزكم ، ولا تدبوا بها دب اليهود . وكان محمد والحسن يعجبهما الإسراع بها .

وفي ابن ماجه بإسناد فيه ليث عن أبي بردة ، عن أبيه أبي موسى قال : مروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجنازة يسرعون بها ، فقال : " (لتكون ) عليكم السكينة " .

[ ص: 599 ] وأخذ قوم بهذا فقالوا : عدم الإسراع بها أفضل بل نمشي بها مشيا لينا ، وأخذ قوم بالأول وقالوا : الإسراع بها أفضل . وقد روي عن أبي هريرة أنهم كانوا معه في جنازة ، فمشوا بها مشيا لينا ، فانتهرهم أبو هريرة وقال : كنا نرمل بها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وذكر ابن المنذر أن الثاني مذهب ابن عباس ، وقد يكون حديث أبي موسى فيه عنف في مشيهم ذلك تجاوزوا ما أمروا في حديث أبي هريرة في السرعة ، وقد ورد مصرحا به في حديث أبي موسى المذكور : مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجنازة يسرعون بها في المشي ، وهي تمخض مخض الزق فقال : "عليكم بالقصد في جنائزكم " فأمرهم بالقصد ; لأن تلك السرعة يخاف منها على الميت . وقد أمر بما دون الخبب كما سلف ، وهو المراد بالسرعة في حديث أبي هريرة ، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه ، وهو قول جمهور العلماء .

وفي "المبسوط " : ليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت ، غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة من الإبطاء ، وقال ابن قدامة : لا خلاف بين الأئمة في استحباب الإسراع بها .

[ ص: 600 ] قلت : وهو مشي الناس على سجيتهم ، لا السعي المفرط ، وما جاء عن السلف من كراهة الإسراع بها محمول على هذا الذي يخاف منه الانفجار أو خروج شيء منه .

وروي عن النخعي أنه قال : بطئوا بها ، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى .

وقال ابن حبيب : لا يمش بالجنازة الهوينا ، ولكن مشي الرجل الشاب في حاجته . وكذلك قال الشافعي : يسرع بها إسراع سجية مشي الناس . وفي "المعرفة " عنه : فوق سجية المشي .

وقد قيل : إن المراد بالإسراع تعجيل الدفن بعد يقين موته . ووجهه حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال : "إني لأرى طلحة إلا وقد حدث به الموت ، فآذنوني به وعجلوا ، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " .

[ ص: 601 ] وأما قول أنس : (أنتم مشيعون ، فامشوا بين يديها ، وخلفها ) فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب :

أحدها : يمشي أمامها وخلفها وحيث شاء . هذا قول أنس بن مالك ، ومعاوية بن قرة ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الثوري ، واحتجوا بما رواه يونس بن يزيد عن الزهري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها .

ثانيها : أن المشي أمامها أفضل ، واحتجوا بحديث ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر ، وعمر يمشون أمام الجنازة . رواه أصحاب السنن الأربعة ، وصححه ابن حبان .

وفي رواية للنسائي ، وابن حبان زيادة : وعثمان .

[ ص: 602 ] وروي مرسلا عن الزهري .

قال الترمذي : وأهل الحديث يرون أنه أصح ، قاله ابن المبارك .

واختار البيهقي ترجيح الموصول ; لأن واصلها ثقة ، وكذا ابن المنذر حيث قال في "إشرافه " : ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة .

وقال ابن حزم : لم يخف علينا قول الجمهور من أصحاب الحديث أن خبر همام هذا خطأ ، ولكن لا يلتفت إلى هذا الخطأ في رواية الثقة إلا ببيان لا يشك فيه وهو قول ابن عمر ، وابن عباس ، وطلحة ، والزبير ، وأبي قتادة ، وأبي هريرة ، وأبي أسيد ، حكاه في المصنف عنه ، وإليه ذهب القاسم وسالم وبقية الفقهاء السبعة المدنيين ، والزهري ومالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم . وقال الزهري : والمشي خلف الجنازة من خطأ السنة ، واحتج أحمد بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش ، وبحديث ابن عمر ، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين .

وقال ابن شهاب : ذلك عمل الخلفاء بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هلم جرا .

وفي "المصنف " عن أبي صالح قال : كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يمشون أمامها . وحكاه أيضا عن علقمة والأسود والقاسم والحسن والحسين [ ص: 603 ] وعبد الله بن الزبير وعبيد بن عمير والعقار بن المغيرة بن شعبة .

ثالثها : أن المشي خلفها أفضل ، وهو قول علي بن أبي طالب . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأهل الظاهر .

قال الطحاوي : وهو قول ابن مسعود وأصحابه ، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص ، عن أبي فروة الهمداني عن زائدة بن خراش ، عن ابن أبزى ، عن أبيه قال : كنت أمشي في جنازة فيها أبو بكر وعمر وعلي ، وكان أبو بكر وعمر يمشيان أمامها ، وكان علي يمشي خلفها ، فقال علي : إن (فضل ) الذي يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذي أعلم ، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس . ورواه أحمد في "مسنده " : عن علي أن عمرو بن حريث سأله فقال علي : إن فضل المشي خلفها على بين يديها كفضل الصلاة المكتوبة في الجماعة على الوحدة . فقال عمرو : إني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمامها . فقال علي : إنما كرها أن يحرجا الناس .

وحكى الأثرم أنه ذكر هذا لأبي عبد الله ، فتكلم في إسناده . ومثل هذا لا يقال بالرأي وإنما هو بالتوقيف ، وقد روي عن ابن عمر مثل ذلك .

وروى نافع قال : خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء ،

[ ص: 604 ] فوقف ثم قال : ردهن فإنهن فتنة الحي والميت . ثم مضى فمشى خلفها ، قلت : يا أبا عبد الرحمن ، كيف المشي في الجنازة ، أمامها ، أم خلفها ؟ قال : أما تراني أمشي خلفها . فهذا ابن عمر يفعل هذا ، وهو الذي يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمشي أمامها . فدل ذلك على أن فعل الشارع ذلك على جهة التخفيف على الناس ، لا لأن ذلك أفضل من غيره .

وقد روى مغيرة عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون السير أمام الجنازة ، وتأولوا في تقديم عمر بن الخطاب للناس في جنازة زينب أم المؤمنين ، أن ذلك كان من أجل النساء اللاتي كن خلفها ، فكره عمر للرجال مخالطتهن ; لا لأن المشي أمامها أفضل . وقد روى يونس ، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك ، قال إبراهيم : كان الأسود إذا كان في الجنازة نساء مشى أمامها ، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها .

ولا فرق عندنا بين الماشي والراكب ، وخالف الخطابي ، وتبعه الرافعي في "شرح المسند " فقال : الأفضل للراكب أن يكون خلفها بلا خلاف . وعبارة ابن الحاجب : وفي التشييع .

ثالثها : المشهور المشاة يتقدمون ، وأما النساء فيتأخرون ، وفي "المصنف " قيل لعلقمة : يكره المشي خلف الجنازة ؟ قال : إنما يكره السير أمامها .

[ ص: 605 ] وعن ابن عون : كان الحسن وابن سيرين لا يسيران أمامها ، وقال سويد بن غفلة : الملائكة يمشون خلف الجنازة . وعن أبي الدرداء أن من تمام أجر الجنازة تشييعها من أهلها ، والمشي خلفها . وقال أبو معمر في جنازة ابن ميسرة : امشوا خلف جنازته ، فإنه كان مشاء خلف الجنائز . وعن مسروق مرفوعا مرسلا : "لكل أمة قربان ، وقربان هذه الأمة موتاها ، فاجعلوا موتاكم بين أيديكم " . وقال أبو أمامة : لأن لا أخرج معها أحب إلي من أن أمشي أمامها .

ولأبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا : "لا تتبعوا الجنازة بصوت ولا نار ، ولا يمشى بين يديها " .

وللدارقطني من حديث عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : جاء ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أن أمه توفيت وهي نصرانية وهو محب ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : "اركب دابتك ، وسر أمامها ، فإنك إذا سرت أمامها لم تكن معها " .

وفي "صحيح الحاكم " من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "الراكب يسير خلف الجنازة ، والماشي عن يمينها وشمالها قريبا منها ، والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة " ثم قال :

[ ص: 606 ] صحيح على شرط البخاري . وقال البيهقي : مشكوك في رفعه . وكان يونس يقفه على زياد .

فإن قلت : الشارع أمر باتباع الجنازة ، ولفظ الاتباع لا يقع إلا على التالي ، ولا يسمى المتقدم تابعا بل هو متبوع ، قلت : لا نسلم ذلك . فإن قيل : حق الشفيع أن يتقدم على الشافع ، والقوم شفعاء ، قلت :

ينتقض بالصلاة عليه ، فإنهم شفعاء فيها وقد تأخروا عنه ، والشفاعة في الصلاة لا في التشييع . قال ابن شاهين : هذا باب مشكل من القطع فيه بنسخ ، فيجوز أن يكون مشى - صلى الله عليه وسلم - بين يديها لعلة وخلفها لعلة ، كما كان إذا صلى سلم واحدة ، فلما كثر الناس عن يمينه وخلا اليسار سلم عن يمينه وشماله ، ثم جاءت الرخصة منه بأنه يمشي حيث شاء ، وقد جاء في المشي خلفها من الفضل ما لم يجئ في المشي أمامها ، ولا يسلم له ذلك .

فصل :

قوله : (وقال غيره : قريبا منها ) . أي : لأنه إذا بعد لم يكن مشيعا ، فإن بعد عنها فإن كان بحيث ينسب إليها لكثرة الجماعة ، حصل له فضل المتابعة ، وإلا فلا ، ولو مشى خلفها حصل له أصل فضيلة المتابعة ، وفاته كمالها على ما قررناه عند الشافعي ومتابعيه .

فصل :

وقوله في الحديث : ( "فشر تضعونه عن رقابكم " ) يعني : تعب [ ص: 607 ] حمله ، ويحتمل أن يراد به من أهل النار . وقيل : إن الميت السعيد إذا سمع من يقول : على رفقكم -يعني : المهل- أنه كان القائل أبغض الخلق إليه ولو كان أحبهم إليه في الدنيا . والشقي عكس ذلك ، إذا سمع من يقول : أسرعوا . كان أبغض الناس إليه ولو كان أحبهم إليه في الدنيا . وإذا قال : على رفقكم كان أحبهم إليه .

فرع : قال ابن المنذر : ومن تبع الجنازة حيثما مشى فيها ، فليكثر ذكر الموت ، والفكر في صاحبهم ، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه ، وليستعد للموت وما بعده .

وسمع أبو قلابة صوت قاص في جنازة فقال : كانوا يعظمون الموت بالسكينة . وآلى ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة .

وقال مطرف بن عبد الله : كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه في الجنازة له عهد عنده ، فما يزيد على التسليم ثم يعرض عنه ، حتى كأن له عليه موجدة اشتغالا بما هو فيه ، فإذا خرج من الجنازة سأله عن حاله ولاطفه .

وفي سماع أشهب : قال أسيد بن حضير : لو كنت في حالتي كلها مثلي في ثلاث : إذا ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا قرأت سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية