التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1296 [ ص: 125 ] 82 - باب: موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله يخرجون من الأجداث [المعارج: 43] القبور. بعثرت [الانفطار: 4] أثيرت. بعثرت حوضي: جعلت أسفله أعلاه، الإيفاض: الإسراع. وقرأ الأعمش: إلى نصب [المعارج: 43] إلى شيء منصوب يستبقون إليه، والنصب واحد، والنصب مصدر يوم الخروج [ق: 42] من القبور. ينسلون [يس: 51] يخرجون .

1362 - حدثنا عثمان قال: حدثني جرير عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: " ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة". فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة"، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى [الليل: 5] الآية. [4145، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552 - مسلم: 2674 - فتح: 3 \ 225]


ذكر فيه حديث علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار .. الحديث [ ص: 126 ] الشرح:

ما ذكره في الأجداث، هو ما قال، قال ابن سيده : الجدث: القبر. والجمع: أجداث، وقد قالوا: جدف بالفاء بدل من الثاء، إلا أنهم قد أجمعوا في الجمع على أجداث، ولم يقولوا: أجداف ، زاد في "المخصص" قال الفارسي: اشتقاقه من التجديف وهو كفر النعم .

وقال ابن جني: الجمع: أجدث، ولا يكسر بالفاء. قال: وأجدف: موضع، وقد نفى سيبويه أن يكون أفعل من أبنية الواحد، فيجب أن يعد هذا مما فاته، إلا أن يكون جمع الجدث الذي هو القبر على أجدث، ثم سمي به الموضع. ويروى بالفاء. وفي "الصحاح": الجمع: أجدث وأجداث . وفي "المجاز" لأبي عبيدة: بالثاء لغة أهل العالية، وأهل نجد يقولون: جدف بالفاء .

وما ذكره في؟ بعثرت؟ فهو أيضا كذلك .

قال أبو عبيدة في "المجاز": بعثرت حوضي أي: هدمته .

وقال الفراء: بعثرت وبحثرت لغتان إذا استخرجت الشيء وكشفته . وفي "الصحاح" عن أبي عبيدة: بعثر ما في القبور [العاديات: 9]: أثير وأخرج .

[ ص: 127 ] وعن ابن عباس فيما ذكره الطبري: بعثرت: بحثت . وقال ابن سيده : بعثر المتاع والتراب: قلبه، وبعثر الشيء: فرقه. وزعم يعقوب أن عينها بدل من عين بغثر، أو غين بغثر بدل منها، وبعثر الخبز: بحثه .

وما ذكره في الإيفاض: أنه الإسراع، فهو كما قال.

قال أبو عبيدة في "مجازه": النصب: العلم الذي نصبوه، ومن قال: (إلى نصب)، فهو جماعة مثل رهن ورهن . قال ابن قتيبة في "غريبه": أنكر أبو حاتم هذا على أبي عبيدة. وقال: يقال للشيء تنصبه نصب ونصب ونصب.

وفي "المعاني" للزجاج : قرئ نصب ونصب، فمن قرأ بالإسكان فمعناه: كأنهم إلى علم منصوب لهم، ومن قرأ بضم الصاد فمعناه: إلى أصنام لهم. وفي "المعاني" للفراء: قرأ الأعمش وعاصم: (إلى نصب)، بفتح النون يريدان إلى شيء منصوب. وقرأ زيد بن ثابت: (نصب) بضم النون، وكان النصب الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وكل صواب، والنصب واحد وهو مصدر، والجمع: الأنصاب .

وفي "المنتهى" و"الواعي": النصب والنصب النصب بمعنى. وقيل: النصب: حجر ينصب فيعبد ويصب عليه ماء الذبائح. وقيل: هو العلم ينصب للقوم أي علم كان، وقال ابن سيده : النصب جمع نصيبة، [ ص: 128 ] كسفينة وسفن، وقيل: النصب: الغاية، وحكاه عبد في "تفسيره" عن مجاهد وأبي العالية ، وضعفه ابن سيده، قال: والنصب جمع، واحدها: نصاب، وجائز أن يكون واحدا .

وقال الجوهري : النصب بالضم، وقد يحرك . وعند ابن التين: قرأ أبو العالية والحسن بضم النون والصاد.

وقال الحسن فيما حكاه عبد في "تفسيره": كانوا يهتدون إذا طلعت الشمس بنصبهم سراعا أيهم يستلمها أولا، لا يلوي أولهم على آخرهم.

وفي "المحكم": وفضت الإبل: أسرعت، وناقة ميفاض: مسرعة، وكذلك النعامة، وأوفضها واستوفضها: طردها، واستوفضها: استعجلها، وجاء على وفض ووفص . وقال الفراء: الإيفاض: السرعة والزمع .

وما ذكره في ينسلون ذكره عبد بن حميد، عن قتادة . وقال أبو عبيدة:؟ ينسلون؟: يسرعون، والذئب ينسل ويعسل ، وفسره ابن عباس بالخروج بسرعة .

وفي "المجمل": النسلان: مشية الذئب إذا أعنق وأسرع .

[ ص: 129 ] وقال ابن سيده : أصله للذئب، ثم استعمل في غير ذلك.

وحديث علي أخرجه مسلم والأربعة ، ويأتي في القدر أيضا .

والكلام عليه من أوجه:

أحدها: البقيع -بفتح أوله- من الأرض موضع فيه أروم شجر بين ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد بالمدينة .

والغرقد: عربي، شجر له شوك يشبه العوسج . وفي الحديث في ذكر الدجال: "كل شيء يواري يهوديا ينطق إلا الغرقد، فإنه من شجرهم فلا ينطق" كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازما للموضع.

وعن "الجامع": سمي بذلك لاختلاف ألوان شجره. وقال أبو عبيد البكري، عن الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن فيه عثمان بن مظعون، فسمي بقيع الغرقد . لهذا قال ابن سيده : وربما قيل له: الغرقد . أي: بغير ذكر البقيع.

[ ص: 130 ] وقال ياقوت: وبالمدينة أيضا بقيع الزبير، وبقيع الخيل: عند دار زيد بن ثابت، وبقيع الخبجبة ، ونقيع الخضمات بالنون وقيل بالباء .

ثانيها: المخصرة قال ابن سيده : هو شيء يأخذه الرجل ليتوكأ عليه، مثل العصا ونحوها، وهو أيضا ما بيد الملك يشير به إذا خطب، واختصر الرجل: أمسك المخصرة . وجزم ابن بطال بأنها العصا . وقال ابن التين: عصا أو قضيب. والنكت: قرعك الأرض بعود أو أصبع يؤثر فيه. ونكس: أمال، ويكون ذلك عند الخضوع والتفكر. ويقال: نكس بالتخفيف والتشديد.

ثالثها: في أحكامه:

فيه جواز الجلوس عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ، ونكته - صلى الله عليه وسلم - بالمخصرة في الأرض: هو أصل تحريك الأصبع في التشهد، قاله المهلب. ومعنى النكت بالمخصرة. هو إشارة إلى المعاني وتفصيل الكلام، وإحضار القلوب للفصول والمعاني. وهذا الحديث أصل لأهل السنة، في أن السعادة والشقاء خلق لله تعالى، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق الله تعالى.

وفيه رد على أهل الجبر بأن المجبر لا يأتي الشيء إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما استكرهوا عليه" . والتيسير: هو أن يأتي الإنسان الشيء وهو يحبه، [ ص: 131 ] وسيكون لنا عودة إلى ذلك في كتاب القدر إن شاء الله ذلك وقدره.

وفيه: تنكيس الرءوس في الجنائز، وظهور الخشوع والتفكر في أمر الآخرة، كان الناس إذا حضروا جنازة يلقى أحدهم حميمه فلا ينشط إليه ولا يقبل عليه إلا بالسلام حتى يرى أنه واجد عليه; لما يشغلون أنفسهم من ذكر الموت وما بعده، وكانوا لا يضحكون هناك، ورأى بعضهم رجلا يضحك فآلى أن لا يكلمه أبدا، وكان يبقى أثر ذلك عليهم ثلاثة أيام، لشدة ما أشعروا أنفسهم، وحضر الحسن والفرزدق جنازة فقال الحسن للفرزدق: ماذا أعددت لهذا المقام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فقال الحسن: خذها من غير رام، ثم قال له: ما يقول الناس يا أبا فراس؟ فقال: يقولون: حضر اليوم خير الناس وشر الناس يعني: الحسن ونفسه. فقال له: ما أنت بشرهم، ولا أنا بخيرهم، فلما توفي الفرزدق رآه رجل في المنام فقال له رجل: ما فعلت؟ قال: نفعتني كلمتي مع الحسن .

وقول الرجل: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) فيه مطالبة بأمر مضمونه تعطيل العبودية، وذلك أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - بسبق الكتاب بالسعادة والشقاء، إخبار عن علم الغيب فيهم، وهو حجة عليهم، فراموا أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل والاتكال على سابق الكتاب.

فأعلم أن ها هنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن: هو العلة الموجبة في أمر الربوبية. وظاهر: هو السمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالعة أمر العواقب غير مفيدة حقيقة العلم [ ص: 132 ] به، ويشبه أن يكونوا إنما عوملوا به وتعبدوا هذا النوع من التعبد; ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم والخوف والرجاء مروحتا العبودية فيستكملون بذلك صفة الإيمان، وبين أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، ولذلك تمثل بالآية، وهذا الظاهر من أحوال العباد، ووراء ذلك علم الله فيهم، وهو الحكيم الذي لا يسأل عما يفعل.

قال أبو سليمان: فإذا طلبت لهذا الشأن نظيرا من العلم يجمع لك هذين المعنيين، فاطلبه في باب أمر الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب والأجل المضروب في العمر مع التعالج بالطب، فإنك تجد الغيب عنهما علة موجبة، والظاهر البادي سببا مخيلا، وقد اصطلح الخاص والعام على أن الظاهر منهما لا يترك للباطن، وهذا القدر منه يكفي الفهم الموفق .

قال الداودي : قد كتب الله أفعال العباد وما يصيرون إليه قبل خلقهم، فالعباد غير خارجين من العلم ولا ممنوعين من العمل.

قلت: فلا يقال إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزلي والقدر الإلهي فلا فائدة إلى التكليف، فإن هذا أعظم شبهة للنافين للقدر، وقد أجابهم الشارع بما لا يبقى معه إشكال، ووجه الانفصال أن الرب تعالى أمرنا بالعمل، فلا بد من امتثاله، وغيب عنا المقادير; لقيام حجته وزجره ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته فسبيله التوقيف. فمن عدل عنه ضل وتاه; لأن القدر سر من أسراره لا يطلع عليه إلا هو، فإذا دخلوا الجنة كشف لهم.

[ ص: 133 ] واختلف هل يعلم في الدنيا الشقي من السعيد مثل: من اشتهر له لسان صدق؟ فقال قوم: نعم. محتجين بهذه الآية الكريمة والحديث; لأن كل عمل أمارة على جزائه، وقال قوم: لا. والحق أنه يدرك ظنا لا جزما .

التالي السابق


الخدمات العلمية