التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1362 [ ص: 315 ] 1429 - حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ح.

وحدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: " اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة". [ مسلم: 1033 - فتح: 3 \ 294]


ذكر فيه أحاديث ثلاثة، وسردها ابن بطال حديثا واحدا من حديث أبي هريرة :

أحدها: حديث أبي هريرة : "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول".

ثانيها: حديث حكيم بن حزام: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى .. " الحديث.

وعن وهيب، حدثنا هشام، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعا مثله.

ثالثها: حديث ابن عمر: "اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة ".

الشرح:

هذه الترجمة بلفظها مروية أخرجها الواحدي بإسناده إلى أبي صالح، عن أبي هريرة، وذكره ابن بطال في حديث عطاء عن أبي هريرة أيضا . ولأبي داود: "إن خير الصدقة ما ترك غنى أو تصدق به عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول" .

[ ص: 316 ] وحديث: "من أخذ أموال الناس .. " إلى آخره سيأتي مسندا بعد إن شاء الله .

وقوله: (فالدين أحق أن يقضى من الصدقة) لعله يريد حديث: "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ " قالت: بلى. وسيأتي وهو إجماع.

وقوله: (والعتق) لعله يريد حديث نعيم النحام من عنده أيضا في بيعه - صلى الله عليه وسلم - العبد المعتق عن دبر الذي لم يكن لسيده مال غيره ، وقيل: إن عليه دينا.

وقوله: (إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه) إنما يرجع هذا الاستثناء إلى الصدقة لا إلى الدين كما سيأتي .

ومن علم من نفسه الصبر على الضر والإضاقة والإيثار فمباح له أن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الصديق والأنصار بالمهاجرين. وإن عرف أنه لا طاقة له ولا صبر فإمساكه أفضل; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك" وقوله: "ابدأ بمن تعول"، وحديث البخاري في [ ص: 317 ] قصة الضيف الذي آثره صاحب البيت على نفسه وولده ، ظاهر فيما نحن فيه.

وعند الواحدي: نزلت في رجل أهديت له رأس شاة فآثر غيره بها فدارت على سبعة أبيات . والخصاصة: الإملاق، وأصله الخلل والفرج، يقال: بدا القمر من خصاصة الغيم. وسيكون لنا عودة إليه في التفسير.

وقوله: (كفعل أبي بكر حين تصدق بماله كله) أخرجه أبو داود، وصححه الترمذي والحاكم على شرط مسلم .

وقوله: (وكذلك آثر الأنصار المهاجرين) ذكره ابن إسحاق وغيره: أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار آثروهم حتى قال بعضهم لعبد الرحمن بن عوف: أنزل لك عن إحدى امرأتي .

وقوله: (ونهى عن إضاعة المال) كأنه يشير إلى حديث المغيرة بن شعبة المذكور عنده في الصلاة .

وقوله: (وقال كعب بن مالك ..) إلى آخره. يأتي في موضعه مسندا .

[ ص: 318 ] وحديث أبي هريرة الأول من أفراده إلا قوله: "وابدأ بمن تعول".

وحديث حكيم أخرجه مسلم أيضا بدون "ومن يستعفف .. " إلى آخره.

ولفظ مسلم: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى" وما زاده البخاري أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد ، وكذا البخاري أيضا . وحديث أبي هريرة الذي لم يذكر لفظه من أفراده. وقوله فيه: عن وهيب. ثم ساقه، قال أبو مسعود، وخلف، وأبو نعيم أن البخاري رواه عن موسى بن إسماعيل عنه، كما أخرج حديث حكيم، ورواه الإسماعيلي من حديث حبان عنه، ثنا هشام، عن أبي هريرة مثل حديث حكيم وأخرجه الترمذي من حديث بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة : "اليد العليا" إلى قوله: "تعول" ثم قال: حسن غريب، يستغرب من حديث بيان عن قيس . ولابن أبي شيبة: "وخير الصدقة ما أبقت غنى" .

وحديث ابن عمر أخرجه مسلم أيضا . قال أبو العباس أحمد بن طاهر الداني: تفسير العليا فيه، والسفلى مدرج في الحديث، وهو مرفوع وإن ظن لبعض الرواة. والمنفقة: المعطية. وفي رواية: "العليا [ ص: 319 ] المتعففة" ، أي: المنقبضة عن الأخذ. والأول أصح. وفي "الصحابة" للعسكري، عن عاصم الأحول، عن الحسن البصري قال: معنى الحديث: يد المعطي خير من اليد المانعة. وقال أبو داود: أكثرهم "اليد العليا المتعففة" أي: لأنها علت يده إذ سفلت يد السائل.

وفي "صحيح ابن خزيمة"، والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- من حديث مالك بن نضلة مرفوعا: "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها. ويد السائل السفلى. وأعط الفضل، ولا تعجز عن نفسك" .

إذا تقرر ذلك فقوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" معناه: أن صاحبها يبقى بعدها مستغنيا بما بقي معه لمصالحه. وإنما كانت هذه أفضل ممن تصدق بالجميع، ولم يصبر; لأنه قد يندم. وقال الداودي: معناه: أن يستغني من تلزمه نفقته. وقال ابن التين: ما كان عفوا قد فضل عن الحاجة. والمراد: أن يبقي لعياله قدر الكفاية. ودليله قوله: "وابدأ بمن تعول". وقيل معناه: أن تغني المتصدق عليه. ومعناه: إجزال العطاء. قال: والأول أصح. وفيه دلالة على أن النفقة [ ص: 320 ] على الأهل أفضل من الصدقة; لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة. وقال ابن بطال: معناه لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله; لأن الابتداء بالفرض أهم. وليس لأحد إتلاف نفسه وأهله بإحياء غيره. إنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه وأهله، إذ حقهما أوجب من حق سائر الناس، ولذلك قال: "وابدأ بمن تعول" وقال لكعب: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك" .

فإن قلت: هذا المعنى يعارض فعل الصديق السالف، حيث تصدق بماله كله وأمضاه الشارع. قلت: اختلف العلماء في ذلك أعني من تصدق بماله كله في صحته. فقالت طائفة: ذلك جائز احتجاجا بذلك. وهو قول مالك، والكوفيين، والجمهور . ونقله ابن بطال ، وابن التين عن الشافعي، والصحيح من مذهبه استحباب ذلك لمن قوي على الضر والإضاقة دون غيره .

وقال آخرون: لا يجوز شيء منه، روي ذلك عن عمر وأنه رد على غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فرد عمر ذلك كله . وقال آخرون: الجائز من ذلك الثلث، وترد الثلثان احتجاجا بحديث كعب بن مالك السالف في غزوة تبوك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - رد صدقته إلى الثلث. وهو قول الأوزاعي ومكحول. وقال آخرون: كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف، روي ذلك عن مكحول. قال [ ص: 321 ] الطبري : والصواب في ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله في صحته جائزة; لإجازته صدقة الصديق بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، ويستعمل في ذلك أدب الرب لنبيه بقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية [الإسراء: 29] وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الشارع لكعب بن مالك، وأبي لبابة وأما إجازته للصديق فهو إعلام بالجواز من غير ذم، وما فعل مع كعب وأبي لبابة إعلام بالاستحباب. والدليل على ذلك إجماع الجميع أن لكل مالك مال إنفاق جميعه في حاجاته، فكذا فيما هو قربة وأولى. فإن قلت: كيف نعمل بقوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم [الحشر: 9] وقوله: ويطعمون الطعام على حبه [الإنسان: 8] وبحديث أبي ذر: "أفضل الصدقة جهد من مقل" . وبحديث الباب. قلت: لا معارضة بينهما فإن المعنى في حديث الباب حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية كالأكل، وستر العورة، وشبهها، فهذا ونحوه بما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق به بل يحرم، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكان صدقته هي الأفضل; لأجل ما يحمله من مضض الحاجة، وشدة المشقة.

وقوله: "واليد العليا خير من اليد السفلى".

فيه: الندب إلى التعفف عن المسألة، والحض على معالي الأمور وترك دنيئها. والله تعالى يحب معالي الأمور.

[ ص: 322 ] وفيه: حض على الصدقة أيضا; لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطي مفضل على المعطى، والمفضل خير من المفضل عليه. ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - أن المفضل في الدنيا خير اليدين. وإنما أراد في الإفضال والإعطاء. قال الخطابي: توهم كثير من الناس أن العليا من علو الشيء فوق الشيء، وليس ذلك عندي بالوجه، إنما هو على المجد والكرم. يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها . ورد عليه ابن الجوزي فقال: لا يمتنع أن يحمل على ما أنكره; لأنها إذا حملت العليا على المتعففة لم يكن للمنفق ذكر، وقد صحت لفظة: المنفقة، وكان المراد أن هذه اليد التي علت وقت العطاء على يد السائل هي العالية في باب الفضل.

وزعم قوم: أن العليا هي الآخذة، والسفلى هي المعطية. وهؤلاء قوم استطابوا السؤال فجنحوا إلى الدناءة. والناس إنما يعلون بالمعروف والعطايا.

وقال ابن العربي: إذا قلنا: إن العليا: المعطي; فلأنها نائبة عن الله إذ هو خازنه ووكيله في الإعطاء، فأخذها منه كأنه أخذها من الله تعالى.

وقد قيل: إن العليا: يد السائل ; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل" والتحقيق فيه أن الله تعالى عبر بالعليا عن يده المعطية إذ هو بأمره، وعبر عن يد السائل بالسفلى; لأنه الذي يقبل الصدقات. وكلتاهما يد الله، وكلتاهما يمين وعليا. فلذلك كان الأقوى أن تكون يد المعطي العليا. ويبقى في السفلى على ظاهره; لأنها [ ص: 323 ] تتقبلها، فكانت كالذي تؤخذ بالكف، وتقع في يد السائل فيقضي بها حاجته، ويسد فاقته.

قال ابن التين: ويدل على أن المراد بالسفلى السائلة أن عمر قال: يا رسول الله، ألست أخبرتنا أن خيرا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عن مسألة، فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق رزقه الله تعالى" ، وقال: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه" .

فتحصلنا على أقوال:

أصحها: العليا: المنفقة، والسفلى: السائلة، كما هو مصرح به في الحديث كما سلف.

ثانيها: أن العليا: المتعففة، وجعله ابن التين الأشبه.

ثالثها: أن العليا: المعطية، والسفلى: المانعة، قاله الحسن.

رابعها: أن العليا: الآخذة، وقد سلف ما فيه.

وفي مراسيل سعيد وعروة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى" قال حكيم: ومنك يا رسول الله؟ قال: "ومني" قال: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا. فلم يقبل عطاء ولا ديوانا حتى مات. فلو كانت اليد المعطية لكان حكيم قد توهم أن يدا خير من [ ص: 324 ] يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله: ومنك؟ يريد أن المتعفف عن مسألتك! كهو من مسألة غيرك؟ فقال: "نعم" فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد.

فائدة: في النفقة آداب: فرائض وسنن خمس. فمن الأول: الزكوات، والكفارات، والنذور، والنفقات الواجبات للآباء، والأبناء، والزوجات، والرقيق. ومن الثاني: الأضاحي عند من لم يوجبها، وصدقة الفطر عند من جعلها سنة، وغير ذلك. والتطوع كله آداب. وكل معروف صدقة.

فرع:

ينعطف على ما سبق أول الباب تقدم الدين العتق أو الصدقة رد لأجله عند المالكية. فإن كانا دينين: أحدهما قبلهما، والآخر بعدهما. رد من الدين بقدر الأول بلا خلاف. فإن فضلت فضلة من الصدقة أو من العبد المعتق. فقال ابن القاسم : يمضي نفقته للموهوب، ويمضي من العتق بما فيه، ويدخل صاحب الدين الآخر على الأول، فيخاصمه فيما رد، يأخذ كل واحد بقدر دينه، وقال أشهب: إذا أخذ من يد صاحب الدين الأول شيء فرجع واستكمله من بقية الصدقة والمعتق حتى تنفد الصدقة والعتق، أو يستوفيا جميعا الدينين. وهذه المسألة يعبرون عنها بمسألة الدور كما قال ابن التين.

فرع:

قد تقدم تفسير السفلى، وأنها السائلة ليست المعطاة بغير مسألة. وقد تأوله حكيم على عمومه. قال مالك : كان ببلدنا من أهل الفضل والعبادة يردون العطية يعطونها. قيل له: فالحديث: "ما أتاك من غير مسألة" [ ص: 325 ] أفيه رخصة؟ قال: نعم. وليس كل سائلة تكون المسئولة خيرا منها، إنما هو أن يسأل وبه غنى، أو يظهر من الفقر فوق ما به. وقد استطعم موسى والخضر أهل القرية عند الضرورة. وقال - صلى الله عليه وسلم - في لحم بريرة: "هو عليها صدقة ولنا هدية" .

التالي السابق


الخدمات العلمية