التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
1422 1493 - حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشتريها، فإنما الولاء لمن أعتق". قالت: وأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحم، فقلت: هذا ما تصدق به على بريرة. فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية". [انظر: 456 - مسلم: 1075، 1504 - فتح: 3 \ 355]


ذكر فيه حديث ابن عباس قال: وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلا انتفعتم بجلدها؟ ". قالوا: إنها ميتة. قال: "إنما حرم أكلها".

وحديث عائشة : أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "اشتريها، فإنما الولاء لمن أعتق". قالت: وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلحم، فقلت: هذا مما تصدق به على بريرة. فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية".

الشرح:

أما حديث عائشة : فسلف في أحكام المساجد ، ويأتي قريبا .

[ ص: 579 ] وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم بلفظ: تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ ". فقالوا: إنما هي ميتة. فقال: "إنما حرم أكلها" . وفي لفظ له: "هلا انتفعتم بجلدها؟ " ، وفي أخرى: "ألا انتفعتم بإهابها؟ " وفي أخرى عن ابن عباس : أن ميمونة ... يعني بهذا: الحديث، وفي رواية للبخاري: "ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها" ولم يقل في شيء من طرقه: فدبغتموه. وفي بعض طرقه (بعير) مكان: (شاة).

وذكر في الأيمان والنذور في باب: إن حلف لا يشرب نبيذا فشرب الطلاء أو سكرا أو عصيرا: عن ابن عباس عن سودة أم المؤمنين قالت: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم مازلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا. وهو من أفراده .

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" عن ابن عباس قال: ماتت لنا شاة لسودة أم المؤمنين- فأتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "ألا انتفعتم بمسكها؟ "، فقالت: يا رسول الله، مسك ميتة! فقال: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " [الأنعام: 145] الآية، "إنكم لستم تأكلونها".

فبعث بها فسلخت، قال ابن عباس : فجعلوا مسكها قربة ثم رأيته بعد شنة.


[ ص: 580 ] ولأحمد فقال: "إنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به" ، وللحاكم في "تاريخ نيسابور": مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة ميتة لأم سلمة أو لسودة .. الحديث. وللدارقطني: كان أعطاها مولى لميمونة .

قال ابن عبد البر: رواه غير واحد بإسقاط ابن عباس، والصحيح اتصاله وكان ابن عيينة يقول مرارا كذلك، ومرارا: عن ابن عباس عن ميمونة بزيادة: "دباغ إهابها طهورها" واتفق معمر ومالك ويونس على قوله: "إنما حرم أكلها" إلا أن معمرا قال: "لحمها" ولم يذكر واحد منهم الدباغ، وكان ابن عيينة يقول: لم أسمع أحدا يقول: "إنما حرم أكلها" إلا الزهري، واتفق عقيل وجماعات على ذكر الدباغ فيه عن الزهري; وكان ابن عيينة مرة يذكره، ومرة لا يذكره، قال محمد بن يحيى النيسابوري: لست أعتمد في هذا الحديث على ابن عيينة لاضطرابه فيه .

وأما ذكر الدباغ فلا يؤخذ إلا عن يحيى بن أيوب، عن عقيل، ومن رواية بقية عن الزبيدي، ويحيى وبقية ليسا بالقويين، ولم يذكر مالك ولا يونس الدباغ، وهو الصحيح في حديث الزهري وبه كان يفتي وأما من غير رواية الزهري فصحيح محفوظ عن ابن عباس .

وأما حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر أن "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" فحسنه الترمذي مع اضطرابه، وصححه ابن حبان ، ومنهم من ادعى نسخه، وضعفه [ ص: 581 ] يحيى وقال ابن عبد البر: لم يثبت .

وقال النسائي: أصح ما في الباب في جلود الميتة حديث ابن عباس .

وقال الدوري: قلت ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين؟ قال: "دباغها طهورها" أعجب إلي.

وحكى الحازمي بإسناده إلى إسحاق بن راهويه أنه ناظر الشافعي وأحمد بن حنبل حاضر في جلود الميتة، فقال الشافعي : دباغها طهورها. فقال له إسحاق: ما الدليل؟ قال: حديث ابن عباس، قال إسحاق: حديث ابن عكيم: كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر أن "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"، فهذا أشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة، فقال الشافعي : هذا كتاب وذاك سماع. فقال إسحاق: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصر وكانت حجة بينهم عند الله، فسكت الشافعي، فلما سمع ذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي .

وقوله: (أعطيتها مولاة) هو بالرفع.

إذا تقرر ذلك: فاتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخلن في آله الذين تحرم عليهم الصدقة، ومواليهن أحرى بالصدقة، على ما ثبت في شاة ميمونة ولحم بريرة وإنما اختلف العلماء في موالي بني هاشم، وقد سلف ما فيه في باب: أخذ صدقة التمر فراجعه ، [ ص: 582 ] وما نقلناه من الاتفاق هو ما ذكره ابن بطال ، لكن في "مصنف ابن أبي شيبة"، حدثنا وكيع، عن شريك، عن ابن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاصي أرسل إلى عائشة شيئا من الصدقة فردته، وقالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة .

واعلم أن أكثر أهل العلم -فيما حكاه الحازمي- على جواز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ- منهم الأئمة الثلاثة، ومن الصحابة عبد الله بن مسعود وإلى المنع ذهب عمر وابنه عبد الله وعائشة وادعى ابن شاهين أن هذه الأحاديث لا يمكن ادعاء نسخ شيء منها بالآخر، والمنع على ما قبل الدباغ، والإباحة على ما بعده .

وقد قال الخليل: لا يقع على الجلد اسم الإهاب إلا قبل الدباغ فأما بعده فلا يسمى إهابا بل أديما وجلدا وجرابا، وكذا في "المنتهى": الإهاب: الجلد قبل أن يدبغ، وفي "المحكم": الإهاب: الجلد .

قال أبو عمر: ومعلوم أن المقصود بالحديث ما لم يكن طاهرا; لأن الطاهر لا يحتاج إلى دباغ فبطل قول من قال: إنه لا ينتفع به بعد الدباغ، وكذا قول من قال: إن جلد الميتة ينتفع به وإن لم يدبغ، وهو قول مروي عن الزهري والليث، وهو مشهور عنهما وروي عنهما خلافه، وهو من أفراد الزهري وانفرد هو والليث بجواز بيعه قبل الدباغ، وعن مالك ما يشبهه، وظاهر مذهبه خلافه .

[ ص: 583 ] قلت: ومعنى الحديث عند كافة الفقهاء: هلا انتفعتم بجلدها بعد الدباغ.

ومجموع ما في دباغ جلود الميتة وطهارتها سبعة أقوال:

أحدها: أنه تطهر به جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والفرع ظاهرا وباطنا ويستعمل في اليابس والمائع وسواء مأكول اللحم وغيره، وبه قال علي وابن مسعود، وهو مذهب الشافعي .

ثانيها: لا يطهر منها شيء به، روي عن جماعة سلف ذكرهم، وهي أشهر الروايتين عن أحمد ورواية عن مالك .

ثالثها: يطهر به جلد مأكول اللحم دون غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق .

رابعها: تطهر جميعها إلا الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة .

خامسها: يطهر الجميع، إلا أنه يطهر ظاهره فقط دون باطنه، ويستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه لا فيه، وهو مشهور مذهب مالك فيما حكاه أصحابه عنه .

سادسها: يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف .

سابعها: أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات، وهو وجه شاذ لبعض أصحابنا.

ومحل بسط المسألة كتب الخلاف وسيكون لنا عودة إلى المسألة في [ ص: 584 ] أواخر الصيد والذبائح حيث ذكرها البخاري هناك .

واحتج بعض المالكية بحديث بريرة على أن التصرف في البيع الفاسد يفسده وهو مذهب مالك، وقال الشافعي : لا تأثير للقبض فيه بملك ولا شبهة ملك، وقال سحنون في الحرام البين (...) عندهم العيوب والقبض والنماء المنفصل والمتصل. وقال أبو حنيفة مثله إلا أنه قال: يرد مع النماء وإذا وطئ غرم الأرش، واحتج بعض المالكية بحديث بريرة على أن عائشة اشترتها شراء فاسدا فأنفذ الشارع عتقها، ومعلوم أن شرط الولاء لغير المعتق يوجب فساد العقد، ثم أنفذ الشارع العقد واستدل به أصحاب أبي حنيفة على أنها ملكت بالقبض ملكا تاما، وهو بعيد; لأنه - عليه السلام - في هذا الحديث وغيره أمر عائشة بالشراء ولم يكن ليأمر بفاسد، وأجاب بعضهم بأنها خصت بذلك كما خص غيرها بخصائص، وهو بعيد; لأن ذلك لو وقع لنقل، وعد ابن التين من ذلك: تخصيص البراء بن عازب تختم الذهب، وطلحة والزبير بجواز لبس الحرير لحكة كانت بهما ، وحسان بن ثابت بجواز إنشاد الشعر في المسجد ، وكله غريب.

وزيادة: "اشتريها واشترطي لهم الولاء" ما رواها إلا هشام بن عروة ساء حفظه، وادعى ابن القطان أنه خلط في آخر عمره، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، فهو أمس به.

التالي السابق


الخدمات العلمية