التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1419 1490 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لا تشتر ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه". [2623، 2636، 2970، 3003 - مسلم: 1620 - فتح: 3 \ 253]


ثم ذكر فيه حديث ابن عمر عن عمر أنه تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأمره، فقال: "لا تعد في صدقتك" . فبذلك كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة.

وحديث عمر: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، [ ص: 569 ] فقال: "لا تشتر ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه".

الشرح:

الحديثان أخرجهما مسلم أيضا ، وفي بعض طرق البخاري عن ابن عمر أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحمل عليها فحمل عليها رجلا، الحديث .

وفي رواية له: "وإن أعطاكه بدرهم واحد" وسيأتي حديث عمر في الجهاد في باب: إذا حمل على فرس في سبيل الله فرآها تباع وفي الأوقاف وفي الهبات إن شاء الله .

قال الدارقطني : والأشبه بالصواب قول من قال: عن ابن عمر أن عمر وفي رواية لابن عبد البر: "لا تشتره ولا شيئا من نتاجه" .

قال ابن عيينة: حضرت مالكا يسأل زيد بن أسلم عن هذا الحديث، ويتلطفه مالك ويسأله عن الكلمة بعد الكلمة. قال ابن التين: ورواه مالك عن عمرو بن دينار، عن ثابت، عن الأحنف، عن ابن عمر، ولم يدخله في "موطئه". قال قتادة : والقيء حرام.

[ ص: 570 ] إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

كره أكثر العلماء -كما حكاه عنهم ابن بطال- شراء الرجل صدقته لحديث الباب، وهو قول مالك والليث والكوفيين والشافعي ، وسواء عندهم صدقة الفرض والتطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، وأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر في كفارة اليمين مثل الصدقة سواء.

قال ابن المنذر: ورخص في شرائها الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعي، وقال قوم فيما حكاه ابن القصار : لا يجوز لأحد أن يشتري صدقته ويفسخ البيع، ولم يذكر قائل ذلك ويشبه -كما قال ابن بطال- أن يكونوا أهل الظاهر .

وحكاه ابن التين عن ابن شعبان من المالكية. وخرجه من الخلاف في المدبر أو غيره في زكاته عرضا; لأنه يجزئه عند ابن القاسم، ويجزئه عند أشهب إذا لم يحاب نفسه ما صنع .

وحجة من لم ير الفسخ أن الصدقة راجعة إليه بمعنى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على الشارع إلى الهدية المباحة له، وقد قال - عليه السلام - في الحديث السالف فيما مضى: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة" وذكر منهم الرجل اشتراها بماله ، ولم يفرق بين أن يكون المشتري لها صاحبها أو غيره.

[ ص: 571 ] وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنها حلال له ، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، قال: "وجب أجرك وردها عليك الميراث" .

قال ابن التين: وشذت فرقة من أهل الظاهر فكرهت أخذها بالميراث. ورأوه من باب الرجوع في الصدقة وهو سهو; لأنها تدخل قهرا، وإنما كره شراؤها لئلا يحابيه المتصدق بها عليه فيصير عائدا في بعض صدقته; لأن العادة: التي تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها وقد أخبر الشارع في لحم بريرة أنها إذا كانت الجهة التي يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهي في حديث عمر في الفرس محمول على وجه التنزيه لا التحريم لها; لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله: إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب.

وقال الطبري : معنى: حديث عمر في النهي عن شراء صدقة التطوع خاصة; لأنه لا صدقة في الخيل، فيقال: إن الفرس الذي تصدق به عمر كان من الواجب، وصح أنه لم يكن حبسا; لأنه لو كان حبسا لم يكن ليباع فعلم أنه كان بما تطوع به عمر، قال غيره: ولا يكون الحبس إلا أن [ ص: 572 ] ينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى الغزو دفعه إليه مع نفقته على أن يغزو به، ويصرفه إليه، فيكون موقوفا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله في سبيل الله وملكه الذي دفعه إليه فهذا يجوز بيعه.

قال الطبري : والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد ، ويرد إن كان أخذ أفضل من الذي له دراهم أو غنما، وهذا لا شك أخذ عوض، وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذلك قال جماعة من العلماء. وكان عمر لا يكره أن يشتري الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، رواه الحسن عنه وقال به هو وابن سيرين ، فأما إن كان رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث أو هبة من المتصدق عليه، فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدا; لحديث بريرة.

قال ابن التين: وليس ذلك عند مالك بالحرام البين; لأن الحديث إنما جاء في صدقة التطوع، قال في "الموطإ" : ترك شرائها أحب إلي، وهو ما في "المدونة" أيضا، والذي فعل ابن عمر من ترك شراء ما [ ص: 573 ] تصدق به إلا أن يشتريه; ليجعله صدقة، وكان ابن عمر لا ينتفع من شيء تصدق به وركب مرة راحلة كان حبسها، وفيما نقل عن الداودي رهنها فصرع عنها فرأى ذلك عقوبة لركوبه إياها، فإن أراد البخاري صدقة التطوع فلائح، وإن أراد الفرض فهو يروي عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ائتوني (بخميص) ، أو لبيس مكان الذرة والحب وقد سلف.

وقوله: (لا بأس أن يشتري صدقة غيره) صحيح يوضحه حديث بريرة: "هو لها صدقة ولنا هدية" فإذا كان هذا بغير عوض فالعوض أجوز.

ثانيها:

معنى (حملت عليها في سبيل الله) أي: دفعته إلى من هو مواظب على الجهاد في سبيل الله على وجه التحبيس له، ويحتمل هبته وتمليكه للجهاد، فعلى هذا له بيعه ويتصرف فيه بما أراد بخلاف الأول; لأنه موقوف في ذلك الوجه فلا يزيله مع السلامة، وهذا مثل الحديث السالف: "إن خالدا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" .

ومعنى إضاعته له: إما عدم حسن القيام عليه، ويبعد مثل هذا على الصحابة إلا أن يوجبه عذر، أو في استعماله فيما حبس له فصيره ضائعا من الهزال المفرط مباشرة الجهاد وإبقائه له في سبيل الله، فإن كان حبسا فيحتمل أن عمر ظن أنه يجوز له هذا ويباح له شراء الحبس، غير أن منعه من شرائه وتعليله بالرجوع دليل على أنه لم يكن حبسا، إلا أن يكون هذا [ ص: 574 ] الضياع قد بلغ به إلى عدم الانتفاع فيما حبس له، فيجوز بيعه عند من يراه ويحتمل أنه لما وهبه إياه على ما سلف وأراد شراءه لضياعه.

فرع:

ضياع الخيل الموقوفة إذا رجي صلاحها والنفع بها في الجهاد كالضعف المرجو برؤه منع ابن الماجشون بيعه، واختاره ابن القاسم ويوضع ثمنه في ذلك الوجه.

ثالثها:

قال ابن عبد البر: في إجازة تحبيس الخيل: وإن من حمل على فرس وغزا به فله أن يفعل فيه ما يشاء في سائر أمواله. قال ابن عمر: إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به. وقال ابن المسيب : إذا بلغ رأس مغزاته فهو له. قال: ويحتمل أن يكون هذا الفرس ضاع حتى عجز عن اللحاق بالخيل، وضعف عن ذلك، فأجيز له بيعه لذلك، ومن أهل العلم من يقول: يضع ثمنه ذلك في فرس عتيق أي فاره إن وجده وإلا أعان به في مثل ذلك، ومنهم من يقول: إنه كسائر أمواله إذا غزا عليه .

رابعها:

قوله: ("فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه") وفي رواية أخرى: "كالكلب يعود في قيئه" يريد أنه من القبح في الكراهة بمنزلة العائد في أكل ما قاءه، بعد أن تغير من حال الطعام إلى القيء، وكذلك هذا لما أخرج صدقته فلا يرتجعها بعدما تغيرت وتغير ما في ماله من الفساد فيه، [ ص: 575 ] فإن ذلك من أفعال الكلب وأخلاقه التي ينفرد بها، فإذا تصدق على أجنبي فلا رجوع له كالفرض; لهذا الحديث.

قال مالك : لا يركبه وإن كان أمرا قريبا، وذكر ركوب ابن عمر ناقة وهبها، وقال القاضي أبو محمد: لا بأس أن يركب الفرس الذي جعله في سبيل الله، ويشتري من ألبان الغنم اليسير.

حجة مالك أنه من الرجوع في الصدقة، ووجه الآخر أن اليسير معفو عنه، فإن أعطى على غير وجه الصدقة ففي "الموازية" فيمن حمل على فرس لا للمسكنة ولا للسبيل، قال مالك : لا بأس أن يشتريه ولو تصدق (بمنفعة) أو غلة، فقال محمد: لم يختلف مالك وأصحابه في إجازة شراء ذلك للمتصدق إلا عند الملك، واحتج بهذا الحديث، ووجه قول مالك أنه - عليه السلام - أرخص لصاحب العرية أن يشتريها وهي صدقته، وعندنا للأب والجد أن يرجع فيما وهبه لولد، وعند المالكية ما قصد به المودة والمحبة، فلا رجوع إلا للأبوين.

وفي إلحاق الجد والجدة بهما روايتان، وما قصد به التقرب إلى الله من صلة رحم أو لفقير أو ليتيم أو نحوه، فلا رجوع فيه لأحد; لأنه صدقة، ولا ينبغي أن يتملكها بوجه إلا بميراث، ولا يأكل من ثمرها ولا يركبها، وفي "الموازية": من تصدق على ابنه الفقير في حجره بجارية فيبيعها من نفسه له أن يشتريها بخلاف الأجنبي.

وقال مالك : من تصدق على ابنه بغنم لا بأس أن يأكل من لحمها و (يشرب) من لبنها ويكتسي من صوفها، وإن كان حائطا أكل من [ ص: 576 ] ثمرته، وعنه لا يكتسي ولا يشرب.

وفي "الموازية " عن مالك : إنما ذلك في الابن الكبير دون الصغير.

وقال ابن القاسم : في الصغير، ولو تصدق على غاز بدراهم ثم ترافقا فأخرج المتصدق عليه منها جاز ذلك عند مالك لقصة بريرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية