التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1259 [ ص: 614 ] 56 - باب: سنة الصلاة على الجنازة

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى على الجنازة " . وقال : "صلوا على صاحبكم " . وقال : "صلوا على النجاشي " . سماها صلاة ، ليس فيها ركوع ولا سجود ، ولا يتكلم فيها ، وفيها تكبير وتسليم . وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرا . ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ، ويرفع يديه ، وقال الحسن : أدركت الناس وأحقهم -يعني بالصلاة- على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم . وإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم ، وإذا انتهى إلى الجنازة وهم يصلون يدخل معهم بتكبيرة . وقال ابن المسيب : يكبر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعا . وقال أنس : التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة . وقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [التوبة : 84] وفيه صفوف وإمام . [فتح: 3 \ 189]

1322 - حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن الشيباني ، عن الشعبي قال : أخبرني من مر مع نبيكم - صلى الله عليه وسلم - على قبر منبوذ ، فأمنا فصففنا خلفه . فقلنا : يا أبا عمرو من حدثك ؟ قال : ابن عباس رضي الله عنهما . [انظر : 857 - مسلم : 954 - فتح: 3 \ 190]


ثم ذكر حديث الشعبي السالف في الصفوف على الجنازة ، وأراد البخاري بما ذكر الرد على الشعبي ، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة . قال : لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود ، وهو قول ابن جرير ، والشيعة ، وابن علية ، كما نقله أبو عمر ، وإجماع المسلمين [ ص: 615 ] سلفا وخلفا على خلافه ، فلا التفات إليه ، وقد أجمعوا على أنها لا تصلى إلا إلى القبلة ولو كانت دعاء لجازت إلى غيرها .

واحتجاج البخاري في الباب بما ذكر بعضه كاف ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - سماها صلاة ، وقول السلف الذين ذكرهم في الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة في أن لا تصلى إلا بطهارة وفيها تكبير وسلام ، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمهم فيها وصلوا خلفه كما فعل في الصلاة .

ولنتكلم على ما ذكره حرفا حرفا فنقول :

أما قوله : ( "من صلى على الجنازة " ) فهو مسند من حديث أبي هريرة : "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط ، وإن اتبعها فله قيراطان " ذكره قريبا في باب : من انتظر حتى تدفن ، بلفظ : "من شهد الجنازة حتى يصلي " وما سقناه لفظ مسلم .

وأما قوله : ( "صلوا على صاحبكم " ) فسيأتي من حديث سلمة بن الأكوع في الذي عليه ثلاثة دنانير فقال - صلى الله عليه وسلم - : "صلوا على صاحبكم " وهو أحد ثلاثيات البخاري .

وأما قوله : ( "صلوا على النجاشي " ) فسلف .

وأما قوله : (سماها صلاة ، ليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها ) فهو كما قال .

[ ص: 616 ] وأما قوله : (وفيها تكبير وتسليم ) . فهو كما قال . لكن اختلف هل يسلم واحدة أو اثنتين ؟ فقال كثير من أهل العلم : يسلم واحدة ، روي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة بن سهل ، وأنس ، وجماعة من التابعين ، وقد سلف قبيل الإذن بالجنازة أيضا ، وهو قول مالك ، وأحمد ، وإسحاق : فيسلم خفية . كذا روي عن الصحابة والتابعين إخفاؤها . وعن مالك : يسمع بها من يليه . والمشهور عندهم أن المأموم يسلم أيضا واحدة لا اثنتين . وقال الكوفيون : يسلم تسليمتين . واختلف قول الشافعي على القولين ، والأظهر : ثنتان . وبواحدة قال أكثر العلماء ; لبنائها على التخفيف ، فعليه يلتفت يمنة ويسرة ، والأشهر : لا ، بل يأتي بها تلقاء وجهه .

وهل يقتصر على : السلام عليكم ، طلبا للاختصار ، أم يستحب زيادة : ورحمة الله ؟ فيه وجهان لأصحابنا ، أصحهما الثاني . ولا يكفي : السلام عليك على الراجح ، ولا يجب به الخروج على الأصح .

[ ص: 617 ] وفي الجهر به قولان للمالكية ، وعند أبي يوسف : يتوسط بينهما .

ويرفع عندنا اليد في كل تكبيرة ، وللمالكية أقوال ، ثالثها الشاذ : لا يرفع في الجميع . وذهب الكوفيون ، والثوري إلى الرفع في الأولى فقط ، وحكاه في "المصنف " عن النخعي ، والحسن بن صالح ، وحكى ابن المنذر الإجماع على الرفع في أول تكبيرة ، وروي مثل قولنا عن ابن عمر ، وسالم ، وعطاء ، والنخعي ، ومكحول ، والزهري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وفي الترمذي -غريبا- عن أبي هريرة مرفوعا : إذا صلى على جنازة رفع يديه في أول تكبيرة زاد الدارقطني : "ثم لا يعود " ، وعن ابن عباس عنده مثله بسند فيه الحجاج بن نصير وغيره .

[ ص: 618 ] وحكى صاحب "المبسوط " من الحنفية أن ابن عمر ، وعليا قالا : لا يرفع اليد فيها إلا عند تكبيرة الإحرام . وحكاه ابن حزم عن ابن مسعود وابن عمر ، ثم قال : لم يأت بالرفع فيما عدا الأولى نص ولا إجماع .

وفي "المستدرك " صحيحا عن عبد الله بن أبي أوفى أنه سلم عن يمينه وشماله ، فلما انصرف قال : لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ، أو هكذا يصنع وقال أحمد -فيما حكاه الخلال : وقيل له : أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم تسليمتين على الجنازة ؟ - قال : لا ، ولكن يروى عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفية عن يمينهم ، فذكر ابن عمر ، وابن عباس ، وابن أبي أوفى ، وأبا هريرة ، وواثلة ، وزيد بن ثابت . وفي "المصنف " عن جابر بن زيد ، والشعبي ، والنخعي أنهم كانوا يسلمون تسليمتين . قال مالك في "المجموعة " : ليس عليهم رد السلام على الإمام . وروى عنه ابن غانم قال : يرد على الإمام من يسمع سلامه .

[ ص: 619 ] وأما قوله : (وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرا ) . فقد سلف أنه إجماع إلا من شذ .

وقوله : (ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه ) .

أخرجه ابن أبي شيبة ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن أنيس (د . ت ، ثقة ) بن أبي يحيى ، عن أبيه (عو ) أن جنازة وضعت فقام ابن عمر قائما ، فقال : أين ولي هذه الجنازة ، ليصل عليها قبل أن يطلع قرن الشمس . وحدثنا وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون قال : كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس وحين تغرب .

وحدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي بكر -يعني : ابن حفص- قال : كان ابن عمر إذا كانت الجنازة على العصر قال : عجلوا بها قبل أن تطفل الشمس . ثم أخرج عنه أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة .

وكره أكثر العلماء -فيما حكاه عنهم ابن بطال - الصلاة على الجنائز في غير مواقيت الصلاة .

روي ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلي عليها بعد العصر ، وبعد الصبح إذا (صلاهما ) لوقتيهما . وروى ابن وهب ، عن ابن [ ص: 620 ] عباس ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب مثله ، وهو قول في "المدونة " ، قال : لا بأس بالصلاة عليها بعد العصر حتى تصفر الشمس ، وبعد الصبح ما لم يسفر . ونحوه قول الأوزاعي ، والثوري ، والكوفيين ، وأحمد ، وإسحاق ، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع والغروب والزوال ، وخالفهم الشافعي فأباحها كل وقت ، وهو قول ابن مصعب من المالكية إلا أن يتحرى ذلك ، وهو بما خص من النهي .

ووقع في ابن الحاجب ما يوهم أن المنع لـ "الموطأ " في الجنازة -والذي فيه : إنما هو في سجود التلاوة ، فاعلمه- واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر في مسلم : ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا : عند الطلوع حتى تبيض ، وعند انتصاف النهار حتى تزول ، وعند الاصفرار حتى تغيب .

وحمله المخالف على ما إذا قصد التحري . قال الشافعي : أخبرنا الثقة من أهل المدينة بإسناد لا أحفظه أنه صلى على عقيل بن أبي طالب والشمس مصفرة قبل المغيب قليلا ولم ينتظروا به المغيب .

[ ص: 621 ] فرع :

(لو ) أخرها حتى غربت ، فروى ابن القاسم وابن وهب يبدأ بالمغرب ، وقيل : هو واسع أن يبدأ بأيهما شاء ، وبالمغرب أصوب . وأما رفع اليدين فقد سلف بيانه .

وأما قول الحسن : (أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم ) . فإن أهل العلم اختلفوا فيمن أحق بالصلاة عليها : الولي أو الوالي ؟ فقال أكثر أهل العلم : الوالي أحق من الولي . روي عن علقمة ، والأسود والحسن ، وجماعة ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي في القديم ، وأحمد ، وإسحاق ، إلا أن مالكا قال في الوالي والقاضي : إن كانت الصلاة إليهم ، فهم أحق من الولي . وقال مطرف ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ : ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاض ، أو صاحب شرطة ، أو خليفة الوالي الأكبر ، وإنما ذلك إلى الوالي الأكبر الذي تؤدى إليه الطاعة .

وعبارة ابن الحاجب : وإذا اجتمع الولي والوالي ، فالولي الأصل ، لا الفرع أولى ، فإن كان صاحب الخطة فقولان لابن القاسم وغيره أن الولي أولى إلا أن يكون صاحب الصلاة هو القاضي ، وقال أبو يوسف ،

[ ص: 622 ] والشافعي في الجديد : الولي أحق من الوالي ، لوفور شفقته . قال تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [الأحزاب : 6] .

وحجة الأول : خوف الافتيات ، وروى الثوري عن أبي حازم قال : شهدت الحسين بن علي قدم سعيد بن العاصي يوم مات الحسن بن علي ، وقال له : تقدم فلولا السنة ما قدمتك ، وسعيد يومئذ أمير المدينة .

قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب أعلى من هذا ; لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من الصحابة والمهاجرين والأنصار ، فلم ينكر ذلك منهم أحد ، فدل أنه كان عندهم الصواب ، وحكى ابن أبي شيبة عن النخعي ، وأبي بردة ، وابن أبي ليلى ، وطلحة ، وزبيد ، وسويد بن غفلة : تقديم إمام الحي . وعن أبي الشعثاء ، وسالم ، والقاسم ، وطاوس ، ومجاهد ، وعطاء أنهم كانوا يقدمون الإمام على الجنازة .

وقوله : (فإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم . . ) إلى آخره ، واختلف في صلاة الجنازة إذا خشي فوتها بالتيمم ، قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا يتيمم . وأجازه عطاء ، وسالم ، والنخعي ، والزهري ، وربيعة ، والليث ، ويحيى بن سعيد ، وعكرمة ، وسعد بن إبراهيم ، والثوري وأبو حنيفة [ ص: 623 ] والأوزاعي وابن وهب صاحب مالك ، ورواية عن أحمد ، وقال ابن حبيب : الأمر فيه واسع . حجة من أجاز خوف فوتها ، والاهتمام بها حجة المانع لغيرها . ونقل ابن التين عن ابن وهب أنه يتيمم إذا خرج طاهرا فأحدث ، وإن خرج معها على غير طهارة لم يتيمم . وما نقلنا عن عطاء تبعنا فيه ابن المنذر ، والذي رواه ابن أبي شيبة عنه أنه لا يتيمم .

وأما قوله : (يدخل معهم بتكبيرة ) . هذا رواية أشهب عن مالك في "العتبية " أنه يكبر ويشرع في الدعاء ، وروى عنه ابن القاسم في "المدونة " : ينتظر حتى يكبر أخرى فيكبر معه ، وعبر ابن الحاجب عن ذلك بقوله . وفي دخول المسبوق بين التكبيرتين أو انتظار التكبير قولان : فإذا أتم ما أدرك من صلاته ، قضى ما فاته ، خلافا للحسن . وإذا قلنا : يقضي ، قضى الباقي بالتكبيرات ، وفي قول : تباعا . والخلاف عند المالكية أيضا ، قال ابن القاسم في "المدونة " : يكبر تباعا . وقال القاضي عبد الوهاب عن مالك : يدعو بين التكبيرتين إن لم يخف رفع الجنازة . ويحتمل أن يكون ذلك وفاقا لابن القاسم .

[ ص: 624 ] وقوله : (يدخل معهم بتكبيرة ) . لا يبعد أن يعطف على قول الحسن السالف ، فإن ابن أبي شيبة رواه عن معاذ ، عن أشعث ، عن الحسن في الرجل ينتهي إلى الجنازة وهم يصلون عليها . قال : يدخل معهم بتكبيرة .

ثم روى عن أبي أسامة ، عن هشام ، عن محمد قال : يكبر ما أدرك ، ويقضي ما سبقه . وقال الحسن : يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه . كما أسلفناه عنه .

قال ابن العربي في "مسالكه " : روى ابن القاسم عن مالك أن الرجل يكبر بتكبير الإمام ، فإذا سلم الإمام قضى ما عليه عملا بقوله : "فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا " . قال : والإجماع من العلماء بالعراق والحجاز على قضاء التكبير دون الدعاء ، وصوبه فأغرب .

وقوله : (وفيها صفوف وإمام ) . كأن البخاري قصد رد قول مالك ، فإن ابن العربي نقل عنه في "مسالكه " أنه استحب أن يكون المصلون على الجنازة شطرا واحدا ، ثم قال : ولا أعلم له وجها ; لأنه كلما كثرت الصفوف كان أفضل ، وكذلك صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر صلاته عليها ، ثم ساق حديث مالك بن هبيرة السالف .

[ ص: 625 ] وفي "شرح الهداية " : إذا اجتمعت جنائز جاز أن يصلى عليهم صلاة واحدة ، يجعلون واحدا خلف واحد ، ويلي الإمام الرجال ، ومن كان أفضل فهو أولى أو يستوي فيه الحر والعبد ، ويقدم الصبي الحر على العبد ، ثم الخناثى ثم النساء ثم الصبيان . ولو جعلت الجنائز صفا واحدا على الطول جاز .

وقيل : يوضع شبه الدرج رأس الثاني عند صدر الأول ، وإن شاءوا جعلوها واحدا بعد واحد . وإن شاءوا صفا واحدا ، وإن كان القوم سبعة قاموا ثلاثة صفوف خلفه ثلاثة ثم اثنان ثم واحد قلت : والأولى عندي : اثنان ثم اثنان ثم اثنان ; لكراهية الانفراد .

وأما كون التكبير أربعا فقد سلف ، وحديث الشعبي سلف أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية